قد يَصعبُ الفصلُ بين قصةِ "المتشدِّد" المتهمِ بالتعرّض لزوجَين مصرييَن في أتوبيس نقلٍ عام بأحدِ شوارع القاهرة، وبين أزمةِ انتشارِ الفكرِ المتشدِّد في المجتمع المصري السنواتِ الأخيرةَ. في الأسبوع الماضي كتبَ الشاب "عمر مسعد" منشوراً عبرَ حسابه الرسمي على فيسبوك كشفَ خلاله تفاصيلَ الاعتداءِ عليه عندما كانت زوجتُه نوران جالسةً بجانبه على مقعدٍ في حافلة نقلٍ عام. وبحسب المنشور كانت نوران متكئةً على كتف زوجها ذي الـ25 عاماً داخل حافلةٍ رقمُها 1069، ضايقَ المشهدُ مواطناً يُعتقدُ أنه متطرفٌ دينياً يُدعى "ي. ش" فدفعَ الزوجةَ بيدِه مطالباً إياها بالابتعاد عن زوجها قائلاً "ده ما يرضيش ربنا". وحين قال له الزوج إن الأمرَ ليسَ من شأنه قام الرجل، بحسب ما كتبه الشاب المصري، بالاعتداء عليهِ بالضرب بصورةٍ صادمةٍ ومفاجئة، بينما اتخذ أغلبيةُ ركابِ الحافلةِ صفَّ الشخصِ المعتدِي، الذي استطاع نهايةَ الأمر وبمساعدةِ بعض الركاب الهربَ في سيارة أجرةٍ متجهةٍ إلى حيِّ الهرم بالقاهرة. الفكرُ الديني المتشدِّد ينتشرُ في أغلبِ حافلاتِ القاهرة، عبرَ لافتاتٍ كثيرة تحوي جملاً من نوعية "سيستمرُّ الغلاءُ إذا لم تتحجب النساء"، وأخرى تذكِّرُ بعذابِ القبر، وتطالب النساءَ بارتداءِ النقاب، يُعتقد أن متشددين دينياً قاموا بوضعها. لم يجدْ عمر مسعد من يقفُ معه في الحادث سوى هاتفِه المحمول، الذي نجح عن طريقه في التقاطِ صورتَين للرجل الملتحي، الذي حين رآه يصوره لم يخشَ الأمر وقال له اسمَه كاملاً، متحدياً إياه بأنه لن يستطيعَ أن يُلحقَ أي ضررٍ قانونيٍّ به. واعتبر كثيرٌ من المستخدمين أن ثقةَ الرجل الشديدةَ وعدمَ خوفه من أية ملاحقةٍ قانونية تثبتُ أن الدولةَ المصرية لا تتعاملُ بالحزمِ المطلوبِ مع ممارساتٍ خاطئةٍ كثيرةٍ تحدثُ في الشارع المصري، منها على سبيل المثال التحرشُ الجنسي. وكثيراً ما تحاول فتياتٌ مصرياتٌ اتخاذَ موقفٍ ضدَّ من يتحرش بهنَّ في الشارع، لكن الأزمةَ هي أن بعضَ المواطنين يتخذون صفَّ المتحرش، معتبرين أن الفتياتِ هن سببُ التحرش، مرةً بسبب ملابسهن، وأخرى بسبب نزولِهن من البيت. هرب المتَّهمُ بالتعدي على عمر وزوجته لكن مسعد صوَّرَه، طالبًا من رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن يرشدوه إليه، ليستطيعَ اتخاذ كافةِ الإجراءات القانونية ضدَّه، قائلاً "أنا مش عارف ممكن آخد حقي منه إزاي؟ بس أي حد يتعرف على شكله يدلني على سكته". ولاقى المنشورُ تضامنًا من نشطاءِ مواقع التواصل الاجتماعي الذين أظهروا استعدادًا جديًا للمساعدة في الوصول للمتهم ومقاضاته، حتى لا تتحولَ القضيةُ إلى مجردِ حدثٍ عابر. وفي أعقابِ نشر الشاب عن القضية تعرضَ لشتائمَ وتهديداتٍ من بعض الحساباتِ لأشخاصٍ يقولون إن صلةَ قرابةٍ تربطهم بالمُعتدِي. لكن في المقابل وقف الكثيرون مع عمر ودعموا قضيته، واعتبروا وجودَ أمثال المُعتدِي عليه خطراً على المجتمع المصري كله، مطالبين السلطاتِ المصرية بالتدخلِ إذا كانت تريد فعلاً إثباتَ أنها ضدُّ التطرف. أيضاً في الحافلة لن ينسى مسعد أن شابَين وفتاةً وقفوا إلى جانبه ضد الشخص الملتحي "لكن أصواتنا كانت خافتةً أمام طوفانِ الأصواتِ المهاجمة التي تردد كلماتٍ مثل "عيب" و"حرام"، على فعلٍ تلقائيٍّ وطبيعي جدًا بين زوجين، وليس فيه أية مصادمةٍ مع أعرافِ المجتمع أو تعاليم الدين". يقول عمر "بعض التعليقاتِ المهاجمةِ دفعتني إلى كتابةِ منشورٍ آخر أوضِّحُ فيه سببَ اتكاءِ زوجتي على كتفي، لا من باب التبرير، لكن لدفعِ أية تحفظاتٍ ممكنةٍ على الفعل، الصورةُ غايةٌ في البشاعة، شخصٌ يعتدي عليك بالضرب بجنونٍ دون أن تفعل له أي شيءٍ، ومواطنون يدعمون موقفه". عمر مصمّمٌ على المضي قدمًا في قضيته إلى نهايتها، ولن يتركَ الأمر يمرُّ دون رجوع حقه وحق زوجته، مضيفًا: "الموضوع لم يعد شخصيًا على الإطلاق، الدعم الذي تلقيناه من نشطاء كثيرون جعلنا نتحملُ مسؤولية الانتصار في المعركة القائمة بين الحريات وبين التسلط والقمع المجتمعي الأعمى، وبين الوسطية والتطرف". هذه القصةُ المؤلمة، لم تكسرِ الشابَّ وزوجته، بل جعلت حبِّهما أقوى، وبالتأكيد لن تمنعهما عن النجاح.. فنورهان عادت إلى عملها بإحدى المستشفيات الحكومية مصممةً على إثبات ذاتها، وعمر يتدربُ جيداً استعداداً لحفلته القادمة التي سيغني فيها بدار الأوبرا المصرية. هي معركةٌ بين قصة حبٍّ وبين تطرفٍّ ينهشُ جسدَ المجتمع المصري.
قصة حب عمرها عام ونصف
احتفلَ عمر، بعقد قرانه على نوران، طبيبةِ الامتياز، منذ أسابيعَ قليلةٍ، بعد قصة حبٍّ استمرت نحوَ عامٍ ونصف، لكنه لم يتوقع أبداً أن يأتي يومٌ يجُرح فيه فمُه وقدمُه ووجهُه، فقط لأنه قرَّرَ اصطحابَ زوجته في وسيلة نقلٍ مملوكةٍ للدولة المصرية. يقول عمر مسعد لرصيف22 "لا أريدُ أن تصبحَ القضية أن شخصاً متطرفاً تعدّى على شاب وزوجته، الأمر ليس كذلك، القضيةُ الحقيقيةُ هي أن هناك انحرافاً واضحاً في تلقي تعاليم الدين يحوِّل بعضَ المتدينين إلى أشخاصٍ منغلقين على أنفسهم، ومعادِينَ لفئاتٍ أخرى من المجتمع". المفارقة هنا أن عمرَ نفسه معروفٌ وسطَ أقرانه بأنه ملتزمٌ دينياً، حيث تعلَّم في مدارسَ أزهريةٍ، ثم التحق بجامعة الأزهر، كما يغني أناشيدَ دينيةً مع إحدى الفرق الصوفية التي تقدم حفلاتٍ عدة في أماكن مختلفة داخلَ مصر وخارجها. يكمل الشاب "وقوفُ عددٍ كبيرٍ من الناسِ في الحافلة التي شهدت الحادثة إلى جانب الشخص المُعتدِي تكرّر معي أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي، هاجمني البعض قائلين "مراتك في البيت مش في الأتوبيس"، استفزَّهم مشهدُ زوجتي وهي متكئةٌ على كتفي مثلما استفزَّ المشهدُ الشخصَ المعتدي، بينما لم يضايقهم أنَّ شخصاً ما يعيش بيننا في المجتمع، يعتبرُ التعدي على خصوصياتِ وحرياتِ الآخرين طريقَه لإرضاءِ ربه ونُصرةِ دينه"."استفزَّهم مشهدُ زوجتي وهي متكئةٌ على كتفي مثلما استفزَّ المشهدُ الشخصَ المعتدي، بينما لم يضايقهم أنَّ شخصاً ما يعيش بيننا في المجتمع، يعتبرُ التعدِّي على خصوصياتِ وحرياتِ الآخرين طريقَه لإرضاءِ ربه ونُصرةِ دينه"
"الصورةُ غايةٌ في البشاعة، شخصٌ يعتدي عليك بالضرب بجنونٍ دون أن تفعل له أي شيءٍ، ومواطنون يدعمون موقفه". هذه القصةُ، لم تكسرِ الشابَّ وزوجته، بل جعلت حبِّهما أقوى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...