كعادته، ولّى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هذا العام وجهه شطر العاصمة الصينية، للعام الخامس على التوالي، على أمل العودة إلى بلاده بأكبر قدر من الاتفاقيات والاستثمارات والقروض لضخها في الاقتصاد المصري.
فقد زار السيسي الصين لمرة الأولى في ديسمبر عام 2014، عقب انتخابه رئيساً للجمهورية، ثم راح يزورها سنوياً فكانت زيارته الثانية في سبتمبر 2015، للمشاركة في احتفال الصين بـ"عيد النصر الوطني"، والثالثة في سبتمبر 2016، للمشاركة كضيف خاص في قمة مجموعة العشرين، والرابعة في سبتمبر 2017، للمشاركة في فعاليات الحوار الاستراتيجي حول تنمية الأسواق الناشئة والدول النامية.
زيارة السيسي الأخيرة، في مطلع سبتمبر الجاري، كانت لحضور قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي التي ضمّت ممثلي 53 دولة إفريقية، ونجح في تحقيق هدفه منها إذ شهدت توقيع عدد من الاتفاقيات مع شركات صينية لتنفيذ سبعة مشاريع كبرى بقيمة استثمارية تبلغ حوالي 18.3 مليارات دولار.
تشمل هذه المشاريع واحداً للقيام بإنشاءات في العاصمة الإدارية، واثنين لتوليد الكهرباء، واثنين لإنتاج مواد البناء، بالإضافة إلى بناء مجمع للبتروكيماويات في محور قناة السويس، ومشروع لصناعة المنسوجات.
وتأمل السلطة المصرية أن تساهم هذه المشاريع في تخفيض العجز في الميزان التجاري المصري، من خلال تقليل الاستيراد وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي.
الاتجاه شرقاً
تسير القاهرة بخطى سريعة نحو تطوير علاقاتها مع بكين، فعام 2016 سمحت مصر للمواطنين الصينيين بالدخول إلى الأراضى المصرية بدون اشتراط الحصول على تأشيرة دخول مسبقة، ما أدى إلى فتح باب السياحة الصينية على مصراعيه فتضاعف عدد السائحين الصينيين إلى مصر ليصل إلى 287 ألفاً عام 2017. اكتسب الصينيون سمعة طيبة في أوساط المصريين، ولم يعكّر العلاقة بينهم إلا بعض الشوائب القليلة التي برزت على مدار السنوات الماضية، كحادثة اختطاف مجموعة من تجّارهم في سيناء عام 2012، وضبط الشرطة لبعض الصينيين بتهم السرقة أو الاتجار بالجنس. بدأ تصاعد منحنى العلاقات بين البلدين منذ عام 2013، وهو العام الذي أطلق فيه الرئيس الصيني شي جينبينغ "مشروع الحزام والطريق" الذي يضم قرابة سبعين دولة حول العالم. وخلال السنوات الماضية، حضر الصينيون بتجارتهم ومنتجاتهم، إلى درجة مزاحمتهم للباعة المتجولين على أرصفة المناطق الشعبية، كما عملوا حلاقين داخل البيوت بأسعار زهيدة، بل أن بعضهم راح يمارس أنشطة طبية في الشارع بمقابل مادي بسيط. ولكن بالتدريج، استُبدلت صورة الصيني كتاجر شنطة فقير يطرق الأبواب ليبيع بعض الملابس أو المنتجات البسيطة بصورة الصيني كمستثمر ورجل أعمال يشرف على مشاريع كبيرة. وكان من أسباب تراجع تجارة الشنطة تراجع القوة الشرائية للمصريين بسبب تعويم الجنيه. ولكن العمال الصينيين الفقراء لم يغيبوا عن المشهد، فقد تحوّلوا إلى العمل في المشاريع الصناعية، وهناك أعداد كبيرة منهم تعمل في مصانع السادس من أكتوبر ومدينة بدر والعاشر من رمضان، والمناطق الصناعية فى برج العرب بالإسكندرية، وكذلك في مصانع الإسماعيلية، والعين السخنة، ومنطقة شق الثعبان في القاهرة، تلك المنطقة التي شهدت "غزواً صينياً" أثار قلق المواطنين، وأسماها البعض بـ"المستعمرة الصينية"، إذ سيطر الصينيون على نسبة مهمة من الأنشطة الصناعية فيها، حتى أن منطقة عمارات الأمل المجاورة أصبح كل سكانها تقريباً صينيين. من جانب آخر، قدّمت الحكومة الصينية قروضاً بالمليارات للقاهرة، حرّكت اقتصاد مصر، لكنها في الوقت نفسه أثارت مخاوف البعض بشأن مدى إمكانية سداد القروض التي تقدّمها، بالنظر إلى تضخم الدين المصري على نحو غير مسبوق.أزمة شق الثعبان
تُعَدّ منطقة شق الثعبان إحدى كبرى مناطق صناعة الرخام في العالم، إذ تضم أكثر من ألف مصنع، وتزيد مساحتها عن أربعة ملايين متر مربع، وتصدر الرخام إلى 118 دولة، طبقاً لإحصاءات المجلس التصديري المصري. وأثار التواجد الصيني الكثيف هناك امتعاض التجار والعمال المحليين بسبب المنافسة الشديدة بينهم وبين هؤلاء القادمين من أقاصي الأرض والذين لا يملكون سجلات تجارية أو بطاقات ضريبية، ما أدى إلى تدني كلفة إنتاجهم للرخام فراحوا يصدّرون مئات الآلاف من الأطنان إلى مصانع بلادهم التي تعتمد على الرخام المصري، بأسعار تنافسية. هذا الواقع وضع أصحاب الورش والمصانع التي لا تتعاون معهم في مأزق، فاضطر بعضهم إلى تأجير ورشه لهم بسبب التعثر المالي، فتوسع الصينيون في الإنتاج والتصدير بشكل كبير، وساعدهم في ذلك انخفاض قيمة الجنيه في الآونة الأخيرة، ما رفع من أرباحهم. يعود أصل المشكلة إلى اتفاقية وقعتها الحكومة الصينية مع وزير المالية الأسبق، يوسف بطرس غالي، وبموجبها تشتري الصين الرخام الخام من محاجر أسوان والمنيا بأسعار زهيدة. منذ ذلك الحين، دخلوا في المنافسة بشراسة واستقدموا الآلاف من شبابهم للعمل في تقطيع الرخام، ما أدى إلى التحاق أعداد كبيرة من أبناء المهنة بركب البطالة، في بلد يحتل المركز الخامس عالمياً في إنتاج أحجار الزينة، وفي ظل تجاهل تام من أجهزة الدولة لمعاناتهم.بالتدريج، استُبدلت في مصر صورة الصيني كتاجر شنطة فقير يطرق الأبواب ليبيع بعض الملابس أو المنتجات البسيطة بصورة الصيني كمستثمر ورجل أعمال يشرف على مشاريع كبيرة
قدّمت الحكومة الصينية قروضاً بالمليارات للقاهرة، حرّكت اقتصاد مصر، لكنها في الوقت نفسه أثارت مخاوف البعض بشأن مدى إمكانية سداد القروض التي تقدّمها، بالنظر إلى تضخم الدين المصري على نحو غير مسبوقيؤكد الخبير الاقتصادي طارق بهجات لرصيف22 أن الاتفاقية المذكورة سمحت للجانب الصيني بشراء الخامات بأسعار رخيصة جداً، وفقاً لقانون المناجم والمحاجر الصادر في الخمسينيات من القرن الماضي، فقد عاملتهم مثل المواطنين تماماً، ما أتاح لهم شراء كميات هائلة من الرخام بثمن بخس. يهتم الجانب الصيني باستيراد المواد الخام بجميع أنواعها، النباتية والحيوانية والمعدنية. يشتري كميات هائلة من المحاصيل الزراعية، خاصة بعد الاتفاقات الأخيرة مع مصر التي ضمت إلى قائمة الاستيراد أنواعاً جديدة كالعنب والتمور والرمان، كما يستورد عدداً كبيراً من الخامات، بما فيها جلود الحمير، ثم يُدخل هذه المواد في الصناعة ويعيد تصدير الكثير منها إلى مصر مجدداً على شكل منتجات صناعية، بسعر أعلى.
مدينة صينية... واستثمارات
على غرار الوجود الصيني حول العالم قرب الممرات الدولية الهامة، تشهد مدينة "تيدا" الصناعية، غرب قناة السويس، نمواً كبيراً، إذ بلغت قيمة الاستثمارات فيها حتى الآن ثلاثة مليارات دولار على الأقل، بحسب تصريحات مديرها التنفيذي، لي داي شي. تستهدف هذه المدينة توفير نحو 40 ألف فرصة عمل للمصريين، وتم تخصيص عدد من الأراضي لها تزيد مساحتها على سبعة ملايين متر مربع. وضمت المرحلة الأولى فقط من المشروع، خمس قطاعات صناعية هي الغزل والنسيج، والمعدات البترولية، والفيبر غلاس، والمعدات الكهربائية ذات الجهد العالي، والمعدات الزراعية، كما تم التعاقد مع شركات صينية تعمل في مجال تصنيع الدراجات النارية وسيارات النقل الثقيل والبلاستيك والمنسوجات. تتركز معظم الاستثمارات الصينية في الإسماعيلية والسويس، لكن المحافظات الأخرى أيضاً نالت نصيباً كبيراً منها. فعلى سبيل المثال، من المقرر أن تشهد مدينة العاشر من رمضان، في محافظة الشرقية، قريباً، انطلاق أعمال تشييد أول قطار كهربائي في البلاد، بحسب اتفاق وُقّع العام الماضي، كما تم عقد شراكة مع هيئة ميناء الإسكندرية، لبناء ميناء جديد متعدد الأغراض على مساحة 500 ألف متر مربع، بطاقة استيعابية كبيرة. وفي أسوان، جنوب البلاد، ستتم إقامة عدد من محطات الطاقة الشمسية، وغيرها من المشاريع الممولة بقروض من البنوك الصينية وبنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية، وهو مصرف أنشأته بكين عام 2015، كمنافس للبنك الدولي، وانضمت إليه مصر عام 2016. وتخطّت قيمة العقود الموقعة والقروض التي منحها بنك التنمية الصيني وبنك أكسيم، والبنك الصناعي والتجاري الصيني، وشركة صينوسور، للجانب المصري مبلغ خمسة مليارات دولار، بحسب تقرير أصدره المكتب الاقتصادي والتجاري الصيني في القاهرة، نهاية أغسطس 2018، وارتبط البنك المركزي المصري مع مثيله الصيني باتفاقية لتبادل العملات بقيمة 18 مليار يوان، في إطار مساعي بكين لتدويل عملتها ومنافسة الدولار.منافع متبادلة
تؤكد أستاذة العلوم السياسية والخبيرة في الشؤون الصينية الدكتورة نادية حلمي أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول لمصر، ويبلغ عدد شركاتها العاملة في البلاد 1558 شركة، يعمل الكثير منها في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالإضافة إلى قطاعي المنسوجات والطاقة، كما تشرف على إقامة عدد من مشاريع البنية التحتية الهامة، ففي العاصمة الإدارية الجديدة تزيد قيمة استثماراتها عن 20 مليار دولار، منها مشروع بناء أطول برج في إفريقيا. وأضافت لرصيف22 أن القاهرة لها موقع محوري في مشروع "الحزام والطريق" فهي تتحكم في قناة السويس، أحد أهم الممرات التجارية الدولية في العالم، وهذا ما يفسر التقارب المتزايد بين البلدين والذي انعكس في زيادة الزيارات السياسية في السنوات الأخيرة. ولفتت إلى أن الاستثمارات الصينية في مصر تزايدت بشكل كبير بعد إطلاق مشروع الحزام والطريق الذي تزيد التكلفة الإجمالية للمشاريع المدرجة فيه عن أربعة تريليونات دولار. من جانبها، تتحدث رئيسة قسم اللغة الصينية في جامعة بدر والأستاذة المساعدة في جامعة عين شمس الدكتورة رشا كمال السيد عن المخاوف التي يثيرها البعض بخصوص مشاريع الصين في الدول النامية. تقول لرصيف22 إن الصين، مثلها مثل أية دولة أخرى، تبحث عن مصالحها، وتستثمر في إفريقيا لحاجتها إلى المواد الخام، وتضيف: "لكن عندما تُستغل ثرواتنا مقابل تقديم إفادة لنا كإقامة الموانئ وطرق النقل ومشاريع البنية التحتية، فهذا أفضل من دول تستغل ثرواتك ولا تعطيك شيئاً، أو تعطيك أقل القليل". وألمحت السيد إلى أن هناك دولاً إفريقية فقيرة استطاعت عقد اتفاقات مربحة جداً مع بكين، مثل تشاد على سبيل المثال، مبيّنة أن مشاريع التنمية تتطلب أموالاً كثيرة، وهذا ما دفع مصر إلى الاقتراض من الخارج لتمويلها، ولكن هذا الأمر يتطلب وجود خطة حكومية حول كيفية سداد القروض. وأشارت السيد إلى أن العمالة الصينية في مصر أغلبها تحمل خبرات فنية غير موجودة في السوق المحلي، لافتةً إلى أن المشاريع الصينية توفّر فرص عمل كثيرة للمواطنين، وتوفّر الخبرة للعاملين المصريين الكفوئين.قلق غربي
تثير الاستثمارات الصينية في مصر والدول الإفريقية ضمن مشروع "الحزام والطريق قلق الولايات المتحدة والدول الغربية. ترى الأخيرة في توسع بكين في إقراض الدول النامية بشروط متساهلة، خطوة تهدف إلى زيادة حضورها الدولي وتعميق نفوذها السياسي على حكومات الدول المقترضة، على حساب النفوذ الأمريكي والغربي، بخلاف المنافع الاقتصادية الضخمة التي تحصل عليها مباشرة من تلك القروض، إذ تُنفق تلك الأموال غالباً على تشييد مرافق على مقاس الاستثمارات الصينية في تلك البلدان، وبذلك تكون هي المستفيد الأول والأخير.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...