حين أراد السيناريست أسامة أنور عكاشة تقديم شخصية «الحاوي» في عمل تلفزيوني عام 1997 كانت المقاييس معروفة. بطل يجسد دور «الفهلوي» الفقير القادر على فعل كل شيء، بالإضافة إلى أماكن التصوير التي كان جزء منها في الشوارع الشعبية حيث العمل الحقيقي لـ«الحاوي".
نجح «عكاشة» بمقاييس عصره وخرج مسلسل «الحاوي» للنور، لكن لو أراد السيناريست الراحل كتابة هذا السيناريو الآن فعليه أن يتخلص من جميع أفكاره القديمة، إذ سيحتاج شخصاً يتحدث لغات عدة ويقبض بالدولار وستكون أماكن التصوير على الشواطئ ووسط أناس من مختلف الجنسيات، أما طريقة التقديم فلن تكون كالسابق «صلوا على النبي» بل ستكون دعاية من خلال لافتات تقول إن هناك عروض «fire show» ذلك هو الفرق بين 1997 و2018.
بالعودة إلى جمال الغيطاني في كتابه «ملامح القاهرة في ألف عام» يقول إن مهنة الحاوي ظهرت في عصر الدولة الفاطمية التي حكمت القاهرة في الفترة من 973-1171 ميلاديًا، وكان المقصود به الرجل الذي يستطيع أن يجمع الناس حوله ويقوم بأعمال سحرية أو ليس بمقدور بشر غير مدرب أن يفعلها مثل النوم على خشبة بها مسامير وغيرها، أما اللفظ نفسه فقد أطلق شعبيًا، وبحسب «الغيطاني» فإن تلك اللعبة كانت تحصد رواجًا كبيرًا خاصة في الأعياد وظهر من يمتهنها ويورثها لأبنائه.
«سيد الحاوي» الذي عمل بتلك المهنة لأكثر من أربعة عقود، يبدأ حديثه مع «رصيف 22» بقوله إنه عمل بتلك المهنة التي ورثها عن أبيه منذ مطلع شبابه منتصف الستينيات من القرن الماضي، وكان يتلخص عمله في بعض الألعاب مثل إخراج نار من فمه، والنوم على لوح مسامير أو زجاج مكسور والتمرمغ فيه دون أن يصيبه شيء واللعب بعصا مشتعلة.
ويضيف: كان العمل «على باب الله» ليس هناك مقابل، كان الأمر أشبه برابطة لعدد من الحواة نعرف بعضنا بعضًا ونخرج في أماكن مختلفة حتى لا يتواجد اثنان في مكان فيؤثر على كل منا، فمثلًا أنا كنت في ميدان السيدة زينب، وبمجرد إطلاق صيحة «صلوا على النبي واللي يصلي على النبي يكسب» ثم أقوم بنفخ النار يتجمع الناس، وهنا ابدأ العمل ومعي مساعد يقوم بجمع النقود لمن يريد أن يدفع، كنت أقدم عرضاً لمدة نصف ساعة وفي اليوم أقوم بـ5 أو 6 عروض ولم يكن يتعرض لنا أي احد، بل البهجة كانت مرسومة على وجوه الجميع.
المصريون الذين امتهنوا مهنة الحاوي في السنوات الأخيرة سافروا للخارج وعملوا بها وذلك لأن أموالهم هناك ستكون بالدولار، عندها بدأ بعض الأفارقة في التقدم للعمل وأثبتوا جدارتهم ومن هنا بدأت الحكايةويكمل «الحاوي»: هذه المهنة تنقسم لعدة أقسام، فمثلًا ألعاب النار تحتاج إلى خفة يد ويتم التدريب عليها تمامًا كما يحدث في السيرك، أما الألواح ذات المسامير فكانت لوحين لا يختلفان في أي شيء إلا في المسامير، فواحدة يتم عرضها للجمهور ويكون سن المسمار في الخارج أي أن من يجلس عليه يموت وأخرى كانت المسامير بالعكس بما يعني أن النوم عليها سيوجع قليلًا ومع التدريب يكون الأمر هينًا، كنا نعرض واحدة وحين نبدأ النوم نستبدلها بالاخرى، وفي ظل زحام الناس ومتابعتهم لا يدركون، حتى من يدرك منهم كان يعلم اننا بشر، وبالتالي الأمر ترفيهي أولًا واخيرًا. ويصيف: اللعبة اختفت من الشوارع، تلك حقيقة يؤكدها «الحاوي» الذي يوضح أنه في منتصف التسعينيات بدأ الأمر في التغير في ظل ظهور ألعاب الاتاري والبلايستيشن وبانخفاض أسعارها ووصولها للحارات الشعبية بدأ عملنا يقل وأصبح من يريد عليه التقدم للسيرك، وهذا كان عدداً محدوداً جدًا، بجانب تغيرات كثيرة، فالجيل الجديد لم يكن يرى في الحاوي سوى متسول. وتعرضت للضغط من بنتي الكبيرة حتى تركت المهنة، وتركها غيري وأصبحت اللعبة في السيرك فقط. لكن هشام السيد مسؤول العلاقات العامة بفندق «موفنبيك» بشرم الشيخ، يقول إن لاختفاء مهنة الحاوي أسباباً أخرى، فخلال عقدين من الزمان كانت ألعاب الحواة جزءاً من برامج الفنادق، ووجدت تلك الألعاب رواجًا كبيرًا بين الزائرين خاصة السائحين، ومع مرور الوقت ظهر المتعهدون وهم أصحاب مكاتب مسؤولون عن التعاقد مع الفنادق لاستجلاب فرق تقوم بعروض الحواة وأصبح اسمها fire show نظرًا لأن معظمها يتعلق بالنيران. يشرح «السيد» لـ«رصيف22» طرق التعاقد فيقول إن الفنادق تتفق مع المتعهدين في ما يطلق عليه شهور الذروة، أي ثلاثة أشهر الصيف وديسمبر ويناير باعتبار أن جنوب سيناء مشتى، ويتم دفع المبلغ بالكامل قبل بدء العمل وهو يراوح ما بين 50-100 ألف جنيه (2800$ - 5600$) خلال الشهر الواحد، وتكون تلك الحفلات ثلاث مرات شهريًا واحياناً تزيد حسب المزاج العام للزائرين. كافة الفنادق تتفق مع متعهدين لتقديم ألعاب الحواة، وجميع فروع فندق موفنبيك في الوطن العربي تقدم نفس الفقرة، يؤكد مسؤول العلاقات العامة أن من يقدمون تلك الحفلات من جنسيات كثيرة، أفارقة وبعض الأجانب. المتعهد لديه كل الأسرار، هكذا تحدث سيد عصفور متعهد في مدينة الغردقة ومسؤول عن التعاقد مع بعض الفنادق لجلب فرق الحواة والراقصات الشرقيات كجزء من حفلات الفنادق اليومية، ويجيب على سؤال لماذا اختفى الحواة المصريون وحل محلهم أصحاب جنسيات أخرى ليقول في البداية فإن الأمر غير مقصود. ففي مطلع الألفية الثانية حين بدأ العمل كان المطلوب حواة فقط وتم البحث وقتها في القاهرة وغيرها من المحافظات لكن جميعهم قد اعتزلوا حتى من بقي كان فوق الخمسين ولا يصلح، ثم بدأ بعض الأفارقة في التقدم للعمل وأثبتوا جدارتهم ومن هنا بدأت الحكاية، بل إن هناك متعهدين في دول كثيرة إفريقية أو أجنبية نتعامل معهم وأصبح الأمر تجارة فعليًا. ويوضح «عصفور» أن الأمر بات تبادليًا، فكثير من المصريين أيضًا حين امتهنوا تلك المهنة في السنوات الأخيرة سافروا للخارج وعملوا بها وذلك لأن أموالهم هناك ستكون بالدولار، أي أن الحواة المصريين باتوا في الخارج فقط، مؤكدًا ايضًا أن الألعاب لم تتغير لكن طريقة عرضها فقط من لافتات وموسيقى بدلًا من الصيحات التي كان يطلقها الحاوي في الشارع. https://youtu.be/jhtGloj1aMU ربيع السعد يجسد أحوال الحواة وهو أحد السودانيين الذين يعيشون في مصر وينتمي لأسرة كانت تجيد تلك الألعاب في شوارع الخرطوم قبل أن تختفي ايضًا، ويقول لـ«رصيف22» إنه جاء لأحد المكاتب في مدينة طابا منذ عامين واستطاع العمل بأحد الفنادق هناك، مضيفًا أنه يقدم حفلتين أسبوعيًا، وفي بعض الأوقات حفلتين في اليوم لكن في أكثر من فندق حين يكون هناك زحام. نسبة ما يحصل عليه «السعد» لا تتعلق باتفاق المتعهدين مع الفنادق بل من خلال راتب ثابت على أن يقوم المتعهد بتوفير سكن له ولفرقته المكونة من ثلاثة، بجانب الانتقالات وفي الغالب لا يتعدى الراتب 6 آلاف جنيه (330$)، مشيرًا إلى أن السفر للخارج والقبض بالدولار أفضل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...