تلفت أسماء المدن او الحارات أو المناطق انتباه حتى أبنائها. فأسماء مثل "أمّ الغزلان" و"أم الدبس" و"أبو عرابيد" ما هي إلا أسماء منطلقة من ثقافة أهل المنطقة العربية في إيران (الأهواز)، ولكن أسماء مثل "كانتيكس" و"كامبلو" تضع حتى ساكنها في متاهة معنى الاسم. وهذا ما حدث لي شخصيا مع "كامبلو" (campolo).
تقع منطقة "كامبلو" في غرب مدينة الأهواز. وكانت قبل أكثر من 50 سنة معسكرا أمريكيا، ثم أطلق عليها منطقة "الشاه"، وبعد الثورة أطلق عليها منطقة "الثورة" (انقلاب في الفارسية). ولكن الجميع مازال متشبثا بتسمية "كامبلو".
فبدأ سؤالي من أهالي المنطقة، غير أنهم جميعا لم يعرفوا سبب التسمية، وقلة منهم فقط أشاروا إلى أنها كانت منطقة سكن أجانب وبالتحديد أمريكيين وبريطانيين؛ كما أن شخصا واحدا طاعنا في السنّ قال بكل ثقة: كانت المنطقة معسكرا للبولنديين.
هجم الألمان على بولندا فلم يصبر الاتحاد السوفيتي فهجم هو أيضا بدوره عليها، وتقاسمها الاثنان. وبدأت عملية النزوح. وتنقل المصادر الإيرانية أنّ البولنديين المسيحيين جاؤوا إلى إيران في الحرب العالمية الثانية، وهناك تأكيد كبير على مسيحية البولنديين المهاجرين، بل كل قبورهم حملت علامة الصليب.
إنّ الرجال الإيرانيين اختاروا الجميلات من البولنديات للزواج منهن. فمن بين الإحصائيات المتناقضة عن عدد اللاجئين البولندين في إيران والتي تعدهم بين 2500 إلى 36 ألف لاجئ، والإحصائيات شبه الرسمية التي تؤكد بأن عددهم كان 120 ألف لاجئ.
كان الجميع يحاول إخفاء انتماء البولنديين المهجرين أي الديانة اليهودية. وحتى الآن يتخوف الكتاب إلا قلة منهم من الإشارة إلى ديانتهم، مكتفين بما تحمله شواهد القبور من الصُّلبان.وكانت إيران بدورها تحت الاحتلال؛ فجنود الاتحاد السوفيتي دخلوها من الشمال، والبريطانيون من الجنوب. وحسب اتفاق دول التحالف كان على إيران استقبال 120 ألف لاجئا بولنديا. بدت تتضح التسمية أكثر فهي كامبلوس وكامب بولونيا وكامبلو. حدد الحلفاء أهدافهم من اللاجئين، فاسكنوهم، بعد نزولهم في ميناء "أنزَلي" شمال إيران، في خمس معسكرات تتوزع على مناطق بطهران هي دولاب ويوسف آباد وقعله مُرغي. ومن كان باستطاعته حمل السلاح من الرجال والنساء فقد أُخذ لساحات الحرب في مونت كارلو والعلمين. وخُصصت مدينة أصفهان للأطفال اللاجئين اليتامى. والمخرج الإيراني خسرو سينائي هو الوحيد الذي وثق هجرة البولنديين إلى إيران في فيلمه الوثائق "المرثاة الضائعة" (مرثيه كُمشُده). حيث ينقل شاهدُ عيان سكن بالقرب من ميناء أنزَلي، وهو المصور الوحيد الذي لفتوا انتباهه فالتقط لهم الصور: يموت منهم يوميا 30 إلى 50 شخصا. كل النساء اللاتي يظهرن في الفيلم، واضحٌ الجمال على ملامحهن رغم تقدمهن في العمر. وهذا يؤكد الرأي القائل بين الإيرانيين: إنّ الرجال اختاروا الجميلات من البولنديات للزواج منهن. فمن بين الإحصائيات المتناقضة عن عدد اللاجئين البولندين في إيران والتي تعدهم بين 2500 إلى 36 ألف لاجئ، والإحصائيات شبه الرسمية التي تؤكد بأن عددهم كان 120 ألف لاجئ، وهو العدد الذي يعتمد عليه المؤرخون في إيران، يقول فيلم "المرثاة الضائعة" إن العدد تجاوز 400 ألف لاجئ، ولم يبق من هذه الأعداد إلا أقل من 200 لاجئ في إيران. اتضح نقل البولنديين إلى طهران وأصفهان، ولكن ما هو السبب في نقلهم إلى مدينة الأهواز؟ ولماذا لا يتذكرهم الناس وقلة قليلة فقط من تعرف مقبرتهم الواقعة بالقرب من منطقة "العامري". تكررت سرقة محتويات القبور وشواهدها في عدة مدن، حتى اضطروا لوضع حراس على المقابر لفترة من الزمن. ثم تُرك الأمر مرة أخرى. بينما مقابر البولنديين هي الأثر الأكثر وضوحا على وجودهم في المدن التي عبروا منها. قرر البريطانيون ترحيل بعض البولنديين إلى فلسطين وأفريقيا، وحددوا المعسكر لهم في مدينة الأهواز لينقلوا من الموانئ القريبة من المدينة، بينما تولى الأمريكيون حماية المعسكر. فأطلق عليه كامب بولونيا " Camp Polonia"، ومع مرور الوقت تغيرت التسمية إلى "كامبلو" مبتعدة تماما عن "أمّ الغزلان" و"أمّ الدبس". تقول شاهدة بولندية قدمت شهادتها في فيلم سنائي وتعلمت الفارسية: "في العام 1947 وجدت لي زوجا لأنهم أرادوا طردي من البيت، لأننا لم نملك المال". عينان زرقاوان وشعر أشقر وبشرة بيضاء وعمر جاوز الستين. كأنها تؤكد أنّ زوجها اختارها لجمالها، أو قبل بها لجمالها. بات الجمال ورقة إقامة للبولنديات أو وثيقة للحصول على الجنسية. ثم رُحّل كلّ مَن كان في كامبلو إلى أفريقيا وفلسطين، وكما هو واضح كان الجميع يحاول إخفاء انتماء البولنديين المهجرين أي الديانة اليهودية. وحتى الآن يتخوف الكتاب إلا قلة منهم من الإشارة إلى ديانتهم، مكتفين بما تحمله شواهد القبور من الصُّلبان. قبل فترة ليست بعيدة، انطلقت أصوات مطالبة بحماية مقابر البولنديين في الأهواز بعد أن دمّرت قبورها وسُرقت، ومارس الناشطون ضغوطا كبيرة لتحويل المقبرة إلى معلم سياحي. وليس بعيدا لا مكانا ولا زمانا، كانت مقبرة الصائبة- أو أقدم مقبرة للصائبة في الأهواز- تساويها الجرافات مع الأرض، وسط صمت مطلق. وقد هُجّر الصابئة قبل قرون إلى الأهواز بعد حادثة أطلق عليها "صابي كشون" والتي تعني مقتلة الصابئة في الفارسية. وسيأتي لاحقا الحديث عنها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه