تسفر صورة أبو بكر البغدادي التي أعلن فيها تنصيب نفسه خليفة عن جملة من المفارقات الساخرة والمؤلمة، إذ يبرز التناقض الحادّ بين مشهدية الخلافة بما تحمله من منطق الشمولية والعمومية، وبين شعار داعش، أو اسمها، وعنوان مشروعها الذي يقول بوضوح إنها معنية بإقامة "دولة إسلامية في العراق والشام".
الخلافة في بنيتها لا تحتمل ذلك التضييق الشديد الذي يفرضه عليها الخليفة الداعشي، بل إنها تنطلق في جوهرها من كونها سلطة الإسلام في كل مكان، وتجعل من وجود المسلم في أي حيز جغرافي من العالم امتداداً لحضورها وتجلّياً من تجليات سلطانها. المحدودية الفاضحة التي يربطها أبو بكر البغدادي بفكرة الخلافة تجعلنا نعيد التفكير في منطق الرموز الذي يعمل من خلاله ونحاول تحديد الفئة التي يتوجّه إليها عبر خطاب الخلافة.
ساعة الخليفة
التفصيل الأبرز الذي شغل وسائل الإعلام في صورة الخليفة البغدادي كان ساعته. اجتهد الجميع في نسبها إلى نظام دلالي واضح ومعرّف. بدت خلافة البغدادي المزعومة عاجزة عن منافسة الفيض التأويلي الذي جعل من الساعة موضوعاً له. فكرة الخلافة كما عرضها كانت مدعاة للسخرية والتنكيت، أما ساعته التي اكتشفها العقل الإعلامي الأمني والمخابراتي، فقد كانت مسرحاً لمحاولة تنقيب جدّي في الأصل والدلالة.
قال بعضهم إن ساعة الخليفة هي من ماركة "رولكس" ويبلغ ثمنها قرابة 6000 دولار. التأويل المرفق بهذا الكشف يعلن ببساطة انتماء الخليفة إلى معسكر الغرب الذي جاهر بمعاداته، وهو تالياً تجسيد جديد لتآمر هذا الغرب على المسلمين. "الرولكس" تحمل سمات الغرب ومن يرتديها لا يمكن أن يكون خليفة. هكذا نجح التأويل الرولكسي في نفي فكرة الخلافة التي جاء بها البغدادي جملةً وتفصيلاً.
هذا التأويل الرولكسي جوبِه بتأويل "فجري"، إذ ادّعى البعض أن ساعة الخليفة ما هي إلا من ماركة "فجر" التي تصنع في السعودية، والتي تمتاز باحتوائها على نظام يبرمج أوقات الصلاة بدقة في أيّ مكان في العالم. هكذا تمّ استرجاع الخليفة من الغرب إلى الإسلام وإلى المنطقة. بدا متناغماً مع ساعته التي لا يبلغ سعرها سوى 560 دولاراً والتي تحمل اسماً إسلامي الطابع، كما أن نسبتها إلى السعودية تفتح المجال أمام تفسير يتهم السعودية بدعم معظم التنظيمات السنية المسلحة.
بين "الرولكس و"الفجر" مات الخليفة وعاش الخليفة، ولكن داعش بدا ناجياً من شبكة التأويلات هذه كلها، وغير مهتم إلّا في تسخير الوقائع الميدانية لخدمة مشروع دولته.
خليفة لا يخاطب المسلمين
لا يخاطب البغدادي المسلمين، فهو وإن كان قد حاول في خطابه تقمص صورة الخليفة الأول "أبو بكر الصدّيق" في اعتبار نفسه قد كلّف تحمّل ثقل الخلافة على الناس مع أنه ليس خيرهم وما إلى ذلك، ولكنه يعلم من دون شك أن المخاطبين المسلمين الذين يتوجه اليهم يملكون وعياً خاصاً بالخلافة يحتاج إلى أكثر بكثير من ذلك العرض الهزيل الذي قدمه، وليس من السهل، ما لم يكن من المستحيل، إعادة انتاجه أو استحضاره. تالياً، فإن صورة الخلافة التي يعرضها عليهم تستخدمهم كشهود على واقعة ما، ولا تعطيهم بأي حال من الأحوال حقّ تأويل هذه الفكرة ولا مناقشتها، كما لا تطلب منهم تصديقها بل الخضوع لمتطلباتها. إنهم رصيد الخلافة ووقودها الذي سيهدر من أجل أن تدور ماكينتها الثقيلة.
وجودهم الذي كان على الأغلب قسرياً يعطي الصورة حضورها فتصبح حيّة وقابلة للاستعمال. يستخدم البغدادي هذه الصورة مقرونة بحشد من السلوكيات العنيفة التي طبعت سلوك تنظيمه، من قبيل صلب طفل بضع ساعات لأنه أفطر في رمضان من دون عذر شرعي، وسائر المشاهد الخاصة بالعنف المبالغ به في تطبيق الحدود. يستخدم كل هذه المشاهد مقرونة بمشهد الخليفة ليخاطب تصوراً غربياً يمتلك تأويلاً تاماً لها، يمكن اختصاره في تسمية الإرهاب.
إرهابي بلا أعداء خارجيين
يبيع البغدادي للغرب صورة الخليفة الإرهابي ليسمح لنفسه من خلال هذا التوصيف بامتلاك حجّة على أبناء المنطقة تتيح له ممارسة إرهاب فعلي. الإرهابي في نظر الغرب هو القائد في الشرق. يعلم أن هذا الغرب لا يحارب ما يسمّيه الإرهاب إلا من خلال شبكة مصالح واسعة تسمح بتوسيع حدود المصطلح، لدرجة أن خليفة إرهابياً مثله يمكنه النفاذ من شقوقه وثقوبه الكثيرة، لذا يشتري هذا الوصف الجاهز ويستعمله ضمن بنية ملتبسة.
تقوم هذه البنية بالعمل على جملة من التوظيفات المباشرة، والتي تتشعب في الآن عينه إلى بضعة اتجاهات، فالإرهابي الذي يعلن أنه لا يريد محاربة إسرائيل لأن الله لم يأمره بذلك لن تحاربه إسرائيل ولا الغرب سيحاربه. انعدام العداء هذا مع "الأعداء الطبيعيين" للعرب والمسلمين لا يسلبه صفة إرهابي ولكنه يخلّصه من تبعاتها. يبقى إرهابياً ولكن دون أعداء خارجيين، فيصرف جلّ جهده وهمّه في حربه الداخلية المحدودة والواضحة التي تهدف لإنشاء دولة ما في سوريا والشام لا تقوم إلا على جثث السوريين والعراقيين. دولته المنشودة، إذا ما كتب لها النجاح، لن تكون مصدر إزعاج لأحد سوى لأبناء المنطقة، لذا فإن احتمال غضّ النظر عنها ممكن.
خلافة بلا ضوابط ولا عقيدة
تختلف داعش عن جبهة النصرة وتتمايز عنها، فما هو الفرق الرئيسي بينها وبين الجبهة التي ضعفت كثيراً في المدة الأخيرة، في حين راحت داعش تتضخم وتتوسع وتسيطر على مناطق شاسعة في سوريا والعراق؟
السبب الأبرز لنجاح داعش وإعلان أبي بكر البغدادي زعيمها نفسه خليفة إنما يكمن في الغياب التام للعقيدة، سواء أكانت إسلامية أو غيرها، على عكس جبهة النصرة.
جبهة النصرة تمتاز بأنها حاملة لمنطق عقائدي شديد الإحكام. هي لا تتهاون إطلاقاً في محاربة كل من يختلف معها في هذه العقيدة سواء أكان من النظام أو من المعارضة. كلفها هذا المنطق العقائدي الدخول في سلسلة من المعارك العنيفة مع النظام ومع الجيش الحرّ. فتحت على نفسها جبهات عدّة أدت إلى استزافها بقوة وتبديد مواردها بسرعة، في حين أن تنظيم داعش لم يدخل في أي معركة لا مسوغ لها ولا تخدم مشروعه. سمح للنظام بالعبور في مناطق يسيطر عليها، فردّ النظام هداياه بتسهيل عبوره إلى مناطق كانت خاضعة لسيطرة المعارضة والجيش الحرّ.
هكذا استطاع تنظيم داعش الاحتفاظ بجلّ قوّاته وموارده التي لم تستنفد في معارك قاسية ومكلفة كالتي خاضتها النصرة والجيش الحرّ ضد النظام. نجح في النفاد من مجموع الفراغات التي خلفها إنهاك كل تلك القوى وبسط سيطرته على الأرض في سلوك براغماتي انتهازي وواقعي يناقض السلوك العقائدي والانتحاري الذي يسم سلوك جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإسلامية.
إحياء الأسلوب البعثي
لم يعمد داعش في المناطق الذي يسيطر عليها إلى استخدامٍ مفتوح للقوة والإكراه ضد الناس، فعلى الرغم من شيوع بعض مشاهد تطبيق الحدود العنيفة، فهي لا تختصر كامل المشهد الداعشي. اجتهد داعش في إقامة نوع من الأمن الاقتصادي والخدماتي، وفي السيطرة على مفاصل اقتصادية تدرّ أموالاً طائلة جعلت منه التنظيم الأغنى، وسمحت له بتمويل مشاريعه، وأكثر من ذلك، جعلت منه جنّة للمقاتلين الهاربين من تنظيمات بلا موارد وبلا سلاح. صار نوعاً من مغناطيس جهادي الشكل، انتهازي السلوك والمنهج.
يضاف إلى ذلك أنه حاول إعطاء المناطق التي يسيطر عليها بنية دولة تمتلك مؤسسات وإدارة، وهو ما لم يقم به أيّ تنظيم آخر. بادر إلى إصدار جوازات سفر، واهتمّ بإصدار مجلّة تحمل عنوان "دابق" يرى البعض أنه يستعيد اسم قرية قديمة قرب حلب كان الخلفاء ينطلقون منها للغزو.
الخليفة الداعشي إنما يعيد انتاج تجربة النظامين البعثيين السوري والعراقي، ولكن في سياق تستبدل فيه كذبة العروبة والممانعة البعثية بكذبة الخلافة في نسختها البغدادية.
هذان النظامان اجتهدا في مقايضة حدود دنيا من الاستقرار بإلغاء الحياة العامة والبنية الحقوقية بشكل تامّ، وتحويل الناس مجموعةً من الكائنات المهدورة. كذلك يفعل البغدادي في مشروع دولته، فالناس الذين ذاقوا مرارة استبداد هذين النظامين خفّضوا حدود مطالبهم وآمالهم إلى حدود قصوى، فبات أقلّ القليل من الأمن والخبز كافياً ليكون البغدادي خليفة، ويتمّ تأجيل سؤال الحقوق والمعاني، وحتى سؤال الإسلام نفسه، إلى أجل غير مسمّى.
تم نشر المقال على الموقع بتاريخ 22.07.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون