بعد وجبة الطائرة الإيرانية المتّجهة من طهران إلى بيروت، والتي غالبًا ما تتضمن الأرز واللحم أو الدجاج (المكوّنات الرئيسية للمطبخ الإيراني)، أو حتى إن كنتَ قادمًا من مكانٍ آخر لا علاقة له بالأكل في لبنان أو الأكل الشامي عمومًا، تهبط بعد بضع ساعات في بيروت، لتجد نفسَك على مدينة هي مائدة من المأكولات المتنوعة والشهيّة.
أتذكر أن أول ما جلب انتباهي في بيروت في زيارتي الأولى لها قبل ست سنوات كان الفرق بينها وبين طهران في نوعية الأكلات السريعة.
حين تجوع وأنت في الشارع في طهران، وتريد فطيرةً تمسكها بيدك وأنت سائر، فلا طريق ولا خيار أمامك سوى أن تتّجه إلى أحد محالّ بيع السندويتش والتي تجدها في كلّ شارع، لتشتري سندويشةً عادةً ما تكون محشوة باللحم البقري أو الدجاج، وغالبًا ما يكون هذا اللحم من النوع الصّناعي بمسمّياته المختلفة كالمرتديلا، والسوسيس، والجامبون.
وهناك من المحالّ من يتفضّل فيه ليحمّر لك قطعة حقيقية من الدجاج لكي ترضي طبيبَ نفسِك بأنك تاكل شيئًا صحيًّا.
يعشق اللبنانيون الأكل، والأهم من ذلك يعشقون أكلهم؛ فرغم الانبهار والانجرار المتزايد نحو الغرب في بيروت، من اللغة حتى الأغاني التي تسمعها في المطاعم والمقاهي وطريقة اللبس، إلا أنهم مازالوا يفضلون المطبخ اللبناني على المطابخ الأخرى
في بيروت، يختلف الأمر تمامًا. وأنت تجوع في شوارع هذه المدينة عليك أن تحلم أو كما يقال في الفارسية "تدهن بطنك بالصّابون" من أجل شيء اسمه المنقوشة؛ المنقوشة بأنواعها العديدة من الزعتر حتى الكشك والجبنة واللبنة، تنتظرك في شوارع بيروت القصيرة.
ولا داع لشرح ما هي المنقوشة فقد أصبحت أحد المعالم اللبنانية على مستوى العالم. (الآن، وأنا أكتب المقال يتحدّث زملائي عن منقوشة الكوكتيل وهي المكوّنة من الزعتر والجبنة بالمناصفة، وهي المفضّلة لدي؛ فما العمل، وكيف يمكن للشخص ألّا يسمن في لبنان؟!)
يعشق اللبنانيون الأكل، والأهم من ذلك يعشقون أكلهم؛ فرغم الانبهار والانجرار المتزايد نحو الغرب في بيروت، من اللغة حتى الأغاني التي تسمعها في المطاعم والمقاهي وطريقة اللبس، إلا أنهم مازالوا يفضلون المطبخ اللبناني على المطابخ الأخرى، ورغم انفتاح بيروت على الثقافة الغربية والثقافات الأخرى، مازال الهوى في مجال الطعام يبقى هوى لبنانيًّا؛ فما زالت المطاعم التي تقدّم الأكل اللبناني هي الأكثر في بيروت، ثم هناك بعض المطاعم الإيطالية واليابانية والمكسيكية وغيرها من المطابخ الأجنبية.
أتذكر مقال صديقي الكاتب سالار عبدُه، والذي ترجمتُه منذ فترة إلى العربية: "الجوع"؛ يبدأ سالارُ مقاله بعبارة غريبة هي: "المدينة جوع"، ويستذكر أيامه الأولى في أمريكا عند مراهقته، واصفًا منظر الأمريكيين آكلين الهامبرغر، وكأنهم سيختنقون من الأكل بعد قليل.
هنا في بيروت، يمكنك أن ترى أن المدينة هي أكل، والأكل مدينة؛ أكلٌ أكثر جمالًا وبهجة من الأكل في أمريكا طبعًا، وكيف لا، والطعام هنا جميل منذ بدايته التي هي مكونات هذه المنطقة المذهلة من الأرض، الزعتر والزيتون، وثم تأتي البركات الأخرى التي تعرفونها!
أما الجماليات الأخرى في الأكل في لبنان فتتطلب مقالًا آخر قد يأتي في المستقبل. ولكن الآن فقد اتّجه المقال نحو المنقوشة، ولا حلّ؛ كما لو أنك سائر على استعجال في شارع الحمرا فتشعر بالجوع؛ وتدخل زقاقًا ما، قاصدًا فرنًا تعرفه ومنقوشة زعتر ساخنة.
يقول الكاتب والفيلسوف السويسري آلان دو بوتون في مقال عن الطعام، إن لكلّ طعام، سوى فوائده الغذائية والصحية، بعدًا سايكولوجيًّا؛ "فنتوقّع من المأكولات ونحن نأكلها، أن نحصل على خاصيّات لها على مستوى أبعد." ويشير في مقاله إلى بعض الميزات التي تتمتع بها بعض المأكولات كاللّيمون، والبندق، والأفوكادو، والتّين، والعسل. فيذكر أن الليمون مثلًا صادقٌ وودود، ولا علاقة له بالسنتمنتالية؛ والعسل يمنح شعورًا من المتعة الممزوجة بالبساطة، وهكذا دواليك.
والآن، وبالنظر إلى مقال دو بوتون هذا، ما هي الخصوصيات التي قد نتوقّعها من المنقوشة؟ (والحديث هنا عن المنقوشة في أصلها، أي بالزعتر وزيت الزيتون). يقول زملائي: إنها تمنحنا الشعور بالدفء، والعودة إلى أيام الطفولة والمدرسة، وبيت الجدّة. الدفء. إنها بالفعل أكلة دافئة، حتى إن لم تأكلها ساخنة، وحتى إن بردتْ قليلًا. دافئة، كما المعنى المراد بكلمة "cozy" في الإنكليزية، والمستخدمة عادة للأمكنة.
منقوشة الزعتر بيتٌ لبنانيّ قديم. من تلك البيوت التي أعشقها، ولا أشبع من النظر إليها في بيروت. بشبابيكَ خشبيةٍ خضراء، وشرفة مطلّة على الشارع تزيّنها نبتة المجنونة بألوانها. وللبيت بلاطٌ إيطاليّ قديم، فيه ألوان من الأحمر والأصفر المائل للبنّي، وكثير من الأثاث رغم أن البيت تسكنه امرأة لوحدها وفي الثلاثينيات من العمر، إلا أنها مهووسة بأثاث البيت والأواني
منقوشة الزعتر بيتٌ لبنانيّ قديم. من تلك البيوت التي أعشقها، ولا أشبع من النظر إليها في بيروت. بشبابيكَ خشبيةٍ خضراء، وشرفة مطلّة على الشارع تزيّنها نبتة المجنونة بألوانها؛ قد لا تكون ألوانها كلّها موجودة، إلا أن الأبيض والأحمر موجودان. للبيت بلاطٌ إيطاليّ قديم، فيه ألوان من الأحمر والأصفر المائل للبنّي، وكثير من الأثاث رغم أن البيت تسكنه امرأة لوحدها وفي الثلاثينيات من العمر، إلا أنها مهووسة بأثاث البيت والأواني.
وفي مثل هذه الأيام من الخريف، تعود مساء كلّ يوم إليه بلهفة وشوق، حاملة في بعض الأيام أزهارًا من الزيزفون والمنثور البنفسجي، مستذكرة كلّ مرة قول ابن البدري عنه بلذّة: "ومن محاسن الشام المنثور"؛ أو تكون قد اشترت خضارًا ومحاصيل خريفية تعشق الطبخ بها، كالسّفرجل واليقطين، فتدخل البيت، تضع الأزهار في الآنية بعناية وتأمل/تضع السفرجل فوق الطاولة، وتشعل الموسيقى. أصوات مطربيها وآلات عازفيها المفضّلين تصدح في البيت، وهي تفكّر في سطور لمحمود درويش: "وها أنا ذا أستطيع الحياة إلى آخر الشّهر/ أبذل جهدي لأكتب ما يقنع القلب بالنّبضِ عندي/ وما يقنع الروحَ بالعيش بعدي".
تحبّ محمود درويش كثيرًا، لكنّ لها الآن هوسًا بقراءة شاعرٍ آخر؛ مستلقيةً على سجادة في ركنٍ من صالة البيت، تفتح مجموعة شعرية قد جلبتْها من بلد بعيد لأوكتافيو باث، فهي تحبّه جدًّا؛ وهكذا تفسح الطريق للمساء يمرّ بمعطفه الدافئ من شارع الخريف.
١. عنوان المقال مستلهم من عنوان كتاب للكاتب المذكور في المقال آلان دو بوتون: "كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...