يمكنك أن تقصَّ الهواء بسكين في هذه الغرفة. ذبذباتٌ سلبية جدًا في المكان. حركات القاضية عصبية وبشرتها جافة جدًا وشديدة البياض، يبان من تحتها عِرقٌ كبير أزرق في جبينها. طويلة ونحيفة جدًا، لا صدرَ لها، ولا تفاصيل أنثوية. شَعرها ذهبيّ (مصبوغ) طويل مكهرب، أشعث كمن مسّه التيار الكهربائي أو الجنون. عيناها مثل حجارةِ مجوهراتِها، لا لون لهما. ترتدي سروالًا ضيقًا جدًا skinny وحذاءً مسطّحا باليرينا، تَبرز عروقُ قدميها الزرقاءُ منه، بالإضافة إلى القميص القصير المجعلك؛ امرأة في أوائلِ الستّينات بثيابِ مراهقة. تنظر إلينا أنا واللاجئِ شزرًا، وبِمزيج من الاشمئزاز المشوبِ بالقرفِ والكُره. بالنسبة لها، أنا واللاجئُ سواسية، وإن كنت أمتلك جوازًا أوروبيًا؛ أنا وهو من نفسِ الإثنية والطينة ونتكلّم اللغة الدونيّة نفسها: العربية. منذ اللحظة الأولى جرّبتْ فرضَ سلطتِها على المكان؛ بالنبرة الحادةِ والعبوس جرّبتْ أن تقول : أيها الغريبان المزعجان، حتى لو كنتما تتكلمان بلغةٍ لا أفهمها، عليكما أن تقولا لي كلّ شيء، وأنا من يقرّر، فقط! أما أنتما فلا شيء؛ حشرتان تافهتان من نفس الغابة. كان بإمكاني أن أشمّ رائحةَ العنصريةِ تفوح منها ،لكن شيء واحد ما زال مخبئًا فيها وسوف أكتشِفه في النصف ساعة اللاحق: الشّر، أو السادية في الاستمتاع بالاستجواب عن تفاصيل السّجون والتعذيب، بينما عيناها تلتمعانِ ببريقٍ غريب: القسوة الممزوجة بالمتعة.
- ما اسمك؟
- أحمد ..
- من أين أنت؟
- من سوريا، من الحسكة.
- من أيّ مكان تحديدًا؟
- من قرية حجي صالح.
- كم تبعد قريتك عن الحسكة؟
- حوالي ٧كلم.
- حسنا، هل معك أيّ أوراق ثبوتية تثبت هويتك؟
- نعم الهوية، دفتر الجيش، ودفتر العائلة.
- لا تظني أنه بإمكانك خداعي، لا تحاولا التذاكي عليّ، فأنا أفهم العربية.
- هذا رائع. إذًا، لن أضطر إلى الترجمة؛ ذلك سيوفّر علينا الكثيرَ من الوقت.
- هل أنت جنديٌّ في الجيشِ السوريّ؟
- نعم، وأنا هارب من الجيش.
- لماذا؟
- عند بدءِ المظاهراتِ في حلب طُلب منا النزولُ إلى الشارع وقمع المتظاهرين بالقوّة. أُمرنا بفتحِ الرّصاصِ الحيّ عليهم إذا لزم الأمر. عندما أتى الأمر بإطلاق النار لم أستطع! لم تطاوعْني يميني للضغط على الزناد لأقتلَ أبناءَ بلدي وجلدتي وديني. لم أُطع الأوامر، فكان مصيري السجن.
- ما هو دينك؟
- أنا مسلم.
- ما هي إثنيتك؟
- يعني يا أحمد هل أنت عربيٌّ أم كرديّ أم تركماني أم أيزيدي؟
- أنا عربي.
- طيب، متى سُجنت؟ وأين؟
- في سجنِ المخابراتِ العسكرية في حلب.
- لا أعرف...
- كيف لا تعرف؟ ألم تكن في السجن؟
منذ اللحظة الأولى جرّبتْ فرضَ سلطتِها على المكان؛ بالنبرة الحادةِ والعبوس جرّبتْ أن تقول : أيها الغريبان المزعجان، حتى لو كنتما تتكلمان بلغةٍ لا أفهمها، عليكما أن تقولا لي كلّ شيء، وأنا من يقرّر، فقط!
عند بدءِ المظاهراتِ في حلب طُلب منا النزولُ إلى الشارع وقمع المتظاهرين بالقوّة. أُمرنا بفتحِ الرّصاصِ الحيّ عليهم إذا لزم الأمر. عندما أتى الأمر بإطلاق النار لم أستطع! لم تطاوعْني يميني للضغط على الزناد لأقتلَ أبناءَ بلدي وجلدتي وديني. لم أُطع الأوامر، فكان مصيري السجن.تضيف هي بحدّة: اسْأليه إن كانت هناك حشراتٌ على الأرض.
- لا أعرف فقد كنت معصوب العينين طوالَ مدّة سجني.
- لا أعرف. عيناي كانتا معصوبتين.
- صِفْ لنا غرفةَ السجن وماذا كنتَ تأكل؟
- الغرفة كانت صغيرة وضيّقة، أتصور، مظلمة جدًا ورطبة. كنتُ وحدي. الأكل، مرة في اليوم؛ خبز يابس.
- هل تعرّضتَ للضرب أو التعذيب؟
- نعم.
- لماذا؟ أسألُها أنا مستنكرة.
- وإلا ما الذي يؤكد لي أنه تعرّض للتعذيب.
- لقد عصبوا عينيَّ، وربطوني وجلدوني بسلك كهربائي.
- لماذا عذّبوك؟
- ألا تعرفون الكرسي؟ إنها طريقة تعذيب معروفة، ربطوني بحبلٍ إلى الوراء حيث تقوّس ظهري وأرجل الكرسي تخترق ظهري. وضعوني فيها أكثر من ساعة.
- أعرف، أعرف. لا عليك.
- مقدِّم الطلبِ يتحدّث عن مشاعرِهِ حيالَ استعادةِ مرحلةِ التّعذيب.
- حسنا، اسأليه أن يكمل… كلَّ شيءٍ تعرّض له.
- كيف هربتَ؟ من أيّ طريق؟
- بالبرّ؛ من تل أبيض.
- من كان معك؟
- زوجتي وابنتي.
- ما هو تاريخ ميلاد ابنتك؟
- ٢٢ شباط ٢٠١١
- ولكنّ تاريخَ الميلاد في دفترِ العائلةِ هو ١٣ تموز ٢٠١١!
- نعم، لم نسجّلها فورَ ولادتها، سجّلناها لاحقًا.
- حسنا يا أحمد، أعطِني كلّ الوثائق كي أفتش فيها. لأنني لاحظتُ أنه بطيءٌ جدًا في القراءة.
- ما هذه الورقة من الجيش يا أحمد؟
- إفادة بالراتب.
- حسنا، فيها مذكورٌ أنك تتقاضى بدلًا عن النّقل أيضا، كما أنك تتقاضى مبلغًا شهريًا عن زوجتِك وابنتِك. جيّد.
- ماذا سيحصل فيما لو تمّت إعادتُك، نظريًا، إلى سوريا الآن؟
- أعرف يا أحمد. أذكّرك بأن هذا افتراضٌ فقط، ولا أعتقد أنه سيحدث، ولكن فيما لو تمّت إعادتُك إلى سوريا، فما الذي يُهدّدك هناك؟
- سيُعدمونني مباشرةً في حال عُدت؛ وإن لم أقَع بقبضةِ الجيشِ فسيُجبرني الثوّارُ على الانضمام إليهم. أو قد يقتلونني لأنهم لا يستطيعون الوثوقَ بي لأنّي جنديٌّ سابق.
- هل تريدني أن أقرأَ عليك البروتوكولَ كلَّه؟ في حال أردتَ تغيير أو تعديلَ أيٍّ من أقوالِك .
- من حقّهِ أن يطلب إعادةَ قراءةِ البروتوكول إن كان يريد ذلك.
- سوف تحصل على الجوابِ في غضونِ أسبوعٍ بالبريد. تعالَ تحقّق من عنوانِك لو سمحت. هل ما زلت تقطن في فيسير شتراسيه؟
- آه، جيد جدًا! الآن تسكنون أنتم لوحدِكم في شقّةٍ؛ أنتم محظوظون. الآلاف يقبعون في المآوي العموميةِ بانتظار إيجاد سكنٍ خاصٍّ لهم.
- نعم من أجلِ الطفلة أعطونا بيتًا قبلَ غيرِنا كما أن امرأتي حاملٌ. ما هي النتيجة يا أختي؟
- لسنا مخوَّلينَ إعطاءَك جوابًا شفهيًا. لكن، لا تقلق! قصّتُك واضحة، وملفُّك على ما يرام.
- الحالة الأخيرة كانت مع القاضية هوفمان.
- هكذا إذًا يا ماتياس، لقد أرسلتَني إلى غرفتِها مستغلًّا أنني جديدة في إدارتِكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.