تشكّل قضية قتل جمال خاشقجي ميداناً خصباً لدراسة كيفية عمل أجهزة الاستخبارات على بناء سيناريوهات روايات أمنية تحقق أغراضاً معيّنة، من خلال كشفها ما لا يُمكن إخفاؤه وإخفائها ما يكون طمسه ممكناً، تحقيقاً لـ"صفقة" ما.
البحث عن قصة صالحة للتسويق لم يعد سهلاً في عالم يشهد سرعة هائلة في انتشار المعلومات ومشاركة المواطنين في تداول الأخبار والتعليق عليها والخروج باستنتاجات منها.
لم تعُد العلاقة بين راوٍ يقدّم رواية رسمية "متكاملة" ومتلقٍّ يتلقاها فيصدقها أو يرفضها، في عملية تفاعلية واحدة وبسيطة. العلاقة صارت متدرّجة ومنقسمة إلى مراحل تزيد وتنقص بحسب القضية وأهميتها، وتشارك فيها أطراف كثيرة بعضها يعلم أنه يشارك وبعضها لا يعلم.
صار البحث عن تصديق "الجماهير" للسيناريوهات الأمنية، وهو ما يعكس حاجة الأنظمة السياسية إلى الدعم الشعبي، يتطلّب من منظومة "صناعة" السيناريوهات أن تلحظ فكرة التفاعل مع هذه "الجماهير" قبل كتابة السيناريو.
المحرّكات السياسية للسيناريوهات
لا يتأسس سيناريو الروايات الأمنية على معايير جمالية. لسنا بصدد إنتاج فيلم. هنا الميدان هو ميدان العلاقات الدولية والمصالح المتشابكة والتصادم أو التقارب بين مشاريع سياسية مختلفة. في قضية قتل جمال خاشقجي، كان المثالي بالنسبة للنظام السعودي أن يستطيع نفي تورط مسؤولين فيه في الجريمة، وهو طبعاً ما فشل فيه، ما اضطره إلى الدخول في ميكانيزم إنتاج رواية أخرى، بدأ مع إعلان النائب العام السعودي أن خاشقجي قُتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. أما بالنسبة إلى النظام التركي، فإن الموضوع متحرّك أكثر. المثالي قد يتّخذ عدة أشكال. الضروري والذي لا يمكن المساومة عليه هو عدم كسر هيبته وعدم تصويره بصورة الضعيف غير القادر على حماية معارضين لأنظمة بلادهم يلجأون إلى الأراضي التركية، لأن جزءاً أساسياً من سياسة تركيا الخارجية وخططها لنشر نفوذها في "الفضاء العثماني القديم" قائم على استقبال هؤلاء المعارضين. عدا ذلك، يمكن للرواية الأمنية "النهائية" أن تتضمّن عناصر مختلفة، وهذا أمر يحدده سياق تفاعل الجمهور وحكومات العالم مع القضية، ومدى قدرة أنقرة على خوض مواجهات مفتوحة ضد أنظمة قوية في المرحلة الحالية. ماذا يعني ذلك؟ يمكن لأنقرة أن تذهب باتجاه رفض كل رواية لا تحمّل المسؤولية عن مقتل خاشقجي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان. في هذه الحالة، ستدخل في مقامرة. ستزيد من حدة الأزمة الإقليمية بين المحور الذي تتزعمه الرياض وبين المحور الذي تتزعمه هي ويضم قطر وأحزاب الإخوان المسلمين. لو اختارت هذا السيناريو قد تُمنى بعدة خسائر. ستخسر لو بقي ابن سلمان في منصبه وصار قريباً ملك السعودية، خاصةً أن القرار النهائي حول ذلك يصدر من واشنطن لا من أنقرة، أي أنها لا تتحكم بكل خيوط اللعبة. ستكون قد اشترت لنفسها "عدواً أبدياً" يعمل على إفشال مخططاتها. أما لو اختارت سيناريو آخر لا تطال تبعاته ابن سلمان، فإنها ستكسب حليفاً، أو على الأقل ستكسب خصماً "خجولاً"، لأن محددات العلاقة المستقبلية بينهما ستتضمّن دائماً حقيقة أنه الطرف الأضعف، تماماً كما العلاقة بين أي جهاز استخبارات يمتلك تسجيلاً مضراً بأحد معارضيه وبين هذا المعارض. وأيضاً ستكسب تنازلات في ملفات حيوية بالنسبة إليها مثل الأزمة الخليجية والهجمة ضد الإخوان المسلمين، عدا المنافع الاقتصادية... منذ البداية، لم تضع أنقرة نفسها في ركن يقيّد تحرّكاتها اللاحقة. عملت بتأنٍّ على أن تكون قادرة على المناورة، بحسب التطورات، وفق أي سيناريو يحقق مصلحتها. سرّبت "المصادر التركية" معلومات كثيرة بالتدريج، ووفّرت مادة صحافية يومية لصحف العالم كي تتحوّل قضية قتل خاشقجي إلى قضية عالمية، ما يحقق لأنقرة موقع المفاوض القوي، لا بل المتحكم الأساسي بمسار الأمور. ولكن المسؤولين الأتراك الرسميين لم يقولوا سوى معلومات قليلة: خاشقجي قُتل داخل القنصلية؛ قُتل عمداً ووفق خطة معدة سلفاً. كل ما عدا ذلك من قصص عن تفاصيل وتسجيلات وأمور أخرى لا يلزمهم. يبقى هنا الطرف الثالث والأساسي في عملية الموافقة على السيناريو وهو واشنطن. أية تسوية تركية-سعودية حول "السيناريو النهائي" لجريمة قتل خاشقجي تتطلّب عدم رفض الولايات المتحدة للنص. القرار ليس بيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الراغب في عدم خلط أوراق علاقته الجيدة بمحمد بن سلمان، فبعضها بيد السناتورات المؤثرين ولكن هؤلاء لا يمكنهم التصعيد إذا حُجبت عنهم بعض عناصر القصة الحقيقية، لأن مخالفة الإدارة تتطلب معلومات، ومصدر المعلومات هو إما الرياض أو أنقرة.أين الجمهور؟
الجمهور حاضر في قلب العلاقات المعقّدة بين الأطراف الثلاثة الأساسية، السعودية وتركيا والولايات المتحدة. بالنسبة إلى ترامب، هو يريد سيناريو يضمن له: ولاء شريحة من الأمريكيين الذين يؤيدونه لأنه وعدهم بفرص عمل وجزء من سياساته ذات الصلة ترتبط بالصفقات التجارية التي عقدتها وستعقدها إدارته مع الرياض وباستثمارات الأخيرة في بلاده، وعدم التعرّي أمام شريحة تهتم بـ"الأخلاق" وبـ"القيم" وستواجهه لو ثبت لها أنه يتستّر على بعض تفاصيل جريمة هزّت الرأي العام العالمي. أما أردوغان، فهو يريد البقاء في موقع "الزعيم القوي" القادر ليس فقط على حماية شعبه بل أيضاً على حماية مؤيديه في دول فضاء السلطنة العثمانية القديم، وهو الوجه الآخر لصورته كقيادي قادر على ضرب معارضيه في هذا الفضاء وهو ما تؤمنه عمليات نظامه خارج حدوده لاستعادة معارضيه الفارين من بطشه ومعاقبتهم، تماماً كما حاولت السعودية أن تفعل مع خاشقجي. يبقى محمد بن سلمان الذي سيحقق هدفه تجاه جماهيره لو وفّر له "السيناريو النهائي" القدرة على الاستمرار في تسويق نفسه كزعيم شاب إصلاحي، بل قد يوفّر له هذا السيناريو فرصة للظهور بمظهر الزعيم الذي لا يقبل بالخطأ، حتى لو ارتكبه أقرب المقرّبين منه. قد يرى البعض أن تحقيق كل طرف لأهدافه صعب جداً، ولكن لا يجب نسيان أن قابلية جمهور كل طرف لدعمه موجودة مسبقاً. فقط يجب ألا يتسبب له "السيناريو النهائي" بإحراج كبير يغيّر في قابليته هذه.الجمهور و"السيناريو النهائي"
"السيناريو النهائي" عليه أن يخاطب فئات الجماهير الثلاث المذكورة وأن يخاطب أيضاً فئات أخرى تتحرك في فضاءات سياسية وفكرية متنوّعة. وإذا كان المطلوب منه أن يكون مقنعاً للبعض، فليس عليه أمام بعض آخر سوى ألا يقع في هفوات تساعد في تفنيد عناصره. هنا يأتي دور كتبة السيناريو الصعب. في عالم اليوم، لم يعد هؤلاء قادرين على الجلوس وراء مكتب خشبي داكن اللون وكتابة ما يشبه القصة القصيرة. جماهير اليوم صارت فاعلة في هذه العملية، وعلى الكاتب إشعارها بأنها ساهمت في صياغة بعض الفقرات.صار البحث عن تصديق "الجماهير" للسيناريوهات الأمنية يتطلّب من منظومة "صناعة" السيناريوهات أن تلحظ فكرة التفاعل مع هذه "الجماهير" قبل كتابة السيناريو
كتابة السيناريو الصالح للتسويق صارت تتطلب أن يتم على مراحل، وأن يشارك فيه عدة كتاب تتضارب أهدافهم، وأن تخضع كل مرحلة للاختبار من خلال عرضها على الجمهوروعليه، لم يعد ممكناً الخروج بقصة واحدة مكتملة كما في السيناريوهات الأمنية التي يقدّمها النظام المصري أو النظام السوري حول عملياته الأمنية ضد معارضيه. هذا الأسلوب صار من عصر انقضى. اليوم، كتابة السيناريو الصالح للتسويق تتطلب أن يتم على مراحل، وأن يشارك فيه عدة كتاب تتضارب أهدافهم، وأن تخضع كل مرحلة للاختبار من خلال عرضها على الجمهور، في عملية تتورّط فيها، عن جهل على الأرجح، وكالات أنباء كبرى ووسائل إعلام كبرى تنقل معلومات عن "مصادر" مجهّلة. كيف؟ لنأخذ مثل اعتراف النائب العام السعودي بوفاة خاشقجي داخل القنصلية في إسطنبول. كان إعلاناً مقتضباً حمّل مجموعة من الموقوفين المسؤولية عن الجريمة، ولكنه فتح الباب أمام تخفيف الأحكام الجنائية ضد قادة عملية القتل من خلال طرحه جزئية "مناقشات... أدت إلى حدوث شجار واشتباك بالأيدي" التي تعني أن القتل كان غير متعمَّد. بعد ذلك أتت عملية إشراك وكالة "رويترز" في كتابة السيناريو عبر تزويد "مسؤول حكومي كبير" سعودي لها بقصة فيها تفاصيل كثيرة ولكن الهدف منها اختبار رد فعل الجمهور على بضعة معلومات من الضروري فحصها قبل تحويلها إلى أحجار في مبنى "السيناريو النهائي" وهي: "خاشقجي قُتل في شجار عندما قاوم"؛ فريق القتل كتب "تقريراً مزوراً لرؤسائه" وهذا سبب المعلومات الخاطئة في رواية السعودية الأولى عن المسألة. سقطت الفكرة الأولى، ويبدو أن هدفها الأساسي كان محاولة حماية المستشار السابق في الديوان الملكي السعودي سعود القحطاني، في اختبارها أمام الرأي العام العالمي لأسباب كثيرة فصّلتها مقالات وتحليلات كثيرة، ما اضطرّ كتبة "السيناريو النهائي" إلى إجراء تعديلات. هنا، أُشركت "رويترز" مجدداً ولكن هذه المرة عبر "مصدر عربي رفيع المستوى مطلع على الاستخبارات وله صلات بأفراد الديوان الملكي السعودي" قال لها إن القحطاني شارك في قتل خاشقجي عبر سكايب، ودعم قصته "مصدر في المخابرات التركية" أفاد بأن القحطاني طلب من رجاله التخلص من خاشقجي. المصدران المذكوران أشارا أيضاً إلى جزئية مهمة وهي وجود تسجيل صوتي للمكالمة التي جرت بين القحطاني وخاشقجي بحوزة السلطات التركية، وهذه القصة، لو تم الاتفاق عليها، يمكن أن تُنهي التكهنات حول مضمون تسجيلات حول مقتل خاشقجي قيل إن أنقرة تمتلكها. وحين تحدث الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، في كلمة كان كثيرون ينتظرونها، في 23 أكتوبر، لم يعرض عناصر تحدث تغييراً دراماتيكياً وكان أقوى ما قاله هو أن عملية القتل "مدبّر لها وليست صدفة"، وهذا يمكن مواءمته مع العناصر السابقة. نجح الاختبار هذه المرة. يجب أن يكون شخص بحجم القحطاني مسؤولاً. رُفع الغطاء عنه ودخلت إدانته في "السيناريو النهائي"، مع إعلان النائب العام السعودي أن المشتبه بهم في الجريمة "أقدموا على فعلتهم بنية مسبقة". هكذا تُصقَل أحجار عمارة "السيناريو النهائي" حول مقتل خاشقجي والذي ستشارك فيه بأشكال مختلفة كل من السعودية وأنقرة وواشنطن. دور الرياض تقديم قصة تحقق لأنقرة "ضروراتها" وبعض المصالح الإضافية، ودور الأخيرة هو عدم تكذيب الأولى بالأدلة، بينما دور الإدارة الأمريكية هو التصفيق للمنتج النهائي. هكذا يُرَكّب سيناريو "الصفقة". قد تنجع العملية، وهذا الأرجح، ولكن قد تفشل لأن عناصر كثيرة متشعّبة تحدد مقبولية ما سيُروى لنا، وقدرة الأطراف الأساسية على تبنّيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين