"فنان المونودراما"، لقبٌ رافقه طويلاً. فرغم عمله في السينما والتلفزيون وفي أعمال مسرحية كبيرة، إلا أن اسمه ظل لصيقاً بفن الممثل الواحد.
المسرحي الفلسطيني الذي انتقل إلى دمشق عام 1971، ظلت ذاكرته تعبق برائحة بلده الأم، إذ لازمت القضية الفلسطينية معظم أعماله، منذ البدايات وحتى الآن. هكذا، بدأ تجربته في المسرح الجامعي ومسرح الهواة. كان معاصراً لتجربة سعدلله ونوس مع المخرج فواز الساجر، وقد قدم مع الساجر عدة أعمال مسرحية منذ عام 1977. بعد ذلك، أسس فرقة أحوال المسرح، حيث قدم فيها أعمالاً مونودرامية حملت توقيع الكاتب المسرحي ممدوح عدوان، ليحققا شراكة فنية أنتجت ثلاثة عروض ساهمت في تكريس اسم قدسية كواحد من الأسماء الشهيرة في عالم المونودراما العربي.
في مهرجان دمشق المسرحي العاشر (1986)، قُدم نص عدوان المونودرامي الأول "حال الدنيا"، وحمل توقيع قدسية تمثيلاً وإخراجاً. العمل الذي كان أولى ثمرات الشراكة بين عدوان وقدسية، يصنف من الأعمال المونودرامية الهامة عربياً حتى يومنا هذا. أبو عادل، الرجل الخمسيني، يتجرأ على قول ما لا يقال، ضارباً بعرض الحائط كل المنظومات الأخلاقية والاجتماعية المتوارثة، ليكون العرض بمثابة بوح خاص لما يعتمل في كيان الشخصية البشرية من رغبات وأهواء. برع زيناتي في تقديم هذه الشخصية والإلمام بجوانبها، لتتوالى بعدها الأعمال المونودرامية مع الشريك عدوان.
"القيامة" (1986)، الذي كتبه عدوان من وحي الثورة الفلسطينية المتمزقة، قدمه قدسية باللهجة المحكية، وكان العرض بمثابة استهجان للديكتاتوريات العربية التي طعنت القضية الفلسطينية في الظهر. أبو ماجد، الذي وجد نفسه في مقبرة الشهداء ليلاً، ظل مصراً على تبني هذا الصوت. الصوت الفلسطيني نفسه، راح يعلو أكثر في "الزبال"، ثالث الأعمال التي أنتجتها شراكة عدوان - قدسية.
بعد تقديمه أعمال الراحل ممدوح عدوان، دأب فنان المونودراما في مرحلته الثانية (إن صح القول) على تقديم أعمال تحاكي الهم الفلسطيني العام، داخل الأراضي المحتلة، وفي المهجر. وفي هذه المرحلة اكتسب زيناتي شعبية كبيرة بين جمهور المسرح، ومن أهم ماقدمه في المرحلة كان "شيء من غسان" (1991)، وهي مجموعة لوحات مأخوذة من عدة أعمال للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني (ورقة من الطيرة- قصة قصيرة، الأعمى والأطرش - رواية غير مكتملة، الباب - مسرحية).
ما يميز عمل قدسية كممثل، أنه يطغى بشخصه عليها، فأسلوبه التمثيلي يحاول مقاطعتها مع أسلوب أدائه، الأداء الذي يمكن وصفه بالكلاسيكي. ورغم تكرار زيناتي لهذا الأسلوب، إلا أن له شكله التمثيلي الخاص الذي يوثق لعلاقته مع الجمهور العربي، وإن كانت الصورة ذاتها: صلعة زيناتي تلمع تحت بقعة الضوء الباهتة، أصابعه نحو الأعلى وجسده منكمش نحو الأسفل، يستند على قدمه اليسرى واليمنى تسبقها بسنتيمترات قليلة. هذه الصورة أضحت من الذاكرة المسرحية المحلية، والتي تصور الوضعية التي يتخذها قدسية بالأداء دائماً، كما يمكن القول بأنها صارت جزءاً لا يتجزأ من مسرح الحمرا أو القباني في دمشق.
في عام 2004، عاد قدسية للتألق مع مونودراما "غوايات البهاء"، التي تصنف من نتاجات مرحلة جديدة جمعت بين قدسية والكاتب السوري موفق مسعود، حيث اتجه قدسية إلى تقديم أعمال ذات طابع فلسفي، حيث لا شخصيات حقيقية، والشخصيات هشة مفككة، وكأنها أفكار مجردة. والحوار في هذه الأعمال كان أقرب للمناجاة الشعرية منه للمسرحي. قدم قدسية مع مسعود عدة أعمال في هذه الفترة منها "كأس سقراط الأخير" (2006).
في العام 2011، عاد قدسية إلى صيغة الأعمال التي حققت شعبيته، حيث قدم الراوي الفلسطيني مونودراما "أبو شنار"، سارداً بعض من حكايا الداخل الفلسطيني. أبو شنار الذي يحلم بالعودة إلى قريته "إجزم"، هو نفسه زيناتي قدسية في الواقع، إذ أن الحكايا التي قدمها خلال أربعين عام من العمل المسرحي، تشبه كثيراً حال الفلسطينيين، وحاله، كواحد منهم، هو الحالم والراغب بالعودة حتى ولو طال الانتظار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...