تُعتبر منطقةُ الجريد بالجنوب التونسيِّ منطقةً ذات خصوصيةٍ تميّزها عن كلِّ المناطقِ التونسية الأخرى في لباسِ أهلِها وخاصةً لباس النساء، وفي ما تحمله من شيفرات على العباءاتِ السوداء التي لا تظهر في تونس إلا في تلك المنطقة، كما أنها متميّزة في المعمارِ والبنايات حيث يمثّل الآجرُّ الصغيرُ الجريديّ خصوصيةً لا تجدها في أيّ مكانٍ آخر، وإذا ما وجدتَها في مكانٍ آخرَ فهي إشارة إلى أنّ صاحبَ البيتِ جريديٌّ. ويُرجع الباحثون ذلك إلى علاقةٍ تربط الجريدَ بالعراق والتواجد الشيعيِّ تحديدًا في تلك الرّبوع. لكنّ ما يميّز الجريدَ أيضًا هو انتشارُ النكتة بين أهله. والنكتةُ الجريديةُ علامةٌ متأصّلةٌ، وهي متفرّعة بين سياسية واجتماعية وميتافيزيقيّة. فالكائنُ الجريديُّ و"التوزريّ" تحديدًا، تكشف لنا نكتُه أنّه خَلق علاقةً مختلفةً مع ربِّه. لذلك تراكمتْ مدوّنة النُّكتِ عنده في الشأن الربّانيّ والدينيّ والميتافيزيقيِّ بشكلٍ عام، وهو في علاقتِه بربّه لا يتحرج من إقحامِه في نكتٍ توصف بالبذيئة أو الجنسية. ومن ثمّ اعتُبر الجريديَّ أكثر التونسيين سبًّا للجلالةِ، ولكنّ من يسمع ذلك السبابَ أو ما يسمّيه التوانسةُ بـ"التربريب" يلفي نفسَه أمام ثقافةٍ أخرى غير ثقافةِ الإلحاد؛ فهي ثقافة دينيّة مرحة يظهر فيها الإله الذي لوّح بمخلوقِه في أرضٍ صحراويّة صعبة؛ إلهٌ مرحٌ يعشق اللّعبَ وتدبيرَ المؤامراتِ اللّطيفة التي يصفها جامعُ النُّكتِ الجريدية توفيق عمران بالمخاتلة.
في شهر رمضان تكون التُّمورُ مهددةً بالمطر. وذات يومٍ ومض البرقُ مهدِّدًا بالمطر. فأخرج الجريديُّ سيجارةً، ووضَعَها في فمِه. ثمّ سحب الولّاعةَ مهدِّدًا، وقال مخاطبًا الربَّ: تقْدحْ نِقْدحْ.
وصحيحٌ أنّ النكتةَ الدينيةَ باتت نادرةً في الجريدِ التونسيِّ، غير أنّه كلّما اطمأنَّ لك أهلُها، أدخلك جنةَ الضّحكِ، حيث تجد ربًّا لا يشبه ربَّك أبداإنّ هذه العلاقة الجديدة بين الإله اللاعب والإنسان لها علاقة مباشرة بأمرين: المناخ الحارّ والقاسي، والفلاحة؛ فمن المفارقات السريالية التي يحبكها الربُّ في حياة الجريديّ أن الجريديَّ يقضي عامًا كاملًا منشغلًا ومهتمًّا بنخيلِه، وفي نهايةِ المطاف ينزل عليه الربُّ المطرَ فيفسد تمورَه. وهذا الإله العابث في نظر الجريديِّ ليس إلهًا بشِعًا منتقمًا، بل هو إلهٌ لاعب. يعتبر الجريديُّ أنّ ربَّه يلعب معه لعبةً عبثيّة ويتشفى فيه، وهو صاحب شماتةٍ مرحةٍ وصاحبُ مقالب. ومن العلامات الدالّةِ على هذه العلاقة المخاتلة بين الجريديّ وربّه أن يقول الجريديّ إذا العام صابة أي إن كان المحصولُ وفيرًا: انتصرت على ربّي، وبالعامية "عدّيتْها على ربّي"؛ وإن ضُرب صابة المحصول، يقول فليهنأْ بانتصارِه عليّ، فيَقولها بالعامية الفجّة: "صحة ليه، ناكْني"، وكأنّ العلاقةَ منافسةٌ بين الجريديِّ الفلاحِ الذكيّ والإله العابث. وفي ما يلي أمثلة لهذه النُّكت:
- حصل جريديٌّ على محصولٍ صغير من التَّمرِ، فنشرَه فوق سطحِ بيتِه ليجفَّ، فنزلت عليه الأمطارُ، وفَسدَ، فرَفعَ رأسَه نحو السماءِ مخاطبًا الله: صحة لك، لو لم تكن واحدًا، لغيّرتُك.
- قام جريديٌّ قائلًا "توكّلتُ على الله، ودفع درّاجته النارية نحو الواحة، فانفلقت عجلةُ الدرّاجةُ، فقال وهو يخاطب الله: لو توكّلتُ على نفسي لكان أفضل.
- في شهر رمضان تكون التُّمورُ مهددةً بالمطر. وذات يومٍ ومض البرقُ مهدِّدًا بالمطر. فأخرج الجريديُّ سيجارةً، ووضَعَها في فمِه. ثمّ سحب الولّاعةَ مهدِّدًا وقال مخاطبًا الربَّ: تقْدحْ نِقْدحْ.
- جريديٌّ صعد فوق جبلٍ يطلب مساعدةً من عند الله. انتظر يومًا كاملًا ولم يحدثْ شيء، فنزل من الجبل، وعثرَ في الطّريقِ وسقط. فقال مخاطبًا اللهَ: لا تريد أن تعطيَ شيئًا، أنت حرٌّ، ولكن ليس من الرجولةِ أن تدفعَني!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Hossam Sami -
منذ 3 أيامالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...
diala alghadhban -
منذ 6 أيامو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ 6 أيامشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ 6 أيامجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر