لا يوجد من يماثله في إثارة اهتمام الرأي العام ووسائل الإعلام في عالمنا العربي حين يتحدث. قد تتفق أو تختلف مع ما يقوله ولكنه يجبرك على أن تنصت إليه حتى النهاية، هو صاحب القلم الذي أرخ لعقود عديدة من عمر الوطن العربي في القرن العشرين. محمد حسنين هيكل، اسم لرجل تسعيني لا يزال يمتلك ذاكرة يحسده عليها الشباب، وحيوية واطلاعاً لا يرقى إليهما الكثير من الصحفيين العرب. ربما كان العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز على حق حين سأله في أحد لقاءاته به: "شو تتعاطى؟" ليعبر عن دهشته من هذا الشباب التسعيني الذي يطل من هيكل في تحليلاته وحضور ذهنه وغزارة معلوماته.
في الدقائق الأربع الأولى من حديثه للميس الحديدي عبر قناة CBC المصرية يلخص الأستاذ هيكل نظرته إلى 2014 في خشيته من أن يتحول إلى نتيجة لمقدمات خطرة نراها في "أعمدة النار" المشتعلة في أرجاء عديدة من الوطن العربي، وأنه ما لم تسترجع مراكز القوة الكامنة التي اهتزت بفعل الثورات والاضطرابات مكانتها ودورها فإن "الطوفان قادم" وأي نظرة على الخريطة سترينا "مشهداً مأساوياً".
يتحدث الأستاذ عن جولته العربية وما سمعه من مخاوف وآمال وخطط، وقد بدا في هذا اللقاء متصالحاً إلى حد ما مع دول الخليج التي تثقل علاقته بها (وخصوصاً المملكة العربية السعودية) تركة صدام قديم كان يقوده إعلامياً إبان العهد الناصري. في هذا اللقاء يقول إنه لا يعتذر عما سبق، لكن كلامه عن لقاء سابق بالعاهل السعودي ووصفه للملك بأنه رجل حسن النية، وإعجابه بتجربة الإمارات الاقتصادية وتواجد الشباب فيها يبدو أكثر مرونة ودبلوماسية.
في حديثه عن لبنان الذي حرص فيه على اللقاء بكل أطيافه، برر الأستاذ لحزب الله تدخله في القصير وقال إنه بهذا استطاع تغيير كثير من الحسابات التي كانت تراهن على الحسم العسكري لصالح المعارضة، وهو قول متسق مع موقفه الذي لم يخفه يوماً في الميل لحزب الله وكل قوى "الممانعة". استفاض في الحديث عن سوريا، وتحدث عن الضربة الأميركية التي تبخرت احتمالاتها بعد الاتفاق على تصفية المخزون الكيمياوي، واستشهد بمقال الصحافي الأميركي المعروف سيمور هيرش Seymour Hersh الذي نشره مؤخراً وقال فيه إن الإدارة الأميركية "انتقت" الأدلة على مسؤولية النظام السوري عن الهجوم بالسارين على الغوطة و"عدلتها زمنياً" لتبرر عملاً عسكرياً ضد سوريا. هنا يبرز الأستاذ هيكل مقالة هيرش وكأنها الدليل القاطع على تلفيق الإدارة الأميركية للتهمة ضد الأسد، وينسى "الجورنالجي" المحترف، كما يحب أن يصف نفسه، أن يقدم الصورة الواسعة لقرائه ومشاهديه، أو لعله تعمد ذلك لإثبات وجهة نظر متحفظة على التغيير لم يخفها منذ اندلاع الثورة في سوريا.
إن إلقاء اسم صحافي أميركي معروف على المشاهد العربي الذي قليلاً ما يتابع الصحافة الأميركية إلا ربما في ما يراه مترجماً على صحفه العربية، قد يضيف شيئاً من المصداقية المطعمة باسم محمد حسنين هيكل كمصدر ذي خبرة وثقة. ولكن ما لم يقله الأستاذ، والذي لا نشك في معرفته به، إن هيرش عرض مقالته هذه في البدء على مجلة النيويوركر The New yorker الشهيرة والرصينة والتي نشرت له تحقيقه الأشهر عن سجن أبو غريب الذي هز الإدارة الأميركية إبان حرب العراق، ولكن المجلة التي تشتهر في الاعلام الأميركي بامتلاكها أحد أفضل أقسام "تدقيق المعلومات" رفضت نشر مقالته الأخيرة لعدم قدرتها على تأكيد ما ورد فيها. كذلك فعلت زميلتها الشهيرة الواشنطن بوست The Washington Post، والتي اعتذرت عن النشر "لعدم مطابقة مصادر المعلومات في المقال لمعايير البوست المهنية".
لم يشر الأستاذ أيضاً إلى تحليلات أخرى نشرتها صحف يعتد برصانتها المهنية كالنيويورك تايمز The New York Times في تحليلها للتقرير الأممي عن هجوم الغوطة تخالف ما ذكره هذا التقرير اليتيم لهيرش والذي لم يحظ بمساندة تذكر من وسائل الإعلام الأميركية. أضف إلى هذا أن سيمور هيرش معروف بمقالاته المثيرة للجدل، والتي قد لا تقف في أغلب الأحيان على أرضية صلبة مثل مقالته عن مقتل بن لادن والتي وصف فيها العملية بأنها "كذبة كبيرة". وإن كنا هنا لا نقطع بمن يقف وراء الهجوم، إلا أن عرض جانب واحد من صورة تتصارع فيها الصور والألوان والأوجه لحد التداخل لا يعطي فرصة عادلة للمشاهد أو القارئ ليبني رأياً صائباً. فنحن لا نبتسر الحكم كما أوحى الأستاذ باعتماده على مقال دون غيره، ولكننا ندفع بحق المشاهد في أن يعرف جيداً حتى يحكم جيداً. أثناء كتابة المقال، نشرت صحيفة النيويورك تايمز تحليلاً جديداً لعالمين، أحدهما من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology والآخر من مختبرات تسلا Tesla Laboratories يرجحان فيه مسؤولية نظام الأسد عن الهجوم الكيمياوي على الغوطة.
في ما يخص إيران، تحدث الأستاذ عن طبيعة العلاقات وقال محقاً إنه من الخطأ أن تبقى العلاقات بين دول الخليج وإيران متوترة بهذا الشكل. أضاف، وهو العالم بهذا البلد المهم في المنطقة منذ أصدر كتابه "إيران فوق بركان" في الخمسينات، أن إيران في طريقها لحل مع الغرب وأن المخاوف العربية منها "مبالغ فيها وغير مبررة". في هذه النقطة نود أن نفصل حديث الأستاذ إلى نقطتين هامتين.
أولاً، إنه من الخطأ والخطر أن تبقى العلاقات العربية (وبالذات لدول الخليج العربي) مع إيران بهذه الدرجة من انعدام الثقة، والترقب والحرب غير المعلنة. وهيكل في هذه النقطة محق، فحقائق الجغرافيا والتاريخ تفرض على الطرفين أن يجدا صيغة للتفاهم عوضاً عن استنزاف الطاقات في صراع لن تكون فيه الغلبة لأحد. فإيران لاعب مهم ومؤثر في المنطقة ولكن صراع القوى والنفوذ الذي أخذ طابعاً مذهبياً منذ عدة سنوات ما زال يلقي بظلاله على شكل العلاقات ويخلق حاجزاً نفسياً يصعب تجاوزه، على الأقل في المستقبل المنظور.
ثانياً، إن النظرة الوسطية للأمور تقول لنا إن الأستاذ أصاب حين شخص العداء السني - الشيعي في المنطقة ووصفه بالمصيبة، ولكن القول بشكل عام إن المخاوف العربية مبالغ فيها وغير مبررة يحتاج لوقفة. فالتدخل الإيراني في عدة مناطق عربية كلبنان والعراق واليمن تدريباً وتسليحاً وتمويلاً وتشجيعاً لأحزاب مذهبية يدفع الآخرين إلى الشعور بأنهم قد يقعون أسرى حصار سيتهدد أمنهم وطبيعة أنظمتهم مستقبلاً. بغض النظر عن رأي أي منا في هذه الأنظمة وتوافقها مع روح العصر والقيم الديمقراطية، فإننا نختلف مع الأستاذ في إلقاء اللوم على الجانب العربي وحده. فإيران مطالبة أيضاً كما العرب بإبداء حسن النوايا وتطمين المخاوف بخطوات فعلية صادقة. إن تطوراً هاماً كهذا يحتاج إلى تغيير في الرؤى الاستراتيجية لكل الأطراف وإعادة تحديد الأولويات وتعريف الأخطار وهذا متروك بالدرجة الأولى لإحساس الأطراف المتصارعة بالإنهاك وهو ما لم نره بعد.
يؤكد الأستاذ على أهمية الدور التركي، رغم تداعي حلم الخلافة العثمانية الذي سعى إليه أردوغان والذي يفسر عنفه في انتقاد الوضع في مصر وتطرفه في تأييد الأخوان المسلمين. ومع نقده لهذا الحلم ووصفه لأردوغان بأنه يعاني من "متلازمة تاتشر" التي تعني نسيان النفس والضياع في الأسطورة، إلا أنه لا يؤيد قطع العلاقات معها وتأزيم المواقف.
حين يلمس الأستاذ الموضوع المصري نراه يتدفق حميمية ويفيض بالمعلومات، فيض المطلع العارف والحزين الآسف. يغذينا الأستاذ بمعلومة عن "الحقائب" التي تدخل المكاتب لترشو المسؤولين، ونعرف منه أن هناك "شنط أم 3 وأم 5"، وهو ما يؤكد حقيقة أن الوضع المصري أصبح شبيهاً بالوضع السوري من حيث تداخل الخطوط وفيض المال السياسي الذي يشتري الولاءات والمواقف.
ليس غريباً أن يرحب الكل به، وأن يتلقى الدعوات من إيران وسوريا ودول الخليج للزيارة. فالجميع يعرف أن الأستاذ هو موضع ثقة واحترام الفريق السيسي، وبالتالي فهم يتكلمون مع صحفي مخضرم خبر المنطقة وشؤونها منذ أكثر من ستين عاماً، وهو في الوقت ذاته عاد ليصبح موضع ثقة الحكام الحاليين والقادمين لمصر. قد يكون من المغالاة أن نقول إن الأستاذ قد عاد لموضعه الذي تبوأه إبان الحقبة الناصرية، ولكننا لا نكون متجاوزين إذا قلنا إنه بكل تأكيد ينتفض حيوية وهو في التسعينات من العمر ويتحدث بلسان من يعلم يقيناً أن قوله يلقى أذنا صاغية عند أولي الأمر بعد أن عادت السلطة لتقترب منه وتخرجه من دائرة التجاهل الرسمي أيام مبارك، وعلاقة الهدنة المتوترة أيام حكم الرئيس الإخواني، محمد مرسي.
يلح الأستاذ في أن على مصر أن تقف على قدميها في العام القادم وتلملم نفسها. وهو لا يعتقد، وربما على الأغلب لا يود، أن يرى السيسي مرشحاً للرئاسة. هذه نقطة نتفق معه فيها ونرى حكمته في ابتعاد الجيش عن مسؤوليات الحكم، فكل هذا الفيض من التعاطف الشعبي مع الجيش والسيسي قد يذوي ما لم يشعر الناس بتحسن سريع في حياتهم اليومية وهو ما قد يكون صعب المنال في ظل التحديات الجديدة التي تفرضها الضرورات الأمنية.
إنه من غير المستبعد أن نرى الفريق السيسي مرشحاً للرئاسة خلافاً لما يريده الأستاذ ومعه العديد من العقلاء. فالمزاج المصري العام، وخصوصاً بعد تفجيرات مديرية أمن الدقهلية، أصبح أكثر ضغطاً على المؤسسة العسكرية لتحفظ أمن البلاد وتضع على سدة الحكم رجلاً قوياً يتمكن من ضبط الأمور خاصة بعد أن أغلقت الحكومة كل الأبواب أمام الإخوان بإعلانها جماعة إرهابية، مما سيدفعها إلى العمل السري ويعيد للبلاد أجواء عامي 1954 و1965 حين انقضت السلطة على الجماعة بعنف وكان هذا مقدمة لانتشار الجماعات الأكثر تطرفاً في السبعينات والثمانينات.
نقتطف من كلام الأستاذ قولاً نسبه إلى الرئيس بشار الأسد عن طريق سفيره في لبنان، وهو أن الأسد لا يريد إثقال مصر الآن بمشاكل سوريا ولكنه يأمل أن تقف على قدميها لتلعب دورها في المنطقة مستقبلاً، وهو ما يؤشر إلى أمل سوري في بروز دور مصري أكبر في المنطقة في المرحلة القادمة لتوازن حالات الاستقطاب التي انجرف إليها اللاعبون الكبار مثل السعودية وقطر وإيران وتركيا. وهو يرى أن تزايد نفوذ القاعدة قد فتح أمام بشار الأسد أفق الترشح للرئاسة والفوز فيها، بدون تزوير!
العام المقبل قد يكون عام البدايات، أي العام الذي تتشكل فيه معالم المستقبل القادم في المنطقة: فخارطة الطريق تمضي في مصر وإن ببطء، رغم التصادم الحاد مع الإخوان والتيارات الإسلامية الأخرى، والوضع في سوريا مقبل على مساومات بعد أن تيقن الكل أن الحسم العسكري بات أصعب من أي وقت مضى، والقضية الفلسطينية تمر بمخاض جديد من المفاوضات الشاقة ستسفر، هذا إذا نجحت، عن إطار اتفاق يكرس الواقع على الأرض. أما ليبيا، والتي وصف الأستاذ الوضع فيها بأنه مروع، فقد تلاشت ملامح الدولة، وما نراه هو محاولة لإدارة الأزمة من قبل الحكومة الحالية التي عجزت حتى الآن عن بسط سلطتها وتحاول أن تلملم شتات بلد يبدو أنه يترنح على هاوية الانقسام. لبنان، من جهته، سيبقى مرآة تعكس الصراع المذهبي في سوريا، تلسعه النيران المجاورة بين حين وآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين