"رأس المال جبان" عبارةٌ يردّدها رجال الأعمال للدفاع عن مصالحهم وتبريرِ عدم المخاطرة بأموالهم. ربما لذلك، يصمّون آذانَهم عن ملفاتٍ محرجة، حين يتعلق الأمر بأرباحهم، فهم يمضون قدماً حيث توجد الصفقات المربحة حتى لو كانت على حساب الإنسان. وغالباً ما تبجّل الشركات الكبرى مصالحَها الاقتصادية ولا تُقحم نفسَها في المخالفات الحقوقية، بل أحياناً تقفُ خلف الحكومات لحلّ الخلافات السياسية مع دولة أخرى حين تكون مصلحتُها مع ذلك "الغريم السياسي" كبيرة. لكن يبدو أن الأمور تغيرت بدرجة لافتةٍ الأيامَ الأخيرة، تحت وقع الاهتمام الدوليّ الكبير بقضية اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، حيث أعلنت شركاتٌ غربيةٌ كبيرة مقاطعتها أحدَ المؤتمرات الاستثمارية في السعودية، وبعضها أوقفت تعاونَها مع مؤسساتٍ سعودية وألغت مشاريعَ ضخمة كان يرعاها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. يطرح موقفُ هذه الشركات أسئلةً عدّة بشأن تحول رأس المال من موقع المتفرج المنهمك بعدِّ أرباحه، غيرِ المكترث بحقوق الإنسان، إلى موقع رأس المال "المقدام" المتمتع بحدٍّ أدنى من الأخلاق ومقدارٍ من الوعي تجاه حقوق الإنسان؟ هل الخسائر المحتملة التي قد تتكبدها الشركات الكبرى المنسحبة من الموعد الاقتصادي الكبير في الرياض سيجعلها لا تكرر تلك الخطوةَ في المستقبل؟ هل جسارةُ رأس المال هذه المرة استثناءٌ أملاه الحرج الكبير… لكن يبدو أن رأسَ المال صار يمتلكُ بعضَ الشجاعة، ومن سوء حظّ المملكة أن هذه الشجاعةَ ظهرت في قضيةٍ تتعلق بها، فماذا هي فاعلةٌ؟ وهل ستصرُّ الشركات الكبرى على موقفها الذي أعلنته أم أن اتفاقاتٍ جديدةً يمكن أن تغيّرَ مواقفها؟ الأيامُ القادمة ستحمل الجوابَ… إن تم الكشف عن حقيقة اختفاء جمال خاشقجي.
مقاطعةٌ اقتصادية غير مسبوقة للسعودية
يمكن القول إن قضيةَ اختفاء الصحافي جمال خاشقجي تسببت في مقاطعةٍ اقتصاديةٍ غير مسبوقة للسعودية، على سبيل المثال أعلن الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون أنه سيجمد مشاريعَ عديدةً مع المملكة، ولم يكتف بذلك بل تحدثَ صراحةً عن القضية حين حثّ الرياض على كشف ما حصل لخاشقجي. وقال برانسون في بيانٍ صدر مساء الخميس 11 أكتوبر على موقع مجموعته "فيرجن" "إذا كان ما ذُكر عن اختفاء الصحافي جمال خاشقجي صحيحاً، فهذا سيغير بشكلٍ جذريّ كل مشاريع الغرب لإبرام صفقاتٍ مع الحكومة السعودية" مضيفاً أنه طلب من السلطات السعودية "مزيداً من المعلومات وتوضيحاً لموقفها" من القضية. رجلُ الأعمال الشهير قال في بيانه إنه سيعلّق "مشاركتَه في مشروعين سياحيين. كما ستعلِّق فيرجن محادثاتِها مع صندوق الاستثمار السيادي (السعودي) حول استثمارٍ محتملٍ في شركتي فيرجن غالاكتيك وفيرجن أوربيت الفضائيتين". موقف برانسون لم يكن عزفاً منفرداً، إذ أعلنت كذلك العديدُ من الشركات الإعلامية أنها ستقاطع مؤتمراً استثمارياً كان من المتوقع أن يُعقدَ في السعودية، على سبيل المثال أعلنت لورين هاكيت المتحدثة باسم رئيسةُ تحرير صحيفة إيكونومست زاني مينتون بيدوس في رسالةٍ إلكترونية إن بيدوس لن تشاركَ في مؤتمر مبادرةِ مستقبلِ الاستثمار في الرياض. كما قال المذيع الأمريكي بشبكة سي.إن.بي.سي، روس سوركين، الذي يعمل أيضاً صحافياً اقتصادياً بنيويورك تايمز على تويتر إنه لن يحضرَ المؤتمر مغرداً أنه "يشعر باستياءٍ شديدٍ من اختفاء الصحافي جمال خاشقجي والتقارير الواردة عن مقتله". أيضاً أعلنت المتحدثةُ باسم صحيفة نيويورك تايمز إيلين ميرفي أن صحيفتَها قررت الانسحابَ من رعاية المؤتمر، كما أكدت صحيفةُ فايننشال تايمز في بيانٍ أنها تراجع مشاركتَها في الحدث كشريكٍ إعلامي. الشركاتُ الإعلامية ليست الوحيدةَ التي قررت مقاطعة السعودية، حيث أعلنت شركة أوبر تكنولوجيز في بيانٍ أن دارا خسروشاهي الرئيسَ التنفيذيَّ للشركة لن يحضر مؤتمرَ مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض ما لم تظهر مجموعةٌ مختلفةٌ تماماً من الحقائق المتعلقة بقضية خاشقجي. من جانبه أعلن جاستن ديني المتحدثُ باسم شركة فياكوم أن رئيسَها التنفيذي بوب باكيش لن يحضرَ المؤتمر بعد أن كان أحدَ المتحدثين فيه. وأشار موقع المؤتمر على الإنترنت إلى أن شركاتٍ إعلاميةً أخرى من المقرر أن تشاركَ مثل سي.إن.إن وبلومبرغ. ويبدو أن اختفاءَ خاشقجي أثّرَ بدرجةٍ كبيرة على المؤتمر الاستثماري المعروف باسم (دافوس في الصحراء)، المقرَّر بدءَه في 23 أكتوبر ويستمر ثلاثة أيام. كان مفترضاً أن يحضرَ المؤتمر في دورته الثانية عددٌ من رجال الاقتصاد والأعمال البارزين في العالم، منهم كبارُ مستثمري وول ستريت ورؤساءُ شركاتٍ متعددة الجنسيات في مجالات الإعلام والتكنولوجيا والخدمات المالية. أعلن الكثيرُ منهم عدمَ الحضور، مثل الملياردير ستيف كيس أحدُ مؤسسي إيه.أو.إل، الذي أكَّد رسمياً أنه لن يحضر المؤتمر. أيضاً تسبَّبت قضيةُ خاشقجي في انسحاب مسؤولين ورجال أعمالٍ من مشروعٍ ضخم في السعودية، هو مدينةُ نيوم الاقتصادية، الذي يرعاه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إذ أعلن وزير الطاقة الأمريكي السابق إرنست مونيز تعليقَ دوره الاستشاري في المشروع لحين معرفةِ مزيدٍ من المعلومات عن خاشقجي. كما أنهت مجموعةُ هاربور غروب -شركةٌ مقرها واشنطن تقدم خدمات استشارية للسعودية منذ أبريل 2017- عقداً مع المملكة قيمتُه 80 ألفَ دولاراً في الشهر. وقال عضوها المنتدب ريتشارد مينتز "لقد أنهينا العلاقة". بالتأكيد لم تتوقع المملكة أن تتعرضَ لهذا الهجوم غير المسبوق وهي الدولة التي تعلم جيداً أن أموالَها تمكنها من المرور بكل سهولةٍ من أية صعوباتٍ تواجهها."إذا كان ما ذُكر عن اختفاء الصحافي جمال خاشقجي صحيحاً، فهذا سيغير بشكلٍ جذريّ كل مشاريع الغرب لإبرام صفقاتٍ مع الحكومة السعودية".. الشركاتُ الإعلامية ليست الوحيدةَ التي قررت المقاطعة، شركاتٌ تكنولوجية واستشارية أيضاً
لم تتوقع السعودية أن تتعرضَ لهذا الهجوم غير المسبوق وهي الدولة التي تعلم جيداً أن أموالَها تمكنها من المرور بكل سهولةٍ من أية صعوباتٍ تواجهها
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...