بخطّ مذهب جميل، وبأحرف عربية بارزة، كُتِبَ على جواز سفري أخضر اللون عبارة "الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية"، منذ ذلك الحين، أصبح لزامًا عليّ أن أتعرّف إلى النَاس باعتباري "جزائريًا"! الجزائر، البلد الذي اشتهر لفترة ب"ثورته المجيدة" ثم بكونه الأكبر مساحة في إفريقيا، والبوابة الشمالية لها الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، ثم بأيام الجمر والعشرية السوداء، وأخيرًا برئيسه المقعد، منذ مدّة طويلة!
يندر أن تجد قارئًا عربيًا لا يعرف الكثير عن الجزائر، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الجزائر تبقى، دومًا، محتجبة عن الجميع.يندر أن تجد قارئًا عربيًا لا يعرف الكثير عن الجزائر، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الجزائر تبقى، دومًا، محتجبة عن الجميع. بحكم ترحالي المتواصل، واهتمام الناس بالجذور الجينية للبشر؛ أُسْأَلُ كثيرا عن التعريف بهذه البلاد، ولأنني أعتقد أنّ الحرف خوّان في مثل هذه المواقف، فإنني عادة ما أقترح مشاهدة بعض الأفلام التي قاربت الجزائر وقضاياها في حقب مختلفة. أومن بأنّ للصورة سلطانا أقوى من الحرف، وأنّ الجزائر تتكشف قليلًا أمام الكاميرا أجمل مما تجود به على النص المكتوب. منذ القديم كان الوضع هكذا، ومنذ القديم وأنا أرشح أفلامًا مختلفة، حتى عام 2015، حين ظهر للوجود التحفة الفنية "الجزائر من علٍ"، أو بصيغته الفرنسية الأصلية "L’Algérie vue du ciel". (1) عبر تقنية التصوير عاموديًا، وبزاوية تقترب من 180 درجة، حاول مخرجا الفلم Yann Arthus Bertrand و Yazid Tizi، ولمدة 88 دقيقة، أن يرسما لوحة سوريالية عن الجزائر، لوحة تتقاطع فيها مشاهد طبيعية أقل ما يمكن وصفها بأنّها بديعة بموسيقى متنوعة تقتفي آثار خارطة جغرافية (2)، وتعليق صوتي حول أهم محطات الجزائر التاريخية. وبين البحر والصحراء، تنقلت الكاميرا بين ربوع المكان، مبشرة بميلاد فضاء جديد، "جزائر من علٍ"، جزائر لم يرها أحد من قبل، وربما لن يكون بإمكان أحد أن يراها مرة ثانية. ليس خفيًا أنّ وضعية التقاط الصور "من أعلى" كانت الآلية الوحيدة الممكنة، والأكثر مناسبة لإنتاج وثائقي عن الجزائر ذو قيمة جمالية. فهذا الارتفاع قليلًا، قليلًا فقط، يهدف إلى تجاوز الواقع بتناقضاته، والتركيز لا على تفاصيل الحياة اليومية، بل على "الصورة الشاملة"(3)، الصورة التي لا يراها أحد، الصورة المتخيلة. ولكن، لنحاول نحن أن نكبر هذه الصورة قليلا (Zoom In)، ولنختر هذه اللقطة "مدخل الجزائر عبر البحر"(4)، أول مشهد في الوثائقي. لنجعل زاوية التصوير: أفقية، تركز على تفاصيل الحركة والوجوه. يتراءى لنا مئات المنتظرين في طوابير لا تنتهي عند مدخل بلدية القصبة، وعشرات من العمال والعاملات اللواتي يقمن بكل شيء إلا إنهاء المعاملات الورقية. عمال السكك الحديدية لا يزالون مضربين عن العمل، والطلبة كالعادة متأخرون عن امتحاناتهم الصباحية. بوابة البرلمان مقفلة من خارج، بسلسلة من الحديد، فنوّاب الموالاة يرفضون استمرار السعيد بوحجة(5) رئيسا للبرلمان، وهو يرفض الاستقالة. المشّاؤون تحت أشعة الشمس الحارقة، بائعو السمك أوّل النهار، زحمة السير التي تدفع بك للمضي راجلًا، الباعة المتجولون، والباعة في محلاتهم، كلّ بحُلمه. وخلف هذه الواجهة، تتجلى قصبة الجزائر بهيبتها، بتناقضاتها: عمارة(6) كولينالية تحاول إخفاء عمران تركي-مرابطي، وباعة الألبسة، الشباب، يصرخون بملء حناجرهم "يا مرا ديري لافار"(7)، حراس المواقف غير الشرعيين، لصوص يتربصون بالسواح الأجانب الذين يحملون كاميرات، ورجال أمن ليس لهم إلّا ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل! هذه المدينة عامرة بأهلها، هذا ما لا يمكنك أن تخطئه. وجوه الناس تقول ما لا يقال، وحركتهم في المدينة تصوغ إيقاعًا يعكس واقعهم من الحياة. مسرعين إذا كانت أوضاعهم الاقتصادية جيدة، ومتجهمين كلما ثقلت وطأة الأزمة الاقتصادية على جيوبهم. القصبة مدينة يوجد فيها، رغم كل شيء، الجسد! ولكنّ القصبة، مثل بقية مدن الجزائر، مدينة بلا جسد، أو لنقلها بشكل أكثر صراحة، مدينة يُغْتَالُ فيها الجسد. في الوثائقي، ونتيجة للتصوير من أعلى، تتجاوز الكاميرا الأزقة المتسخة، والنظيفة كذلك. تتجاوز خروج الناس في ساعة مبكرة أوّل النهار للبحث عن لقمة عيش في بلد يزداد الفقر بين أهله بصورة متفاقمة. تتجاوز أحلام تلك الفتيات الصغيرات وهن يلعبن بِدُمَاهُنَّ. تتجاوز دموع أمّهات "الحرقى" وصلواتهن. تتجاوز، بشكل عام، الإنسان وتعيد تعريف وجوده، وعلاقته بالمكان وفق سردية "من فوق"، سردية لا يراها أحد، وسردية لا يفضلها أحد، ربما سوى من هم فوق! في علاقة الجسد بالمكان في الجزائر، تتيح مفردة "الرؤية من فوق" منظارًا تحليليًا واسع الثراء. ففي الواقع، لا وجود للفرد، أو المواطن بلغة الانتخابات، هو كائن لا جسد "مُعْتَبَرَ" له. المدينة مبنية بشكل لا يسمح له بالعيش فيها، أو التنقل في فضاءاتها، أو حتى بالانفكاك عنها. المرافق الخدماتية غير متوفرة، وإشارات السير، التي تضبط حركة المواطنين تبقيهم في جانب محدد من المكان، لا يتجاوزونه، والفضاءات العامة، للراحة والاستجمام، أقصيت إلى خارج المدينة، وأصبحت هناك، بعيدًا، حيث الذهاب إليها، والعودة منها، مكلفة. أما الفضاء العامّ، حيث يمكن للفرد أن يمارس حقوقه الدستورية، فإنّه مما يمنع التفكير فيه في مدينة مثل الجزائر. لم تعد هذه المدينة تلقي لساكنتها بالًا، ولم يعد الجسد فيها مقدرًا، وحتى الموت، موت طفل صغير، جراء انهيار حائط متهالك من حيطان القصبة، أصبح أمرا عاديًا، لا يؤدي لاستقالة أي مسؤول! ولكن، ليس جسد المدينة، ممثلا في أجساد أهلها، فقط من هو المغيب، بل صوتها كذلك!
أومن بأنّ للصورة سلطانا أقوى من الحرف، وأنّ الجزائر تتكشف قليلًا أمام الكاميرا أجمل مما تجود به على النص المكتوب.
ليس خفيًا أنّ وضعية التقاط الصور "من أعلى" كانت الآلية الوحيدة الممكنة، والأكثر مناسبة لإنتاج وثائقي عن الجزائر ذو قيمة جمالية.
هذه المدينة عامرة بأهلها، هذا ما لا يمكنك أن تخطئه. وجوه الناس تقول ما لا يقال، وحركتهم في المدينة تصوغ إيقاعًا يعكس واقعهم من الحياة. مسرعين إذا كانت أوضاعهم الاقتصادية جيدة، ومتجهمين كلما ثقلت وطأة الأزمة الاقتصادية على جيوبهم.
ولكنّ القصبة، مثل بقية مدن الجزائر، مدينة بلا جسد، أو لنقلها بشكل أكثر صراحة، مدينة يُغْتَالُ فيها الجسد.
لم تعد هذه المدينة تلقي لساكنتها بالًا، ولم يعد الجسد فيها مقدرًا، وحتى الموت، موت طفل صغير، جراء انهيار حائط متهالك من حيطان القصبة، أصبح أمرا عاديًا، لا يؤدي لاستقالة أي مسؤول!يرافق عرض الفيلم تعليقًا صوتيًا يؤديه بلسان فرنسي Jalil Lespert. وعبر عرض معلومات عن الجزائر وجغرافيتها، واقتصادها، وقبس من تاريخها؛ يبذل المعلّق جهده في بناء سردية لل"تحت"، لما هو هناك. هذه السردية التي فضلًا على أنها تتماهى تمامًا مع الرواية الرسمية، رواية من هم فوق، لما حدث، وما يحدث، وما يراد له أن يحدث كذلك؛ فإنها تغيب أساسًا أصوات المدينة، أو رواتها المبدعين. طوال الدقائق الثمانية والثمانين يعرض الفلم مناظر طبيعية وعمرانية للجزائر، لكنه، ولسبب ما، يغفل تمامًا صوت الفرد الجزائري. لا وجود في الفلم لحوار مع أي مواطن جزائري، بل لا وجود حتى لصدى من أصواتهم. تلك الكاميرات لم تستمع -حين مرت- لصيحات الناس وتأوهاتهم، لم تستمع لزغاريدهم وأفراحهم، لم تستمع لما يحفظونه عن الأمكنة. لم يكن شيء من هذا مهمًا، كلّ ما كان يهم، هو ذلك الصوت من فوق؛ هو صوت المعلق، الوحيد، الذي يحتكر السردية النهائية الحقيقية. ولأنّ الوضع في هذه المنطقة من العالم هكذا منذ الأزل، أن يصادر صوتك، وصوت الجميع، لفائدة صوت آت من خارج، من فوق، فلا غرو أن يكون الوثائقي، اللسان المعبر بواقع هذه البلاد، كذلك. في الجزائر يغيب صوت الساكن خارج العاصمة لفائدة من يقيم داخلها، ويغيب صوت من يقيم داخلها ممن لا علاقة له، مباشرة، مع السلطة وطبقتها، لفائدة هؤلاء، ويغيب صوت هؤلاء جميعا لفائدة الصوت الآتي من الخارج، من كلّ الجهات. تحتكر السلطة "فوق" السردية الوحيدة الممكنة عن المكان، وتلزم الجميع أن يكون مبشِّرًا بها، أو لا يكون! المفارقة هنا، أنّ هذه السردية غالبا ما تصاغ، مثلما ظهر في الوثائقي، بلسان أعجمي مبين! وبعدُ، فالذي يتفق عليه الجميع هو أنّ هذا الفلم تحفة فنية خالصة، وأنّه قدّم الجزائر في صورة تفوق الوصف. غير أننا نعتقد أنّ قيمة هذا العمل هو أنه استطاع أن يتموقع حيث تتموقع السلطة، فوقُ، ويرى الجزائر بمنظار النافذين فيها، على عكس ما كان يحاول الجميع القيام به. هذا الوثائقي الذي سخرت له طائرات الجيش لتصويره، يكشف بوضوح عن خصائص الرؤية "من فوق"، الرؤية التي تصوغ كل شيء، ولكنها لا ترى أي شيء. أما أنا، فيعز عليّ ذلك السائح المنطلق من مرسيليا، بحرًا إلى الجزائر، يمني النفس بزيارة جنة الشمال الإفريقي، ليفاجأ أول ما يخرج من بوابة الميناء السوداء بزمّار حافلة مسرعة مليئة بالركاب، ويكتشف بعد ثوان، أنّ ما يراه أمامه لا ينتمي أبدا لعالم Yann Arthus Bertrand، وأنّه ما دام لا يستطيع أن يكون فوق، فلا يمكنه رؤية الجزائر من علٍ! سوى في السينما! ملاحظات هامشية: (1) صدر الفيلم في 16 حزيران/ يونيو 2015، وهو من إنتاج شركة "Hope Production"، وبميزانية تقارب 1.700.000 يورو. (2) اختار الوثائقي أن يقدّم كل منطقة بموسيقاها المشتهرة بها، فالشعبي بالعاصمة، المالوف بقسنطينة، الراي بوهران، والقناوي بالصحراء. (3) ترجمة للفظ "The whole picture". (4) سوف أختار هذه اللقطة هنا وما يتبعها، فقط لأنني من ساكنة العاصمة، فأعرف عن تفاصيلها أكثر من الأماكن الأخرى. (5) واحدة من القضايا التي شغلت الرأي العام الجزائري. تم سحب الثقة من رئيس البرلمان، لكنه يرفض الاستقالة، وكثير من اللغط حصل في الموضوع. (6) لفظ عِمَارَة هنا يعني العمران، وليست عمارة التي تجمع على عمارات. (7) هذه جملة تسويقية شهيرة يرددها الباعة في العاصمة كثيرا، يمكن ترجمتها ب: "تعالي أيتها المرأة هنا أفضل العروض".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ ساعتينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.