شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الشتائم اليومية: لنركل مؤخرة العالم كما ركل مؤخراتنا

الشتائم اليومية: لنركل مؤخرة العالم كما ركل مؤخراتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 7 سبتمبر 201810:10 ص
أمير ويلز مخاطبا فولستاف (مسرحية هنري الرابع لشكسبير): ويك أيها النهم ذو العقل الآسن والرأس الفارغ، ويك أيها الأحمق الوضيع الداعر، يا دناً من الشحم المعفن. فولستاف (يرد عليه) : عليك اللعنة أيها الهزيل النحيل، يا جلد ثعبان الماء، يا لسان الثور المجفف، يا قضيب التيس، أيها السمك القديد، يا مقياس الخياط يا غمد السيف، يا قراب القوس، أيها السيف الغث.

شتائم النبلاء المغسولة بالسبيرتو

ظهرت الشتيمة في أول ظهور للغة الشفهية وأظن أن أول شتيمة في التاريخ يجب أن تكون حين صرخ هابيل بعد تلقيه الضربة على رأسه: قتلتني يا بن القذر، أو هكذا أحب أن أعتقد، واعتقد الجميع بأن الشتائم كمفردات أمر مستهجن وطارئ على اللغة. فمن غير المحبّب أن نعترف بأن اللغة التي تجري على ألسنة الأنبياء والرسل والمنطوقة بحنجرة الخالق، قد تحوي كلمات يشرح فيها قائلها ماذا سيفعل بوالد خصمه إذا أمسك به تحت شجرة نخيل مثلاً، أو كيف سيسحب لسانه من فمه ويضعه في مؤخرة خروف، فأقصيت الشتائم والحال كذلك إلى العامّة، صيادي السمك وجامعي روث الحيوانات، اللصوص والقوادين والشعراء الجوالين، الممثلين ولاعقي مؤخرات الملوك، بينما احتكرت طبقة النبلاء والسادة الكلام المنمّق، المتزن، الشاعري والمليء بالدلالات العميقة. فأصبح العمق سمة النبلاء والسطحية سمة العامّة، في تقسيم لغوي مجحف، فالسادة أيضاً يشتمون لكن بلغة مختلفة وكلام مبهم، على نحو ما يفعل أمير ويلز في مسرحية شكسبير، حيث يشتم بتهذيب وأناقة، بينما يشتم فولستاف الثمل بوضاعة وبمفردات قذرة. بقيت الشتيمة لوقت طويل تحمل هذه الإدانة والتصنيف الطبقي، النبلاء يشتمون العامّة بتشابيه أدبية والعامّة يشتمون النبلاء بمفردات سوقية ويسخرون من ترفّعهم الزائف هذا. ولم تدخل الشتائم لغة الأدب إلا في السياق الأخلاقي الاتهامي نفسه، حتى الحرب العالمية الثانية، حين غيّرت مشاهد الدمار وقصص الموت النظرة المترفّعة للأدباء. وظهرت مجموعة من الكتاب لا يتورّعون عن كيل السباب للأنظمة الفاسدة والقمع السياسي والديني، جاك كيرواك ونيل كاسادي وآلن غينسبرغ، باستخدام لغة شوارعية لا تخجل من وضع الأعضاء الجنسية قرب الكتب المقدسة في نص أدبي واحد، وتوصف قصيدة (عواء) لغينسبرغ بأنها أعظم نص هجاء لتوحّش الرأسمالية الأميركية ونظامها السياسي في القرن العشرين.
أيها الناس اشتموا تصحّوا، العنوا العالم الذي ركل مؤخراتكم واشتموا النظم السياسية التي احتقرتكم وعبثت بمصائركم! الغضب ملك للجميع.
اعتقد الجميع بأن الشتائم كمفردات أمر مستهجن وطارئ على اللغة. فمن غير المحبّب أن نعترف بأن اللغة التي تجري على ألسنة الأنبياء والرسل والمنطوقة بحنجرة الخالق، قد تحوي كلمات يشرح فيها قائلها ماذا سيفعل بوالد خصمه إذا أمسك به تحت شجرة نخيل مثلاً
وهذا الفصل الفصامي بين نوعين من اللغات ليس غريباً عن مجتمعاتنا العربية، فما زال مطلقو الشتائم يقبعون في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي، ومازالت الشتائم المستخدمة في الفنون المكتوبة والمصوّرة معقّمة كأنها خرجت للتو من زجاجة السبيرتو، فأقصى ما قد يقوله ممثل في فيلم سينمائي تلقى نبأ خسارة أملاكه واحتراق بنطلونه المفضّل وموت قطته هو: العمى!!! والتراث العربي المكتوب أو ما تبقى منه يذخر بقصص مذهلة وشتائم مبدعة لكنها مرذولة ومحجوبة ومسكوت عنها ذلك أن في الدين الإسلامي أحاديث نبوية ليست بالقليلة وآيات قرآنية عديدة تقول بشكل واضح وصريح بأن الشتّامين سيعانون في الجحيم الأبدي. لكن هذا لا يمنع الرب ورسوله، في احتكار واضح للغة السباب، أن يشتم المخالفين لأمره والمنكرين لربوبيته، بوصفهم خنازير وكلاب وحمير، بل ثمة سورة كاملة في القرآن بخمس آيات يشتم فيها اللهُ أبا لهب ولا يتورّع عن شتم زوجته أيضاً، في تحدٍ واضحٍ لتعاليمه الأخلاقية التي يأمرنا باتباعها ولسان حاله يقول: الحيوانات والبشر مخلوقاتي واستطيع تشبيه بعضهم ببعض، بل أستطيع أن أضع رأس حمار وذيل كلب على جسد إنسان وأضحك ملء شدقي.

السياسيون: شتامون بلغة سوقية

بعد أكثر من 600 سنة على كتابة مسرحية شكسبير، استخدم رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي اللغة نفسها موجهة إلى الرئيس الأميركي آنذاك أوباما قائلا: فليذهب إلى الجحيم ابن العاهرة هذا..كما استخدم العديد من الرؤساء لغة الشتائم بهدف التقليل من أهمية خصومهم، وإذا استعرضنا مفاعيل الربيع العربي في هذا السياق سنجد مفردات لم تكن لتجري من قبل على ألسنة الرؤساء العرب، من الجرذان والقطط إلى شذّاذ الآفاق ومن الحثالات إلى الجراثيم. وبدوره لم يتورع الجمهور عن استخدام أقذع الألفاظ في المظاهرات، فقد كان لا بد من أن تسقط القداسة الزائفة للقادة، كان لابد أن يسمعوا شتيمتهم بقلب آذانهم ليعرفوا أن الشعوب لا تنام ولا تنسى الظلم، وأنهم مهما بالغوا في تطويب آبائهم كقديسين لن يرى الشعب فيهم إلا محتالين فشلوا في تربية أولادهم. لم تستمرّ حالة الترفع والطهرانية الكاذبة عند القادة العرب كثيرا، كأنهم أبوا أن يحتكر الشعب اللغة السوقية كما احتكروا هم الفساد والقمع، فانتقلوا إليها بسهولة وسلاسة, رغم أن الشتيمة كانت تجري على ألسنتهم دوما لكن بطريقة مضمرة ولا تقل إهانة عن الشتائم الأصلية، فحين يخرج طاغية ما في بلد مسحوق لم يعرف أهله طعم الحرية منذ عقود ويقول: أيها الشعب العظيم، أيها الشعب الحرّ! ألا يخفي في هذا النداء مهانة لشعب لا يجرؤ على قول لا حتى في التشهّد. ألا يقول هنا بلسانه نفسه: أيها الشعب القذر يا أبناء السفلة...، حين يخرج قائد على شعب من الجوعى واللاجئين ومتسولي رغيف الخبز وملعقة السكّر ويتغنّى بانتصارات حققها جيشه وبنموّ أنجزته حكومته، ويقابل الشعبُ ادعاءاته بتصفيق حاد وتصديق، ألا يستخدم الطرفان هنا سبابا بمعنى: أنتم تعلمون إني أكذب عليكم يا أبناء الكلاب الضالّة ويجيب الشعب: ونحن نسخر من انتصاراتك الوهمية يا بن العاهر. 

علم نفس المهانة والغضب

والسباب في علم النفس ينشئ من شعور بالضعف والمهانة حسب فرويد، رغم أن الدراسات الحديثة لا تتناوله بالطريقة الأخلاقية التي درج عليها كهنة علم النفس إنما تجد فيه ضربا من الصحّة النفسية وموقفاً واضحاً من القضية المطروقة وربما العالم أيضا، فنستطيع القول: أيها الناس اشتموا تصحّوا، العنوا العالم الذي ركل مؤخراتكم واشتموا النظم السياسية التي احتقرتكم وعبثت بمصائركم، ابصقوا على صور السياسيين والقادة والمطربين الشعبيين، تخلصوا من أثقال طهرانيتكم الكريهة: الغضب ملك للجميع.

من مخطوط (التبعيض) لأبي الروز الطواحيني

بعد أن استقرّ الأمر للخليفة المرتهن لآيات الله وقبض على أتباع أبيه المحتكم لله ووضعهم في الحديد، أمر بإلغاء يوم الجمعة من الأسبوع واستبدال اسم شهر ذي القعدة بذي الأذيال التسعة، فخرج الخطيبُ على المنبر في آخر جمعة من الأيام وقال بعد الصلاة على النبي: يا كيدَ العواجيز ويا سُبّةَ الحياةِ القاحلةِ، يا نشأةَ العهرِ وكسدَ باعةِ الأقطانِ، يا لسانَ ثورٍ في إستِ ثورٍ، يا قابضاً قضيبَ أبيهِ بأسنانٍ لبنية، يا مقبلاً في الظلمِ ومدبراً في الشرفِ، ياقضيبَ تيسٍ منتفخٍ من السفادِ وجذعاً مرذولاً في الأكمات، أيها الخبرُ السيُّء والذيلُ المعقوفُ كحرفِ الباءِ، يا دماً في الحناجرِ وصراخاً يابساً في الأذرعِ المبتورةِ. والله لو وضعتَ يدَكَ بيدِ السماءِ وأخرجتَ الغيمَ من لباسِكَ لن تكونَ إلّا قاطعَ طريقٍ، يا وسخَ الأقدامِ العاريّةِ وهوّةَ فمِ الهاويّةِ، يا نصفَ رجلٍ وربعَ كلبٍ وثلثَ حذاء، يا ثلاثةَ شياطين يركبونَ يومَ الجمعة، يا ابنَ الخطأِ الزنيمِ وعفنَ الأكلِ القديمِ، إن أصبحتَ أو أمسيتَ، إن ظهرتَ أو تواريتَ فلن تأخذ منا قدرتنا على قول لا، وإنّا لقائلين: لا لخلافتكَ النجسة ولسلالتك الرخصة، لا لزبانيتك وأزلامك التعساء، لا لعسسك المأفونين وعساكرك المغبونين، يابن الغبنِ الهرمِ والسهمِ الضالِ. ثم نزل، فقيل له من تقصد يا مولانا بهذا، فأجاب: أبي رحمه الله، ففهموا وأشاحوا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image