متاهة سردية عن ذاكرة بحجم مدينة
يكتشف الجنرال هذه المكتبة السرية من خلال كتاب رحلات قديم "ستة أشهر من حياة جارية في حريم دمشق" الذي كتبته الليدي مالرو، إذ جاءت إلى دمشق متنكرة بشخصية جارية، وعاشت في بيت "اليازجي الترجمان" وهناك اكتشفت هذه المكتبة الأسطورية، الممتدة على مساحة كبيرة، والمكوّنة من سراديب وطبقات وأنفاق كثيرة. وبداخلها ملجأ مجهّز بالطعام والشراب الذي لا يفسد، وهو معدّ للاختباء فيه أثناء مقاومة الطاغية. إضافة إلى هذا فإن في رفوف المكتبة الكثير من الكتب النادرة ومنها كتاب عن كيفية الاستيلاء الأبدي على دمشق وإخضاعها، وهذا الكتاب إضافة إلى كتاب "الجفر" الحقيقي، هما ما يؤرقان الجنرال ويريد الحصول عليهما بأي ثمن، لذلك يكلّف رجاله بمهمة اكتشاف أسرار هذه المكتبة. يقوم رجال الجنرال بملاحقة الوريث الوحيد للعائلة "صلاح الدين" ويعتقلونه، بعد أن تفشل جميع محاولاتهم في إيجاد هذه المكتبة وكشف خفاياها، وفي أثناء التحقيق يخبرونه:"لن نستطيع حكم هذا البلد إلا لو سُلم طواعية، وبيت اليازجي أصبح اليوم الراية الأخيرة لرفض التسليم... (...) نحن نتبناكم اليوم، لقد ورثناكم أحياء، وإن تفاخرتم بكثرتكم العددية، فسنخفضكم إلى الربع مزيحين كل المشاغبين، الرافضين لحقنا في الحكم... والمكتبة.. إما أن تستسلم لنا فنتبناها أو نحرقها حتى الرماد (...) أيهما أفضل، بقاء التاريخ والمعرفة في حضننا؟ أم الحريق ينهي كل خفاء وتستر؟!"
يعتمد "الذهبي" في روايته على بنية تتداخل فيها الأزمنة، وتتناسل فيها الحكايات من بعضها، ويقسمها إلى عدد كبير من الفصول بعضها لا يتجاوز الأسطر القليلة، ويعتمد في كثير من الفصول على رسم مشهد ما أو حدث ما غامض أو مفاجئ سابق لما يحدث، ثم يعود في فصول لاحقة إلى زمن قبله لتفسيره وتوضيحه.
"الذاكرة هي المكتبات، فإن لم تكن المكتبات، فالمرويات، والبدو العرب لم يكن لديهم مكتبات بل كان لديهم المعلقات يحفظونها ويحمون بها تراثهم من الاندثار... ونحن اليوم اخترعنا للسوريين ذاكرة من مرويات جديدة عبر التلفزيون، وحرمناهم من المكتبات بجعلها معقدة إلا على المضمونين المأمونين.. حين تنشر في الجوامع ذاكرة مبالغاً فيها عن الانتصارات والفتوحات، مع معرفة المستمعين بذهن غائب أن الحديث لا يعنيهم، فهم لا يسعون إلا وراء لقمة يطاردونها أو معتقل يتجنبونه".
"مكتب إدارة العالم - مديرو المملكة السلطانية"
ومن أبرز المشاهد الغرائبية، لكن شديدة الرمزية في الرواية، هو حين يعثر "نوري" على غرفة ضمن سراديب المكتبة الكثيرة مكتوب على بابها "مكتب إدارة العالم - مديرو المملكة السلطانية"، وحين يفتح الباب يرى طاولة كبيرة يحيط بها كراسي مملوكية الطراز، تجلس عليها هياكل عظمية تضع العمائم والخوذات. وفي خطوة أبعد في نقاش هذه العلاقة بين رجال الدين والسلطة على امتداد الأزمان، وتحالفهما، تطرح ياسمين في دفترها الأحمر، رؤيتها عن حرص "صلاح" ومن بعده "نوري" الحفاظ على صورة الأجداد طاهرة غير ملطخة بالأرضيات، وترى أننا لن نستطيع الانتقال والدخول في العصر قبل استعادة هؤلاء الأجداد من أئمة وفقهاء ومعصومين ومحاكمتهم بعدل وحيادية. أما "صلاح" فيكتب في دفاتره عن نظرية "المستبد العادل":"وكان حلم الأرقين لزمن طويل.. السعي وراء الحاكم العادل، وما لبث الفقهاء المنعّمون على موائد السلطان أن أضافوا إلى حلم المسلمين بالسلطان العادل، كلمة "المستبد"، لتصبح "المستبد العادل". وتلقفها الراغبون في سعادة في الأرض مع سعادة في الجنة (...) ولكن هل حصل المسلمون على هذا الحاكم العادل، وهم يستطيعون قبول استبداده المفترض وسيلة لضبط المجتمع، ولكن هل يستطيعون قبول عدم عدله، وما أكثر الطغاة والقتلة والظلمة فيهم؟".
بعد كل ما سبق، لا بدّ لنا من السؤال، لماذا يجب علينا أن نقرأ هذه الرواية؟ وما علاقة ما يجري فيها بما يجري اليوم على الأرض السورية؟ وبالتأكيد سنعثر على بعض من الإجابات، ونحن نتذكر أن هذه المكتبة ليست مكتبة فحسب، بل ذاكرة بحجم مدينة"، وأن الجنرال يحاول معرفة أسرارها وفي سبيل هذا يطارد المحافظين عليها، معارضيه، فيعتقلهم ويعذبهم وينفيهم ويحاول قتلهم بشتى الوسائل.كل وحوش العالم لا يملكون الخيال، كل ما يعرفونه هو وجوب تحطيم الرفض لدى الضحية، واستسلامه، وإعلان توبته من كل ذنب فكر بارتكابه ضد الطاغية... اشتهيت أن أعيش، أو أرى شيئاً جديداً في سلوك الجلادين، فلم أعثر إلا على النسخ الرديئة من الفصامي الأول... عبد وجلاد، وليس من مزيد"
لكن في كل مرة نكتشف من جديد أنه لا يملك الخيال، فـ"كل وحوش العالم لا يملكون الخيال، كل ما يعرفونه هو وجوب تحطيم الرفض لدى الضحية، واستسلامه، وإعلان توبته من كل ذنب فكر بارتكابه ضد الطاغية... اشتهيت أن أعيش، أو أرى شيئاً جديداً في سلوك الجلادين، فلم أعثر إلا على النسخ الرديئة من الفصامي الأول... عبد وجلاد، وليس من مزيد".
"المكتبة السرية والجنرال" رواية تعبث بقارئها، وتجعله يضيع في متاهاتها، ثم توصله في النهاية إلى باب الخروج بعد أن تكون قد غيّرت كثيراً من معتقداته، أو على الأقل جعلته يعيد التفكير فيها، ويراها بعينٍ أخرى، وهي في أثناء هذا كله، تحافظ على شرط الرواية الأول: الإمتاع.
خيري الذهبي روائي ومفكر سوري، من مواليد دمشق 1946. نشر عدداً كبيراً من الكتب الفكرية والنقدية والأدبية، وكتب سيناريوهات العديد من المسلسلات التلفزيونية. وشارك في تحرير العديد من الدوريات الصادرة عن وزارة الثقافة السورية.
من أبرز رواياته: "ليال عربية"، "ثلاثية التحولات: حسيبة، فياض، هشام أو الدوران في المكان"، "فخ الأسماء"، "لو لم يكن اسمها فاطمة"، "الإصبع السادسة". رواية "المكتبة السرية والجنرال" صادرة عن الناشر الدار الأهلية/ عمان، عدد الصفحات: 328، الطبعة الأولى: 2018.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 4 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...