منذ أن امتهنت الصحافة، لم أعد قادرًا على تحديد موعد عودتي إلى منزلي بدقة، أحيانًا أبقى فيه لأيام دون مغادرة، وأحيانًا أخرى كنت أجول الأماكن البعيدة دون أن أتذكر حتى أين وضعت مفتاح شقتي. طبعًا هذا أمر مزعج لعشاق الروتين، ولكنه ممتع بالنسبة لي على رغم أنه شغل مضنٍ. لست في موقف المعارضة لحزب الروتين فهم على الأقل يشعرون بالأمان ويريحهم الإيقاع المتكرر، أما أنا فشخص تافه وأعاني هذه الأيام من الأرق والتوتر وشبه فقدان لشهية الأكل.
نقص وزني إذًا، خاصة أنني انقطعت عن تمارين الرياضة منذ مدة، عائدًا إلى التدخين بشراهة بعد أن قررت في فترة سابقة الانقطاع عنه لأسباب أتحرج من ذكرها، وأصبحت أسمح لنفسي الأكل في كل الأوقات خاصة في تلك الساعات الصغيرة من الليل الموغل في الوحدة والضوء الضئيل بجانب سريري والمنبلج من زجاجة فودكا أصبحت "فايوزة" كهربائية جميلة أتبرك بها كلما ألمت بي الكآبة لأنها هدية من صديقة أحبها جدًا.
بما أصابها الجوع لأنها لا تحبذ تلك الخلطة الصفراء الباهتة من العجين التي تقدمها الأمم المتحدة
هذه الأيام، وهو الإطار الزمني لهذا النص الذي أكتبه، اعتدت أن أكون عصبيًا وحساسًا أكثر من اللازم، أتأثر بأي نظرة وأجيب عن كل الاستفزازات مقررًا حمل العالم وهمومه فوق كتفي الصغيرة المخشّبة. وحينما كنت ـ في أحد تلك الأيام ـ أتطلع إلى ما يحدث في العالم عبر فايسبوك، ككل تلك المليارات التي تتطلع مثلي، اعترضني مشهد يحوي من الثقل ما يمكن أن يختزل "قحط أنطولوجيا العالم" في ذلك الثغر المفتوح الباكي لطفلة لا أعتقد أنها فارقت عقدها الأول من حياتها، والجالسة بكبرياء الجوعى والمسحوقين فوق ميزان إلكتروني سخيف كالذي يستعمله البقال أو بائع الخضار أو حانوت الحنطة في أسواقنا "العربية" التقليدية.
إلى حدود هذه اللحظة أنا هادئ، ودليل هدوئي هو الأسطر التي تقرؤونها الآن مفعمة بتوصيفات لأحداث ومشاعر قد يعيشها أي إنسان فينا في هذه الأيام. لكن شيئًا ما نخر فؤادي المضطرب فاستحال هدوئي إلى ضجيج وتسللت الكهرباء إلى نهاياتي العصبية لأصاب بصداع خاص يلمّ برأسي الصغيرة كلما غضبت. هذا الشيء الذي نخرني ووخزني دون لطف أو سلاسة هو أنني أتناول طعامي المفضل، مقرونة حارة، دون أن أفطن إلى أن صورة هذه البنت التي في سطح هذه المقالة تقبع أمامي مالئة شاشة هاتفي الجوال (حقير لكن لونه وردي)، وكانت تنظر إليّ وهي تبكي، بينما كنت أتناول طعامي المفضل.
سرى برد خفيف في أضلعي، لم أتمكن معه من مواصل الأكل، شهيتي كانت بدورها ضعيفة ولم أكن متحمسًا للأكل بطبعي. مسكت بهاتفي وأردت تغيير المشهد بأن أضع مثلاً أغنية للسيدة وردة، فأنا أحب أغنيتها "بودعك". لكن فكرة ما ـ تشبه التحدي ـ راودتني بخبث واختلطت بغضبي وتأففي الشديد فأنتجت أن قررت مواصلة غصب معدتي على تقبل أكلي بينما أتأمل بتلذذ سادي صورة تلك الفتاة البائسة وهي فوق ميزان لا يقل عنها بؤسًا وقد أشار إلى أن وزنها بالكاد يفوق الخمسة كيلوغرامات. فأسندت هاتفي على علبة سجائري وحدقت فيها...
ما هذا العالم يا أمّاه؟
كنت متأكدًا أنها فتاة يمنية أصابها الجوع جراء هروب أهلها من الحرب، وبحثهم الطويل عن ملجأ فلم يجدوه. ربما أصابها الجوع لأنها لا تحبذ تلك الخلطة الصفراء الباهتة من العجين التي تقدمها الأمم المتحدة، وربما استحال جسمها لأنها مريضة، أو لأنها لم تجد أصلًا ما تأكله طيلة أسابيع كي تبكي بتلك الطريقة، أو لعلها ابتسامة.
نعم هي ابتسامة بالفعل، توازي ابتسامة الموناليزا الخالدة والتي تفصلنا عنها جبال من القرون والعلوم والفنون والجمال. بساديّتي النادرة كنت ألتهم صحن المقرونة وقد أصابتني حرقة في عيني وأنفي بسبب أنها شديدة الحرورة. كنت أنظر إلى الابتسامة التي ترونها الآن في الصورة وقد عرق كامل جسمي وأفرزت عيناي بعض الدموع.
نسي ليوناردو دافينشي أن يرسم نقيض الموناليزا كي نتوقف عند تأمل جمالها عبر المقارنة بين هذه الابتسامة العجيبة الخالدة وربما يرسم وجهًا عبوسًا باكيًا يأخذ شكل الخلود ذاته. لكنني أرى الآن في هذه البنت مرآة الموناليزا، وربما لولا هذه الصورة الفوتوغرافية لما عادت فكرة فتاة فلورنسا (الموناليزا) إلى ذاكرتي وأنا أحاول مسك أنفي على السيلان من قوة حرورة أكلي. لكن عينيّ أدمعتا، وسالت دموعي تحت وطأة البهارات والفلفل أو هذا الدمار الخالد الذي يجثم أمامي.. لا أعرف.
كنت متأكدًا أنها فتاة يمنية أصابها الجوع جراء هروب أهلها من الحرب، وبحثهم الطويل عن ملجأ فلم يجدوه.
لكنني أرى الآن في هذه البنت مرآة الموناليزا، وربما لولا هذه الصورة الفوتوغرافية لما عادت فكرة فتاة فلورنسا (الموناليزا) إلى ذاكرتي وأنا أحاول مسك أنفي على السيلان من قوة حرورة أكلي.
كان صحنًا لذيذًا بمقاييس التونسيين العاشقين للأكل الحار... كان منظرًا لذيذًا يدمع الأعين بالأكل تحت ضجيج القصف الذي تسمعه من بين ثنايا جلد هذه الفتاة فوق الميزان
أضلعها توحي بأنها تكونت في بطن أمها بشكل سليم، لكن الحياة حولت جسمها ذاك إلى لوحة نحت مفصلة لتلك الأضلع، أو أن الله يحضرها ليعيد لها كرامتها بأن يقتطع منها ضلعًا لإعادة خلق آدم مرة أخرى: دون هرمون الحرب والنرجسية والجشع.
هي لا تصرخ في الحقيقة، كانت تعير جسدها إلى العالم كي تقول إحدى الحقائق التي تخفى عن أناس مثلي: أنت تتناول طعامًا شهيًا وأنا أقترب من حافة الموت جوعًا.
كانت تبكي لأنها اعتقدت أن دموعي التي تخرج مني هي تعبير عن تضامن معها، لكنني أريد أن أطمئنها أن دموعي تلك لم تكن سوى تعبير عن تخمة في أكل صحني المفضل من المقرونة التونسية الحارة.
كان صحنًا لذيذًا بمقاييس التونسيين العاشقين للأكل الحار... كان منظرًا لذيذًا يدمع الأعين بالأكل تحت ضجيج القصف الذي تسمعه من بين ثنايا جلد هذه الفتاة فوق الميزان.. أضلعها توحي بأنها تكونت في بطن أمها بشكل سليم، لكن الحياة حولت جسمها ذاك إلى لوحة نحت مفصلة لتلك الأضلع، أو أن الله يحضرها ليعيد لها كرامتها بأن يقتطع منها ضلعًا لإعادة خلق آدم مرة أخرى: دون هرمون الحرب والنرجسية والجشع.
هذه الفتاة تنظر إلينا باكية كي لا ترانا. ربما صرخت للمصور الذي شغله هول ما يراه، أو لأن أحد الفضوليين قد أزعجها بنظرات اندهاش بلهاء من شكل جسمها الذي يعاني طبيعة الجوع القاسية. أنا ساديّ جدًا، وها أنا أراها أمّا ولاّدة تجلس بارتياح الموتى كاتمة ضحكتها وهي تغتبط سعادة في داخلها. وعلى رغم هذه الصورة الحلوة إلا أن مفعول البهارات الحارة لا يزال متوغلًا في حنجرتي ولساني فاستفاضت عيناي بالدموع، لو كان أحدٌ بجانبي لسألني لماذا أبكي بهذا القدر! لم يكن بكاءً صدقوني كان صحن المقرونة حارّا جدًا، حتّى أن دموعي إذا تساقطت على الصحن كان منسوب الملح يزيد باطراد من فرط ما جادت به عيناي من دموع مالحة.
هذه الفتاة تنظر إلينا باكية كي لا ترانا.
تجلس فتاة الميزان على مؤخرتها وبشعر رث غث متسخ وغير مسرح.. تمامًا كالموضة التي يتبعها بعض الشباب اليوم. هي لا تصرخ في الحقيقة، كانت تعير جسدها إلى العالم كي تقول إحدى الحقائق التي تخفى عن أناس مثلي: أنت تتناول طعامًا شهيًا وأنا أقترب من حافة الموت جوعًا.. هكذا وبكل بساطة. كانت تبكي لأنها لا تريد الانتحار بمزيد تجويع نفسها حتى الموت، بل إن بكاءها كان فقط للتعبير عن انزعاجها من برودة ميزان الألمنيوم الذي يلامس جسمها العاري. صدقوني هي الآن تحتفل بأمسية شواء لذيذة مع أبويها في حديقة منزلهم المطل على جبل من جبال صعدة أو الحديدة أو صنعاء، وكلها جبال صخرية ساحرة.
كانت تبكي لأنها اعتقدت أن دموعي التي تخرج مني هي تعبير عن تضامن معها، لكنني أريد أن أطمئنها أن دموعي تلك لم تكن سوى تعبير عن تخمة في أكل صحني المفضل من المقرونة التونسية الحارة. وربما أيضًا هي تبكي لأنني أكتب رسالتي هذه التي لعلها النداء الأخير إلى هذا العالم.. كي يكون هناك عالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 19 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت