عقب إسقاط أمريكا لنظام صدّام حسين، راحت كل الأنظمة العربية تربط في خطاباتها بين مطالبة بعض الفئات الشعبية بالديمقراطية وبين "مؤامرة خارجية" تهدف إلى إشاعة الفوضى في الداخل. وضعت الأنظمة أمام الشعوب خيارين لا ثالث لهما: إما الاستقرار الاستبدادي أو الفوضى. بعد موجات "الربيع العربي" عاد الحديث القديم، والدافع لا يزال هو نفسه: الأنظمة تكره التغيير.
كانت لافتةً جداً برقيةُ التهنئة التي أرسلها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية. ما أعطاها قيمة سياسية تفوق الهدف الديبلوماسي العادي منها كان توصيف الملك للأحداث التي شهدتها مصر "في الفترة الماضية" بأنها "فوضى أسماها البعض ممن قصر بصره على استشراف المستقبل بالفوضى الخلاقة"، مضيفاً أنها "لا تعدو في حقيقة أمرها، إلا أن تكون فوضى الضياع، والمصير الغامض، الذي استهدف ويستهدف مقدرات الشعوب وأمنها واستقرارها".
الخوف من التغيير
لو اكتفى الملك عبد الله بالحديث عن "فوضى" لما كان للأمر أهمية ولكنه نبش مصطلح "الفوضى الخلاقة" من الماضي القريب، فذكّرنا بالسجالات التي دارت عام 2004 خاصة حين اعتبر أن "هذه الفوضى دخيلة علينا". كلام ابن عبد العزيز ليس عابراً. فهو يعرض لفكرة يكثر الحديث عنها في الصحافة الرسمية. هنالك سعي جدّي إلى ذمّ "الربيع العربي" بالمطلق. وعليه تكون "الفوضى الخلاقة" قد بدأت مع أول تظاهرة ضد السلطة.
في مقال بعنوان "نظرية الفوضى الخلاقة، لماذا اختارت الإخوان المسلمين لتنفيذها؟"، كتب د. علي بن حمد الخشيبان، في صحيفة "الرياض": "اليوم وبعد أكثر من عقد من الزمن في محاولة تنفيذ مصطلح الفوضى الخلاقة يجد العرب أنفسهم أمام أزمات فكرية وسياسية وثقافية ساهم فيها الربيع العربي كما يسمّيه العرب ونظرية الشرق الأوسط الجديد كما يسمّيه الغرب". الخشيبان اعتبر أن هذه الفكرة هي فكرة "استعمارية" اختار الغرب جماعة الإخوان المسلمين لتنفيذها كونهم يعانون من "نقص الوعي السياسي".
إذن هي محاولة لإخراج مفهوم الشعب من كل عملية تنظير لما شهده العالم العربي في السنوات الثلاث الأخيرة. الاستبداد العربي يخاف من كلمة الشعب حين تستخدم بطريقة تجعل من الشعب كياناً واقعياً مستقلاً عن السلطة السياسية. لذلك، يستسهل منظروه ربط كل حراك شعبي بمؤامرة خارجية عاملين على إنكار الظروف الداخلية التي تدفع الشعب إلى المطالبة، أياً تكن هذه المطالبة. في رأيهم، الداخل هو مكان للاستقرار أي للشعب السلبي الراضي عمّا تمنّ به السلطة عليه.
استعادة الماضي القريب
في تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عن الحرب الأمريكية على العراق، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس: "إن الفوضى التي تفرزها عملية التحوّل الديمقراطي في الشرق الأوسط في البداية هي نوع من الفوضى الخلاقة التي ربما تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً". استخدمت المصطلح الذي كان يتردّد بكثرة في أوساط المحافظين الجدد الذين وصلوا إلى مراكز القرار الأمريكي مع انتخاب جورج بوش رئيساً لأمريكا.
في العالم العربي، تزامن بدء الحديث عن "الفوضى الخلاقة" مع طرح أمريكا "مشروع الشرق الأوسط الكبير" على مجموعة الثمانية G8 وتبنّي الأخيرة له في العام 2004. الدافع إلى طرح المشروع المذكور كان اقتناع الإدارة الأمريكية حينذاك بأن تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط سيؤدي إلى "زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة".
ولتفادي هذه النتيجة، يدعو المشروع إلى انخراط مجموعة الثمانية في عملية تهدف إلى معالجة "النواقص التي حددها تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر: تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح، وبناء مجتمع معرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية". بحسب فلسفة المشروع، إن "الديموقراطية والحكم الصالح يشكّلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيّد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية". ما أقلق الأنظمة العربية في ذلك الحين هو سعي المشروع إلى دعم المجتمعات المدنية في الدول العربية من أجل التوصل إلى انتخابات حرة، تمكين النساء، تقديم المساعدة القانونية للناس العاديين، إنشاء وسائل إعلامية مستقلة، الشفافية ومكافحة الفساد. بلغة أخرى، قرّر "الغرب" تطبيق مبادئه السياسية في العالم العربي من دون المرور عبر الحكومات فاستشعرت الأخيرة خطراً يهدّد وجودها.
ردّ الفعل القديم
بعد طرح "مشروع الشرق الأوسط الكبير" بدا التوتر واضحاً لدى الزعماء العرب. الرئيس المصري السابق حسني مبارك قرّر لأول مرّة منذ تسلمه السلطة، عام 1981، أن يفتتح شخصياً مؤتمراً أعدّته "منظمات غير حكومية" للبحث عن "رؤية عربية خالصة وبقيادة عربية رافضة للوصايا الخارجية وحريصة على الدفاع عن الحقوق العربية". في كلمته أمام المؤتمر المعقود تحت عنوان "قضايا الإصلاح العربي: الرؤية والتنفيذ"، انتقد مبارك محاولات "فرض الإصلاح" من الخارج وطالب بـ"ضرورة اتباع أسلوب إصلاحي لا يؤدّي إلى زعزعة الاستقرار" محذّراً من أن "اللجوء إلى إصلاحات تتجاهل الخصوصيات والتقاليد الثقافية والاجتماعية والتركيبة السكانية سيؤدي الى تولي قوى التطرف والتزمت لزمام الإصلاح وتوجيهه وجهة لا تتفق مع رؤى المجتمعات العربية".
ثم كانت المحطّة الأساسية لدفاع الأنظمة عن نفسها في القمة العربية التي عقدت عام 2004 في تونس. فجأة، بدا أن الزعماء العرب، على غير عادتهم، متفقين تماماً. الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي دعا إلى الحفاظ على الخصوصيات الذاتية، التي يتعيّن أن تستند إليها عملية الإصلاح. ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسي آل خليفة اشترط أن يتم الإصلاح وفق "رؤية عربية". العاهل المغربي الملك محمد السادس تحدث عن ضرورة استناد عملية الإصلاح إلى احترام خصوصية كل شعب وهويته الوطنية.
صقور القمة، كالسوريين، طالبوا أساساً بعدم استخدام كلمة "إصلاح" كونها مصطلحاً غربياً. ولكن في ختام القمّة قرّر الزعماء العرب الانحناء أمام الاندفاعة الغربية وتمييع فكرة الإصلاح. أقروا وثيقة عهد ووفاق وتضامن بين قادة الدول العربية أعربوا فيها عن عقدهم العزم على مواصلة خطوات الإصلاح الشامل لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة وتوسيع مجال المشاركة في الشأن العام ودعم سبل حرية التعبير المسؤول، ورعاية حقوق الإنسان والعمل على تعزيز دور المرأة العربية في بناء المجتمع. الكلام نفسه كرروه في "إعلان القمة.
Déjà vu
ليس الهدف من استعادة الماضي القريب السرد التاريخي بل الهدف هو تبيان ثبات ردود فعل الأنظمة العربية على محاولات التغيير الديمقراطي. تتلطّى هذه الأنظمة خلف حجة الفروق الثقافية لتقول إن كل توق إلى خلق ديمقراطية شبيهة بالديمقراطيات الغربية هو مؤامرة تهدف إلى إشاعة الفوضى. طبعاً، لم تخبرنا هذه الأنظمة كيف يمكن أن يكون شكل الديمقراطية التي تراعي خصوصيات الشعوب العربية.
في مقابلة أجرتها معه، سنة 2004، صحيفة "لا ريبوبليكا" La Repubblica الايطالية،حذر حسني مبارك من أن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي قد يسبب زوبعة من العنف والفوضى تذكر بالمأساة الجزائرية. إذن الديمقراطية لا تناسب الشعوب العربية لأنها ستدفع بالمتطرفين الإسلاميين إلى الواجهة. ليست مصادفة أن يكرر الآن الرئيس السيسي مقولة أن الديمقراطية لا يمكن أن تطبّق في مصر قبل 20 سنة. هو المنطق نفسه.
لا شك في أن موجات الربيع العربي أخرجت مشاهد بشعة أبرزها مشهد التطرّف الإسلامي. ولكن أيضاً لا شك في أن الاستبداد العربي مسؤول بشكل كبير عن ولادة هذه التيارات المتطرفة. فبسبب انعدام الأفق يلجأ الناس إلى الغيب وإلى التطرّف. تنجح الأنظمة العربية في تهديد الشعوب بالفوضى إن حاولت إسقاطها. المعادلة تلعب نسبياً لمصلحتها، وهذا يستوجب تفكيراً جدياً في إستراتيجيات تساعد على كسرها ولو كان الثمن بعض الفوضى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...