شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لذّة التلصّص على

لذّة التلصّص على "عيوب" الآخرين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 2 أكتوبر 201804:13 م
يعمل إيد هيلمز بطل فيلم "المصفق" (The Clapper) ممثلاً، بصورة أدق مصفقاً محترفاً، يتم التعاقد معه ليصفق في خلفية المسلسلات والبرامج التلفزيونيّة، وكل يوم لديه عدد من مشاهد التصفيق في مختلف البرامج. الدور الذي يلعبه هيلمز هو مهنة ضمن صناعة الاستعراض، وتُسمّى "الجمهور الموجه"، ذاك الذي يصفق ضمن الأداء العلنيّ المصوّر، بوصفه صوت ردود الأفعال على ما يحدث، كأصوات الضحك والتصفيق التي نسمعها في المسلسلات، وهكذا يبرز مكان النكتة والمشكلة أو الإحراج بردود إفعاله المتفق على زمنها و طولها مسبقاً. يكتشف أحد مقدمي البرامج الفكاهيّة أنّ هيلمز مؤدٍ، ويتتبع ظهوره في البرامج المختلفة، ويحوله إلى أضحوكة وطنية، فأصبح الجميع يعلم من هو بعد أن كان "خفياً" بالرغم من أنه مرئيّ على الشاشة، ويبدأ الناس بملاحقته للسخرية منه أو للتصور معه، ويقومون بتبادل صوره وتقليده.
السياق السينمائيّ السابق يتلاعب بعدد من المتغيرات التي تحضر في أدائنا اليومي العلنيّ، وتتحكم بسلوكنا العام أمام الآخرين، بوصفنا موضوعات مرئيّة، يتوقع منها شكل ما من السلوك ضمن كل سياق، وكأن هناك "سكريبت" يضبط السلوك، ويجب الالتزام به وبالدور المخصص لنا ضمنه، كي لا نتحول إلى أضحوكة أو الاعتقال في بعض الحالات. مرئيتنا للآخرين أو للكاميرا، تجعلنا دوماً محكومين بتوقعات معينة، بأنْ "نؤدّي" بصورة "مناسبة"، تجعلنا مقبولين لدى الآخرين، ومحكومين بما يتوقعون، وبذلك نصبح مؤدين مثاليين لأدوارنا، حتى لو لم نكن مقتنعين بما نفعل، لكن المرئية لها شروطها السياسيّة، كأن يتحول من يمشي على أربعة في الشارع إلى أضحوكة، بالرغم من أنه لا يوجد أي قانون يمنع ذلك.
كأن هناك "سكريبت" يضبط سلوكنا العلني، ويجب الالتزام به وبالدور المخصص لنا ضمنه، كي لا نتحول إلى أضحوكة أو الاعتقال في بعض الحالات.
عن رغبتنا الجمعية بممارسة الخطأ والشذوذ عن القاعدة
هذه العوامل ضمن "مجتمع الاستعراض"، جعلتنا جميعاً عرضة لنتحول إلى سلعة تتبادل على منصات التواصل والنشر المختلفة، الرسميّة وغير الرسميّة، فزلة صغيرة أو خطأ ضمن حياتنا اليوميّة أو "أدوارنا المحددة"، قد يحولنا الواحد منا إلى meme، أو تعليق ساخر، أو فيدي على يوتوب ينال ملايين مشاهدة ويجعل صاحبه غنياً ومشهوراً، كمشاهير اليوتوب الذين لم يفعلوا شيئاً سوى أنهم "أخطؤوا" أثناء فعل يومي وتقليدي. كمارك هيكس، الذي اشتهر بوصفه محترف النينجا الأخرق، بسبب سقوطه وضربه لنفسه أثناء تقديم فيديو لشركة نايكي ليعمل معهم في إعلان، علماً أنه خبير فنون قتال ورجل مخاطر، لكنه أخطأ، وتحوّل ومن هم مثله إلى جزء من الثقافة الشعبيّة، يحضرون حتى في مسلسل south park للسخرية منهم.
هذه "الأخطاء" ترتبط بنظريتي الأداء والكوميديا، وما تقدمه من محركات تساهم في جعل فيديو لطفل يعض أًصبع أخيه، ينال أكثر من 800 مليون مشاهدة، وآخر ينال ما يزيد عن مليون مشاهدة لأن فيه والداً يحطم الـplay station4 الذي اشتراها ابنه.

تأملات بموقعنا كبشر في مجتمعات تراقب بعضها البعض، نسجل فيها ونستنسخ وتتبادل ونعلق على ملايين المعلومات والصور

فهذه "المنتجات" ظاهرة ثقافية تفسر موقعنا كبشر في مجتمعات تراقب بعضها البعض، نسجل فيها ونستنسخ وتتبادل ونعلق على ملايين المعلومات والصور.

خطأ غير متوقع في سياق مضبوط

الخطأ غير المتوقع قديم قدم الكوميديا نفسها، ويحضر في مختلق تنظيرات الكوميديا المسرحيّة، لكن هذه الأخطاء خارج سياق "المسرح"، تصبح مضحكة كونها لا تنتمي للعب المفترض على الخشبة، بل بمخالفة تقنيات الضبط والتقنين التي نمارسها ونحن في "العلن"، سواء كنا في الشارع أو في مسيرة أو حتى في فيلم إباحي هاو، فكل سياق يفترض مسبقاً مجموعة من القواعد والتقنيات التي تمنع الزلات. كأن تمشي عارضة الأزياء بصورة دقيقة على الممر كي لا تقع، أو أن نضبط سرعة كلامنا، كي لا نبصق فجأة بوجه محدثنا، ما يعني التحكم بحركة شفاهنا وتسارع الكلمات، لكن، ولسبب غير معروف يحصل خطأ ما، زلة غير متوقعة، كأن يسقط المذيع عن كرسيه، أو أن يتفوه بسباب أثناء حديث عادي دون أن يعلم. هذا الخطأ غير المتوقع مرتبط بأفق التوقعات الذي نتملكه عن تقنيات الظهور العلني التي نعرفها، ومخالفتها تعني أن الشخص وقع ضحية قوة لا يمتلك السيطرة عليها، كأن يقع البابا بالخطأ، والمفارقة هنا أنه لا يمتلك سلطة على الجاذبيّة، فالخطأ يكسر حدود التوقع الذي نعلم حضوره بمجرد أن نكون في مكان ما أو نشاهد شيئاً ما وخصوصاً أنه يشكل مفاجئة غير متوقعة، كلا المشاهد والمؤدي لا يعلمان عنها أي شيء.

فخ سوء الأداء

يرتبط سوء الأداء بتوقعنا المسبق لما نشاهده أو نقوم به، أي نحن نتوقع من ممثل كوميدي أن يضحكنا، ومن مذيع أن يقول نشرة الأخبار دون أخطاء، أو من رئيس أقوى دولة في العالم أن لا يتحدث عن طول قضيبه، لكن سوء الأداء هنا، خطير كونه يعدل العرف العام، وطريقة تعاملنا مع بعض، وما هو مقبول وغير مقبول، لكن سوء الأداء الكوميدي والساخر في الكثير من الأحيان، يفقد الأداء جديته وقدرته على الإقناع، وهذا ينطبق على المسرح والتلفاز والسينما والحياة اليوميّة، فعدم الانضباط ولو ببعض قواعد الأداء، قد تجعل الفرد أضحوكة بسرعة، وليتحول أداؤه حتى ولو كان جدياً وتراجيدياً إلى مدعاة للضحك ولا بد من تداوله ومشاركته مع الآخرين، كحالة العجوز الذي بكى وتحول إلى أَضحوكة، فقط لان بكائه لا يتطابق مع متخيلاتنا عن أشكال البكاء.
أو كحالة ممثلة الدوبلاج السوريّة أمل حويجة، التي أثارت موجة من الضحك وضده، إثر تأديتها لصوت ماوكلي وهو يبكي على أطفال سوريا، بالرغم من جديّة الموضع، وعدم احتماله للسخريّة، لكن اللحظات التي تؤديّ فيها حويجة صوت ماوكلي وهو يبكي كانت مضحكة، سواء كانت ضمن سياقها أم لا، هي سوء أداء، لم يمتلك البعض أنفسهم من الضحك وتبادل الفيديو بعدها والتعليق عليه.

انفلاتات ما قبل اللغة

نمتلك كبشر وجماعات متباينة ثقافيا وعرقياً وجندرياً مجموعة من العلامات والتعابير الجسديّة وردود الأفعال اللا لغويّة، التي تبدو كأنها عميقة في رؤوسنا، لا ندري بدقة إن كنا نتعلمها بعد الولادة أو تخلق معنا، كالضحك عند الفرح، أو رفع الحاجبين عند الاستغراب. بعض هذه "التعابير" مشتركة ومفهومة للجميع كالضحك والصراخ والتكشير، وعادة ما نستخدم هذه التعابير في أغلب السياقات، وأحياناً نضطر لتمثيل بعضها في العديد من الأماكن، كالضحك بالمجاملة، وبالطبع نستطيع تمييز هذا النوع من "الأداء"، والآخرون يميزونه أحياناً دون الحديث عنه، ما يدفعنا دوماً لتطوير تقنيات لضبط وإتقان هذه التعابير.
أحياناً تنفلت منها هذه التعابير دون انتباه أو تمثيل، وكأنها تحدث دون وعينا بها، خارقة كل تقنيات الضبط التي نستخدمها، كما حدث للشاب في أحد خطابات ترامب، والذي بدا على وجهه علامات الاستغراب والدهشة من نقاط أثارها ترامب، ما أدى لطرده لاحقاً من قبل منظمي الحفل. لكن أثناء استماعه لترامب بدت ردود أفعال الشاب مضحكة، كونه خارج أداءه المضبوط أمام الكاميرا ووراء ترامب، فانفعلاته تلك تعكس ردود أفعاله بدون عمليات التهذيب والضبط والتقنين، وكأنه يتحرر من قيود "السيناريو" العلني، ويكسر جدية حضوره، كون ردود الأفعال هذه لا يمكن السيطرة عليها في بعض الأحيان، مهما كان السياق محرجاً وجدياً، كالمذيعة التي لم تتمكن من ضبط ضحكتها، أثناء حديثها مع ضيفها الجديّ. 

تبادل الأدوار

أبرز العوامل التي تفعل صيغة الضحك وتحول الفرد إلى مجرد فيديو يتبادل على اليوتوب، هي تقنية تبادل الأدوار، سواء كانت عن وعي أو غير وعي، فهي بتاريخ المسرح والأداء، ومازالت تستخدم حتى الآن ضمن المنتجات الفنية والثقافية المختلفة. تكتسب صيغة تبادل الأدوار جاذبيتها من كونها تسخر من الدور الأساسي الذي يتم تمثيله، ومن سلوك المؤدي ذاته وقدرته على تجاوز جسده الحقيقيّ مفعّلاً ما يسمى الـdisembodiment وهي التقنية لتي يلغي فيها الممثل حضوره كجسد مادي ذو مرجعية شخصية ويتقمص علامات وأشكال الشخصيّة التي يؤديها، المثال الأشهر هو تشارلي تشابلن وتأديته لدور هتلر في الديكتاتور العظيم. وما يميز تبادل الأدوار الكوميدي هو عدم الحاجة للإتقان بالتقمص، فالعيوب والأخطاء جزء من الإضحاك، وأحياناً تكفي كلمة واحدة أو أشارة واحدة، تحيل إلى شخص ما غير "الأنا"، لخلق الضحك، حتى لو لم تكن هذه الإشارة متقنة، وهذا ما نراه حين نشاهد فيديو عن قطة تبدو كأنها تتحدث كبشري، أو طفل يتحدث كأنه عمدة نيويورك، أو ترامب يسخر من مراسل صحفي مصاب بالإعاقة.

لذّة الهوس بالعيوب

في ظل ثقافة الاستعراض الطاغيّة، وقوانين الأداء واللياقة والانضباط التي تفرض علينا حتى ونحن في منازلنا، تبرز هذه الأخطاء كأنها لحظات من التلصص، واكتشاف السريّ والمعيب، وكأن هناك متعة منحرفة ترافق مشاهدتها، كونها غير يوميّة، ولا تحضر بصورة دائمة، أِشبه بالأفلام الإباحيّة الهاويّة، حيث نتابع الأوقات المسروقة والمساحات السريّة التي لا ينضبط فيها الفرد بالأداء العلنيّ. لكن هذه "التسجيلات" و"الأخطاء"، وبعكس الإباحيّة، يمكن تبادلها علناً ونشرها والتعليق عليها دون حرج، كون هذه الأخطاء تتجمع وتُمنتج وتتحول إلى فيديوهات وطويلة ومتتاليّة تَختزل تًكثف هذه اللحظات بوصفها Aperformative، لتشابه سلاسلها -compeulations أوقات اللعب الحرّ الذي لا يراقبنا فيه أحد، وكأنها جزء من ماكينات للرغبة، تسعى ديناميكياتها لتكثيف الأخطاء وجمعها وحفظها وإنتاجها، لتلبي رغبتنا الجمعية بممارسة الخطأ والشذوذ عن القاعدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image