كان يوم الـ22 من أغسطس عادياً في حياة شابتين مصريتين قررتا النزول للمشي في شوارع القاهرة، ثم التوجه من ميدان التحرير إلى منطقة باب اللوق لشراء بعض الطعام. ولكن، وعند الساعة التاسعة صباحاً، لم تعد الأمور عادية: تعرّضت روزانا ناجح وجهاد راوي، وهما شابتان في العشرينات من عمرهما، لتحرّش لفظي من شابين يتواجدان في الشارع.
تحكي روزانا لرصيف22 أنهما قررتا بدايةً تجاهل الكلام الذي سمعتاه، والمضي في طريقهما، لكن الشابين استمرا في مضايقتهما من خلال توجيه الشتائم والإهانات لهما، فالتفتتا وسألتا أحد الشابين: "إنتوا بتكلموا مين؟".
عندها، اقترب أحدهما نحو جهاد ورفع يده في وجهها، فصرخت به، وبدأ التضارب. بدأ الأمر باعتداء الشابين على روزانا وجهاد، ثم تطور إلى مشادة بينهم بعد أن تجمهر الناس حولهم محاولين إبعاد الشابين عن الفتاتين.
وقعت الواقعة فراحت الشابتين تسألان الناس: "مَن يأتي معنا إلى قسم الشرطة كشاهد، لتحرير بلاغ تحرش؟". لكن، لم يرضَ أحد بذلك.
ويُشترط في واقعة التحرش وجود شهود، ما لا يتوفر عادةً للضحايا، خصوصاً أن بعض الناس يتعاطفون مع المتحرش، وبعضهم الآخر يفضّل تجنّب الدخول إلى أقسام الشرطة.
بُعيد مرور وقت قصير، حضرت إلى المكان دورية شرطة وسألت عمّا يحدث، فردّ أحد الشابين بحدّة على أسئلة رجال الدورية الذين أخذوا الجميع إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بالواقعة.
داخل القسم
داخل قسم الشرطة، تروي جهاد لرصيف22 أنها لم تتلقَّ معاملةً سيئة، لكنها تذكر جيداً النظرات التي كانت تحوم حولها بسبب ارتدائها فستاناً. "كل مَن كان في القسم كان ينظر إليّ، وهذا في عرف القانون ليس تحرّشاً، لكنه فعلياً تحرش لأن نظراتهم أشعرتني بعدم الارتياح. من أصغر عسكري حتى أكبر ضابط، جميع العيون كانت على جسمي وكان عليّ أن أحتمل كل ذلك، هذا بالإضافة إلى الضغط النفسي الذي شعرنا به، بسبب سؤالنا أكثر من عشرين مرة، عمّا حدث؟ وفي كل مرة كنّا نعيد سرد الواقعة، حتى وصلنا إلى درجة فقدنا الرغبة في الكلام". استمرت التحقيقات في قسم الشرطة، وكان المحامي والناشط الحقوقي مصطفى محمود يمثّل روزانا وجهاد على أنهما مدعيتان على الشابين بتهمة التحرش والاعتداء بالضرب. لم يستجب رجال الأمن في القسم لطلب الفتاتين المتكرر، منذ العاشرة مساءً، للخضوع لفحص طبي لإثبات الإصابات وآثار الضرب والخدوش على جسديهما، إلا حين شارفت الساعة على الثالثة فجراً. حينها اكتشفت روزانا وجهاد أن الشابين اللذين تحرّشا بهما حررا محضراً بحقهما بتهمة التعدي بالضرب والسب، ما يستدعي حجز الجميع إلى حين عرضهم على النيابة، أي أن الشابتين ستقضيان ليلتهما في السجن."يحدث كثيراً في مصر"
مفاجئ وغريب ما حصل. كيف تتحول ضحية تحرش قررت عدم السكوت عن حقها واللجوء إلى القانون، إلى متهمة؟ ولكن مصطفى محمود، وهو متخصص في قضايا العنف وقضايا النوع، أكد لرصيف22 أن هذا الأمر ليس غريباً أبداً ويحدث كثيراً في مصر. يقول محمود: "في كثير من حوادث التحرش يحصل تماماً الأمر نفسه، وهو تكتيك يعتمده المتحرش للهروب من العقوبة في حال تشاجرت الفتاة معه. فحين يتجمهر عدد من المواطنين للإمساك بالمعتدي، تنتج عن هذه المحاولات علامات تدل على المقاومة، ليبدو الأمر أمام الشرطة كأن مشاجرة وقعت أو حدث اعتداء متبادل بين طرفين. وبناءً على ذلك، لا تملك الشرطة غالباً سوى طلب إثبات أقوال كل من طرفي الدعوى، والتحفظ على جميع الأطراف وإحالتهم على النيابة خلال 24 ساعة". ويضيف: "في حال عدم توافر النيابة المسائية، عادة ما يعني ذلك احتجاز جميع الأطراف في حجز القسم حتى موعد العرض على النيابة صباحاً. وهذا ما حصل مع جهاد وروزانا". تعرف جهاد جيداً الثغرات الموجودة في القانون، لكنها لم تكن تتخيّل أن يصل الأمر إلى احتجازها وتحوّلها من شاكية إلى متهمة. تقول: "أنا أعرف القانون جيداً وأعرف أن ذلك قد يحصل بالورقة والقلم، لكنني لم أتوقع أن منفذي القانون متعسفون إلى هذه الدرجة وقادرون على التعامل مع جريمة تحرش بطريقة تضع الشاكية في موقع المتهمة".رغم حالة الصدمة التي تعيشها ضحية التحرش بعد الاعتداء عليها، يُطلب منها في مصر إخبار أمين الشرطة، أمام كل الموجودين في القسم، بما الذي حصل معها بالضبط، وما هي الألفاظ التي قيلت لها، وعلى أي جزء من جسدها وضع المتحرش يده
في مصر، "أحياناً يساعد بعض رجال الشرطة المتهم بالتحرّش ويلفتون نظره إلى فكرة المحضر المضاد، وهو اتهام الفتاة بالضرب، ليستطيع أن يساومها فتتنازل عن القضية، وإنْ لم تفعل ذلك تصل القضية إلى مرحلة النيابة"من جهته، يؤكد محمود أن "هذا السبب بالتحديد، يدفع الكثير من النساء إلى التنازل عن حقهن، والتصالح مع المتحرش ليسقط كل منهما الدعوى في حق الآخر، كي لا تضطر إلى المبيت في قسم الشرطة، ما يشعرها بأنها تحوّلت إلى متهمة، بالإضافة إلى عدم موافقة غالبية الأهالي على مبيت بناتهم في القسم تحت أي ظرف، على اعتبار أن ذلك يتسبب بسوء السمعة". بعد طلب المحامي مصطفى محمود المتكرر من الشرطة إخلاء سبيل الشابتين بضمان محل إقامتيهما مع توقيعهما على تعهد بالحضور أمام النيابة في التاسعة صباحاً، وافق الضابط على الطلب شرط أن يتم إخراجهما بضمانة المحامي شخصياً، وهو أمر لا يحدث عادةً، خصوصاً في قضية كهذه، لكن المحامي وافق على الشرط وخرجت روزانا وجهاد. والآن، القضية ما زالت أمام القضاء.
التحرش الجنسي جريمة
مصر من الدول التي جرّمت التحرش الجنسي منذ الخمسينيات من القرن الماضي، ولكن تحت مسمى آخر هو "خدش حياء أنثى في الطريق العام"، بحسب قانون العقوبات المصري. وعام 2014، أصدر الرئيس المصري عدلي منصور قانوناً بتعديل المادة 306 (أ) من قانون العقوبات، وإضافة مادة تعرّف التحرش الجنسي. من خلال هذا التعديل تم استبدال كلمة "خدش حياء أنثى في الطريق العام" بمصطلح "تحرش"، وتم إنشاء "إدارة مكافحة العنف ضد المرأة". بموجب القانون، قد تصل عقوبة المتحرش، باللفظ أو بالفعل أو السلوك أو عبر الهاتف أو الإنترنت، إلى السجن لمدة تترواح بين ستة أشهر وخمس سنوات، بالإضافة إلى غرامة قد تصل إلى 50 ألف جنيه مصري. لكن عوامل كثيرة تتداخل لتسمح لكثير من المتحرشين بالإفلات من العقوبة، تبدأ من الضغط المجتمعي على الفتاة وخوفها من الفضيحة وضغط العائلة، ولا تنتهي بثغرات القانون الكثيرة التي تجعله عرضةً للانتقادات من منظمات حقوقية عالمية ومصرية ومنظمات نسوية وناشطين وحقوقيين ومواطنين وصحافيين.عقبات أمام العدالة
يشير مصطفى محمود إلى أن "معظم حالات التحرش لا يتم تسجيلها في أقسام الشرطة لأسباب عدة، حتى بعد عام 2014، منها تكتيك تحويل واقعة التحرش إلى ضرب واعتداء كما حصل في قضية جهاد وروزانا. ويقع على الفتاة، ضغط نفسي ثقيل بسبب التحرش ويكون عليها أن تتعامل مع الحشود التي تتجمهر في الشارع، والذين لا يوفّرون الفتاة من تحرشهم هم أيضاً، فالفرصة سانحة لهم بحجة محاولة الإبعاد بينها وبين المتحرش. وهذا حصل مع روزانا وجهاد اللتين تعرضتا لتحرش من المواطنين الذين تجمهروا حولهم". ويضيف محمود: "لتتمكن الفتاة من تحرير بلاغ غالباً تضطر إلى الإمساك بالمتحرش بنفسها وذلك يشكّل ضغطاً نفسياً وجسدياً عليها. أما المرحلة الثانية فهي محضر الشرطة، وإشكالياته تتمثّل في عدم توافر أماكن مجهّزة لاستلام بلاغات العنف الجنسي. فتجد الفتاة نفسها خارجةً من اعتداء جنسي أو تحرّش، ويُطلب منها إخبار أمين الشرطة أمام كل الموجودين في القسم بما الذي حصل معها بالضبط، وما هي الألفاظ التي قيلت لها، وفي حال وضع المتحرش يده على أي جزء من جسدها، عليها إخبارهم بالتفصيل عن ذلك، ما يضع الناجية تحت ضغط نفسي كبير". ويشدد محمود على ضرورة احترام خصوصية ضحايا التحرّش، وهذا يتطلب توفير اأماكن مخصصة لبلاغات التحرّش و"تواجد أشخاص مختصين بالتعامل مع الفتاة التي تعرّضت لتوها لصدمة، وهذا أمر ضروري ومن أولويات مكافحة العنف، لأنه يشجع النساء على تقديم بلاغات ضد المتحرشين، وهو طبعاً أمر غير متوّفر في مصر". لا يمكن الجزم بطريقة تعامل رجال الشرطة مع حالات التحرش التي تصل إليهم في الأقسام، بحسب محمود. يقول: "لا يمكنني القول إن رجال الشرطة لا يهتمون أو يهتمون بشكل عام، فهم بالدرجة الأولى يقومون بواجبهم ويسجّلون الواقعة لكن يمكنني القول إنه أحياناً يكون هناك تعاطف واهتمام كبيران من قبل بعض رجال الشرطة، بينما يتصرّف آخرون على أنه بلاغ عادي كغيره". ويضيف: "أحياناً يساعد بعض رجال الشرطة المتهم ويلفتون نظره إلى فكرة المحضر المضاد، وهو اتهام الفتاة بالضرب، ليستطيع أن يساومها فتتنازل عن القضية، وإنْ لم تفعل ذلك تصل القضية إلى مرحلة النيابة". في مرحلة النيابة تتشابه العقبات. لا توجد أماكن مخصصة للاستماع إلى الناجية من التحرش أو متخصصون في التعامل مع الصدمات، كما يشير محمود، مضيفاً أن ذلك يسمح لأهل وأقارب المتحرّش بالوصول إلى الناجية وتبدأ رحلة المساومة والابتزاز العاطفي للفتاة للتنازل عن الدعوى بحجة أنها "ستخرب بيته"، فيما يلجأ آخرون إلى أسلوب الترهيب والتهديد. ترى جهاد، وهي ناشطة في مجال حقوق المرأة، أن إجراءات البلاغ ضد المتحرش تجعل حياة الناجية من التحرش أصعب، لأنها لا تراعي أبداً الحالة النفسية للفتاة. أما روزانا، فإن أكثر ما أزعجها واعتبرته إحدى ثغرات قانون التحرش، هو أن "بياناتنا بالكامل يتم ذكرها في المحضر، ويُسمح للمتهمين المتحرشين بالحصول عليها وعلى المحضر، ما أدى إلى استقبالي عدداً كبيراً من الاتصالات الهاتفية المزعجة من أهل المتحرشين وأقاربهما للضغط عليّ للتصالح والتنازل، بالإضافة إلى زيارتهم منزل أسرتي". تقول: "أشعرني ذلك بالخوف والتهديد وعدم الارتياح، كما أن احتكاكهم بأهل منطقتي الشعبية، الذين تعاطفوا معهم، خلق لديّ شعوراً بعدم الأمان حتى في مكان سكني".مصر الأخطر على النساء
رغم محاولات الحكومة المصرية الحثيثة لوضع يدها على ملف العنف ضد المرأة، الذي يندرج تحته العنف الجنسي، والإيحاء بأن الحديث عن انتشار وتزايد التحرش في مصر هو تهويل، أشار استطلاع أجرته مؤسسة تومسون رويترز إلى أن مصر هي أخطر مدينة كبرى في العالم على النساء. رفضت جميع المؤسسات الرسمية والحكومية المصرية نتيجة الاستطلاع، لكن ناشطين وحقوقيين أشاروا إلى أن الحكومة هي مَن يتحمل مسؤولية نتيجة هذا الاستطلاع. فالحكومة المصرية شنت حملة واسعة على مؤسسات المجتمع المدني وضيقت الخناق على عملها، وسجنت الكثيرين من العاملين فيها، ومنعت غيرهم من السفر. أيضاً عمدت منذ عام 2014 إلى منع إعطاء هذه الجمعيات تصاريح تسمح لناشطيها بالنزول إلى الشوارع والميادين لرصد حالات التحرش، ما يجعل العمل على ملف التحرش الجنسي في مصر صعباً على الجمعيات والناشطين. أما عن "إدارة مكافحة العنف ضد المرأة"، فتقول الصحافية الناشطة في جمعيات نسائية عدة نيرة حشمت: "كنت كصحافية أغطي حفل توقيع البروتوكول مع المجلس القومي للمرأة. الإدارة تتكون من أربع أو خمس نساء وضابط كان يتكلم باستخفاف عن موضوع التحرش. حيناً يقول إن التحرش في مصر لفظي فقط، وأحياناً يؤكد أنه ليس هناك تحرشاً لأن البلاغات ليس كثيرة، وغيرها من التصرفات". تؤكد جهاد، من خلال متابعتها لهذ الملف، أن الدولة لم تبذل جهداً لتتأكد من أنها توفر حمايةً حقيقيةً للنساء. وتقول إن مؤسسات المجتمع المدني والناجيات والناشطين والمجموعات المهتمة بتفسير ظاهرة التحرش وحلها، حاولوا فتح حوار مع الدولة أكثر من مرة لمحاولة طرح آلية حماية حقيقية للنساء، ونشر وعي جندري لدى جهات التحقيق، "فرجال الشرطة هم أول المتعاطفين مع المتحرش في حالات كثيرة، ولكن الدولة للأسف الدولة لم تواجه هذه الدعوة بطريقة إيجابية".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...