تعنّفني أمّي في البداية لأنني أحبّ زميلي في المدرسة، وأبي يرى أن الثورة مؤامرة لهدم استقرار الدولة. أرفض كل محاولات القمع وأثور وأحبّ.
الحبّ مثل الثورة، كلاهما لا يرضى عنهما الكبار
يناير 2011، المرة الأولى التي أشعر أنني أملك الدنيا. أجرّب كل الأشياء كطفلٍ صغير وأشعر بحلاوتها، أخرج بمرافقة شخص أحبه، وأستنشق هواء له رائحة جميلة، أوّل ثورة بالداخل والخارج فأنتشي لصدى الحرية داخل نفسي.
أتذكر أول مرة قرر فيها حبيبي أن يمسك يدي، بكيت كثيرًا، كنت أظن حينها أنه لا يجوز، كيف أتعامل مع يدي الآن التي أمسك بها شخص ربما يرحل. اعترفت له بحبي بعد مرور شهور على ارتباطنا، لأن قناعات المدينة الريفيّة التي تربيت فيها عكس ما أفعله تماًما. كل صديقاتي من المدينة يوبخنني على فعل الحبّ وعلى الارتباط وبعضهن ابتعد عني أيضًا، كلهن يعجبهن أحمد السقا في فيلم ”تيمور وشفيقة“، أمّا أنا فأبحث عن رجلٍ مختلفٍ تمامًا عن فتى أحلامهن جميعًا.
أتذكر نفسي كم كنت سعيدة، كم كانت الحياة حينها مختلفة وكم كنت ساذجة أيضًا، كنت أكذّب أمي عندما تخبرني أن هذة مجرد مراهقة وستمرّ. أعتقدت وقتها أن الحبّ يمكن أن يصبح أبديًا وأن كل ما نحلم به ندركه.
لا أعلم لماذا كنت أسير في طريقي هذا برغم كل معارضينه، تتزايد اعتراضات أمي وأغلب صديقاتي يعتبرنني فاجرة وأفقد دعمهن، أعيش وحيدة في مدينة جديدة لم أكوّن فيها أصدقاء جدداً بعد، أظن أن الثورة هي السبب في كل ما حدث لي.
أتذكر نفسي كم كنت سعيدة، كم كانت الحياة حينها مختلفة وكم كنت ساذجة أيضًا، كنت أكذّب أمي عندما تخبرني أن هذة مجرد مراهقة وستمرّ. أعتقدت وقتها أن الحبّ يمكن أن يصبح أبديًا وأن كل ما نحلم به ندركه.
كنت احتفظ بهدايا حبيبي ظنًا مني أن هذا الحب أبدي ولن ينتهي سوى بالموت، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن كالعادة! تفشل الثورة وتموت كل أحلامي الورديّة، ربما لو كنّا نهتم بالثورة أكثر لنجحت وتزامن معها تحقيق أحلامي الورديّة.
الجيش ركب الثورة وضاع الحبّ
تموت الثورة في داخلي، الجيش ركب الثورة، انزل يا سيسي مرسي مش رئيسي… هل أبكي علي ضياع الحبّ؟ أم على كلّ الذكريات؟ أم على الثورة؟ كنت حينها في التاسعة عشرة من عمري وقد تركت مدينتنا الريفيّة الصغيرة واتجهت إلى الإسكندريّة للدراسة. كنت أتمنى الموت في كلّ يوم،لأن تلك الهزيمة أكبر من عمري، أكبر من كلّ شيء في مخيلتي، كان عليّ إدراك أن كلام أمي حقيقيّ، وأن هذا ليس الحبّ الأبدي وأنه ليس بالضرورة أن تكون نهاية أيّ علاقة الزواج، وأنه ليس بالضرورة أيضًا أن يوجد ما يسمى بالحبّ الأبديّ.
تعلمت كثيرًا بالرغم من الألم، أظن أنّ الألم هو ما يضيف للأشخاص بريقهم! ما زالت أم كلثوم هي سيدة الطرب الأولى، وهي تحكي في أغلب أغانيها عن الشوق والألم ومعاناة الحبّ. تعلمت أن الهزيمة أحيانًا مفيدة، وأن نصائح أمّي التى حاولت أن تطعمها لي بملعقة - بدلًا من اختبارالتجربة - كلّها صحيحة، بينما أنا من قررت أن أفتح للدنيا ذراعي.
لم أندم يومًا على التجربة، كانت هي البداية لأتعرّف على نفسي، كان يقول حبيبي القديم أننا نتعرف على أنفسنا من خلال الآخر. وأنا حينها وصلت إلى أوّل الخيوط التى تقودني لنفسي.
”ده الطريق اللي لازم تمشيه لوحدِك“
في ستينيات القرن الماضي كتبت لطيفة الزيّات رواية ”الباب المفتوح“، متخذة من ليلى الفتاة التى تربت في أسرة متوسطة رمزًا للقهر ومقاومته في آنٍ واحد. تدور الرواية حول حياة ليلى منذ كانت طفلة مرورًا بمرحلة المراهقة حتى تصل سنّ الرشد وتبدأ في محاولاتها للتحرر من كل الأعراف المجتمعيّة غير السويّة، وتسلّط أسرتها عليها. بالتزامن مع التحرر الداخلي لشخصيّة ليلى والخارجيّ، شهدت تلك الفترة الزمنيّة مقاومة الشعب المصري للاحتلال البريطانيّ ووقوع معركة بورسعيد، نجحت الزيّات في التعبير عما تمرّ به النساء في المجتمعات العربيّة بكل واقعيّة، وتصوير ذلك بحرفيّة شديدة بالتزامن مع الحراك الشعبي. في العامّ 1963 قرر هنري بركات تحويل الرواية إلى فيلم يحمل نفس الاسم، بطولة فاتن حمامة وصالح سليم، حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا، ويعدّ من أهم أفلام السينما المصريّة. من المشاهد والجمل التي علقت في رأسي منه، قول حسين لليلى: ”ده الطريق اللي لازم تمشيه لوحدك“.
انفصلت عن حبيبي بعد الانقلاب العسكريّ بفترة قليلة، لم أكن أعرف حينها لطيفة الزيات ولا فيلم ”الباب المفتوح“، لكني كنت أحاول أن أبحث عن أسباب لأقبل هزيمتي تلك، بأنه عليّ أن أتعرّف على نفسي أولًا، بأن ده الطريق اللي لازم أمشيه لوحدي بعيدًا عن كلّ السلطات وكل القهر
انفصلت عن حبيبي بعد الانقلاب العسكريّ بفترة قليلة، لم أكن أعرف حينها لطيفة الزيات ولا فيلم ”الباب المفتوح“، لكني كنت أحاول أن أبحث عن أسباب لأقبل هزيمتي تلك، بأنه عليّ أن أتعرّف على نفسي أولًا، بأن ده الطريق اللي لازم أمشيه لوحدي بعيدًا عن كلّ السلطات وكل القهر، كنت أعيش في بيت بمفردي، ثلاث سنوات قضيتها داخل هذا المنزل لكي أعرف من أنا، أجرّب كل الأشياء لأعرف ماذا أحب وماذا أكره حتى استطعت أن أصل لنفسي.
الحبّ يجعل الأشياء كلّها جميلة
ننظر لتونس من مصر مع شعور بأنها أفضل، نبارك كلّ ما يحدث فيها من حراكٍ حتى يومنا هذا، لأننا نعلم أننا نستحق. كان هذا الدافع يلازمني طوال الوقت عندما يظهر أصدقاء في حياتي، أنظر إلى الوراء بحكم تجربتي الأولى والتي لا يمككني إنكار أنها كانت جيدة بالنسبة لي في عمرالسابعة عشرة، من خلالها، تكوّنت عندي ذاكرة من الخبرات يمكنني القياس عليها، مسطرة تمكنني من الإجابة عن سؤال هل أسير في طريق صحيح أم لا؟ أصبحت لدي رؤية عن الطريق الصحيح المناسب لي؛ تعلمت معنى الاهتمام، ما هي المشاركة؟ ما هو الالتزام؟ كلها مفاهيم انتقلت لي بالخبرة.
في الحبّ الثاني كنت أقل اندفاعًا من الأوّل، أزن الأشياء بمقياس التجربة ثم أخطو مسرعة بعكس المرة الأولى، أتذكر أنني قضيت فترة أطول لأعبر لحبيبي عن حبّي، لكن في الثانيّة كنت أحسب الأشياء بعقلي، عقلي يقول لي أن أترفع عن كلّ قليل، لأنني أستحق الأفضل، أحيانًا أشعر بنرجسيّة ما في حكمي، لكن مع مرور الزمن أتأكد أنني كنت محقة. بعد شهرٍ، أخبرت رفيقي بأنني أحبّه، أنا التي بادرت هذه المرة. تعرّفت عليه ثم أحببته ثم قررنا أن نبقى معًا، بعكس الحب الأوّل الذى قررنا فيه أن نبقى معًا قبل أن يتعرف كل منا على الآخر.
في هذة المرة لم تعترض أمي، لم تخبرني أن هذة مراهقة وسترحل، كنت في الثالثة والعشرين من عمري، ولأوّل مرة قررت أن أخبر والدي بمشاعري لأنني أراها ناضجة، كنت أشعر بالرضا للتجربة الأولى، وبالامتنان لنفسي وللزمن، أصبحت أنضج وأكثر تسامحًا مع ألم الانفصال الأوّل، وعلى رأي الست "الزمن بينسي فرح وحزن ياما“.
كل الأشياء تصبح حلوة مرة ثانية، أطير مرة أخرى أعلى من المرة الأولى، وأرقص بطريقة أفضل، أمدّ يدي وأمسك بيد حبيبي بلا دموع وتردد، لم أفكر بيدي التي أمسكها شخص ما وربما يرحل، ولم أفكر في اعتراضات صديقاتي، أصبحت اهتم بنفسي فقط الآن. تزامن الحبّ الثاني مع انتقالي إلى بيتٍ جديد لم أكن أحبه، في البداية كنت أبكي لأنني لا أشعر فيه شعور السكون، لكن الحبّ جعلني أنتمي لرفيقي وأشعر بالسكون معه، فتكيّفت مع منزلي بلا سكون، الحبّ يجعل الأشياء كلّها جميلة.
أعترف أني وقعت فترة طويلة في فخ المقارنة بين المرتيْن، كيف يهتم هو وكيف كان القديم يهتم، لماذا فشلت الثورة في مصر ولماذا تونس أفضل دائما. لا أجد إجابة، لكني أجد حبيبي يقرر الرحيل بلا أسباب، أقرر أنا أيضًا في نفس اليوم الذهاب لأشتري لحافًا، أحارب البرد بمفردي، أبقى في غرفتي فترة طويلة وأصنع مشاعر جديدة معها، أبكي كثيرًا وأعدّ الأيام حتى تكرّ بكرتها وانتهي من العد.
يناير 2011، المرة الأولى التي أشعر أنني أملك الدنيا. أجرّب كل الأشياء كطفلٍ صغير وأشعر بحلاوتها، أخرج بمرافقة شخص أحبه، وأستنشق هواء له رائحة جميلة، أوّل ثورة بالداخل والخارج فأنتشي لصدى الحرية داخل نفسي.
كنت احتفظ بهدايا حبيبي ظنًا مني أن هذا الحب أبدي ولن ينتهي سوى بالموت، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن كالعادة!
كنت أتمنى الموت في كلّ يوم،لأن تلك الهزيمة أكبر من عمري، أكبر من كلّ شيء في مخيلتي، كان عليّ إدراك أن كلام أمي حقيقيّ، وأن هذا ليس الحبّ الأبدي وأنه ليس بالضرورة أن تكون نهاية أيّ علاقة الزواج، وأنه ليس بالضرورة أيضًا أن يوجد ما يسمى بالحبّ الأبديّ.
تزامن الحبّ الثاني مع انتقالي إلى بيتٍ جديد لم أكن أحبه، في البداية كنت أبكي لأنني لا أشعر فيه شعور السكون، لكن الحبّ جعلني أنتمي لرفيقي وأشعر بالسكون معه، فتكيّفت مع منزلي بلا سكون، الحبّ يجعل الأشياء كلّها جميلة.
”كل الحاجات الحلوة نجيبها تاني منين؟!“
تمر الأيام، أتوقف عن البكاء وأفكر في الذكريات التي أحملها، أقرأ كتاباتي القديمة لحبيبي القديم فأعلم أن تصوراتي عن التجربة تختلف بمجردالخروج منها، الحبّ الأوّل ليس هو بالأبدي، وهناك آخر يفهمنا غير الحبيب الأول وغير الثاني. أنسى أو أحاول النسيان، أعزي نفسي دائما بفكرةأن تونس هي الحلم الأقرب وأن ربما هناك حلم بعيد أفضل.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...