السعادة هي أن نحب، والحب سعادة.. السعادة أحياناً وربما دائماً، لا تتطلب الكثير، سوى بعض الحب، كما يقول واسيني الأعرج في روايته "أنثى السراب".
متى تتحقق السعادة؟ ومتى يأتي الحب؟ هل الأمر مرتبط بأمنية تتحقق؟ بحبيب ذي مواصفات معينة؟ بظروف معيشية تتهيأ؟ بصحة تتحسن؟ بـ...
أسئلة جميعها مشروطة بالزمن. والزمن دائماً عامل أساسي في أي علاقة بين البشر وبعضهم، أو بين البشر والأشياء.
الحب الآن.. السعادة الآن
في هذا المشهد من فيلم "حنفي الأبهة"، تناست عبلة (الفنانة هدى رمزي) أنها مخطوفة ومعرضة للقتل، واستمتعت بلذة التصاق جسدها بجسد زوجها شريف (الفنان فاروق الفيشاوي)، والذي طالما حرمت منه. https://youtu.be/UiRUi5q_v7g?t=6664 هذه الصورة المتداولة على السوشيال ميديا، رغم معانيها التي قد تعتبر انتهاكاً للذوق العام، أو للقانون، إلا أنها تعبر عن سعادة. في الصورة استمتعت الأسرة بـ"اللحظة"، متجاهلة سخرية متوقعة من مارة، وخوفاً من شرطي قد يأتي بعد ثوانٍ أو دقائق لطردهم. اتسقت الأسرة مع فقرها؛ لم يلعن الرجل عجزه عن الجلوس مع زوجته وأولاده في "كافيه شيك" على نيل القاهرة، ولم تتباكَ المرأة على حظها الذي أوقعها في الارتباط برجل فقير، وقررا مع أطفالهما أن يستمتعوا بالنيل، ليس غير. بلغة الرياضيات، هناك من يتعامل مع الزمن كفترة، وهناك من يتعامل معه كنقطة؛ أي هناك من يتعامل مع اللحظة التي يعيشها فقط، وهناك من تسيطر عليه خبراته ومعارفه وتراكماته المشاعرية السابقة، أي "الأنا"، فيحكم على واقعه ومستقبله من خلالها. وهناك من يستطيعون التمرد على "الأنا" التي شكلها الزمن ويتعاملون مع الحب (حب بين البشر، أو حب للمعنى أو القيمة) على أنه اللحظة الراهنة، وهؤلاء هم الأكثر استمتاعاً بالحياة، بحسب ما يرى الكاتب الألماني إيكهارت تول في كتابه "قوة الآن – the power of now".حلاوة الحب
هذا الأمر موجود في ثقافتنا، وظهر في أشعارنا وأغانينا العربية؛ فمن كلمات جورج جرداق غنت أم كلثوم قصيدة "هذه ليلتي"، وطلبت من الزمان أن يتوقف عند ليلتها مع حبيبها: "هذه ليلتي فقف يا زمان". أما وردة الجزائرية فقد عبرت عن امرأة ذاقت كل الحب وفي وقت قصير جداً، بمجرد أن عرفت حبيبها، حين غنت لحسين السيد: "في يوم وليلة دقنا حلاوة الحب كله في يوم وليلة". ولخص جورج وسوف المسألة في أغنية "سهرت الليل" من كلمات رياض البندك، وقال: "العمر لحظة"، متسائلاً: "نزعل ليه؟".الاستسلام للحظة، أي الانسجام الكامل معها، سيجعلنا نصل إلى الهدوء المصحوب بالتركيز الشديد، وفي هذه الحالة نستطيع دفق طاقتنا باتجاه الشيء الذي نريده.
رؤية الأشياء بتجرد (دون الأنا)، وفقاً للحظة التي نعيشها، هي الذكاء الذي يدفع إلى الحب، و أن الحب يدفع إلى التركيز فيما نحب، وبالتالي تحدث المعرفة بالخير المطلق والجمال الكلي، أي بلوغ السعادة الشخصية.وفي رباعياته التي ترجمها أحمد رامي للغة العربية، يضع عمر الخيام يده على قضية "الآن"، ويطلب الاستمتاع باللحظة، والتخلص من أفكارنا ومشاعرنا المسبقة التي قد تفسد علينا سعادتنا بما هو متاح، فيقول: "لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان، واغنم من الحاضر لذاته". صحيح أنه ربط هذا الاستمتاع بأن الليالي ليس من طبعها الأمان، ولكنه عاد ورأى أن اليقين المطلق هو "الآن"، أي اللحظة التي نعيشها: " لا توحش النفس بخوف الظنون، واغنم من الحاضر أمن اليقين". وينظر الشاعر الفيلسوف الفارسي إلى المترددين المتشككين، المتعاملين مع الحب من خلال "الأنا"، الحاجبين عن أعينهم جمال الدنيا بإرادتهم على أنهم غافلون، أي "لا يفهمون ولا يدركون" فيقول:"ولست بالغافل حتى أرى جمال دنياي ولا أجتلي". ثم أخذ الخيام يحرض على الحب، كإحساس راقٍ يندم الإنسان أشد الندم على ضياعه، فيقول: " أولى بهذا القلب أن يَخفِق وفي ضرام الحب أن يُحرق، ما أضيَع اليوم الذي مر بي من غير أن أهوى وأن أعشق".
لا تقاوموا الحب ولا تلعنوا اللحظة
ويرى إيكهارت تول أن ما وراء السعادة أو عدم السعادة هو "السلام النفسي"، ويوضح أن هذا السلام لن يأتي إلا بقبول "الآن"، وهو أمر لا يعني أبداً الانهزام أمام الواقع، أو التوقف عن وضع خطط مستقبلية والبدء بخطوات إيجابية لتنفيذها، وإنما التوقف عن لعن الواقع (إذا كان رديئاً في عيوننا)، والعمل على الوصول للأفضل، مع استثمار أجمل ما في اللحظة للاستمتاع به. الاستسلام للحظة، أي الانسجام الكامل معها، سيجعلنا نصل إلى الهدوء المصحوب بالتركيز الشديد، وفي هذه الحالة نستطيع دفق طاقتنا باتجاه الشيء الذي نريده؛ لأن مسارات تفكيرنا ومشاعرنا في هذه الحالة ستصير ممهدة وبلا عثرات أو سدّادات تعطل طاقتنا عن التدفق بحرية وسلاسة وسرعة، فنحصد الإنجاز، ونحصل على السعادة ونحْن في طريقنا إلى هذا الإنجاز، ومن ثم حين نصل إليه.لا تقاومي الحبأنت الآن تحب فتاة، ولكنك فقير. استسلم أولاً لكونك تحبها، واستمتع بذلك، واستسلم أيضاً لكونك فقيراً وتحتاج إلى المال. استغل الطاقة التي تولدها الحاجة ويغذيها الحب، وابني خططك، ولا تلعن الواقع وإنما استمتع به، حتى لا يعطلك سخطك عن التخطيط والإنجاز؛ لأنك في حالة الاستسلام ترى بوضوح ما تحتاجه، و"سيمنحك الاستسلام تركيزاً شديداً في إنجاز حاجتك"، يقول إيكهارت تول. الاستسلام عند تول لا يعني السلبية، وإنما تقبل الواقع بعيوبه، والتعامل معه بتسامح، كي تستطيع السمو فوقه. "هذا الشاب يحبني ولكني لا أثق به، يبدو زير نساء وله كل يوم علاقة، وبالتالي فإن ارتباطي به سيؤذيني"... هذه الكلمات قد تدمر علاقة رائعة تنشأ بينكِ وبين شاب يحبك فعلياً، والحل يكمن في أن تستسلمي ولا تقاومي، بل استمتعي بأنك محبوبة، أو أنك في الطريق إلى الحب! صحيح أن من يكذب يتعامل وفقا للـ"الأنا" أو السلوك غير الواعي؛ لأن من صفات الشخص "غير الواعي" استخدام الآخرين والتلاعب بهم، ولكن ما هو حقيقي بالمقابل، أن الشخص "غير الواعي" هو أيضاً من يقاوم سلوك غيره، وفقا لـ"تول". في "الوعي" تخلٍ عن "الأنا" -أي عدم الحكم على الأمور، من منطلق التراكمات الفكرية والمشاعر المسبقة- وبالتالي تخلٍ عن المقاومة السلبية. وبعد هذا التخلي نحكم على الأشياء ونتعامل معها بتجرد، لأن من يحكم على التجربة في حالة "الأنا" ليست "أنتِ"، إنما مجموعة الأفكار التي اكتسبتِها من مجتمعكِ وبيئتكِ المحيطة، والتي شكلت "الأنا" لديكِ. في حالة الوعي تستطيعين أن تحكمي على العلاقة بعمق شديد، تستطيعين أن تقبليها بوعي، أو ترفضيها بوعي، وهنا سيصبح القبول قوياً، أو سيكون الرفض صارماً.
اللحظة.. حقيقة كيميائية سيكولوجية مدعومة فلسفياً
ما يقوله تول تدعمه طبيعة الحب الكيميائية؛ فوفقاً لدراسة لبروفوسير علم النفس آرثر آرون، فإن الجهاز العصبي للإنسان يستغرق ما بين 90 ثانية و 4 دقائق ليفرز الهرمونات المحفزة على الحب، وبالتالي فإننا أمام واقع علمي يقول إن الاستسلام للحب سريعاً (الآن)، دون المعاناة التي تفرضها "الأنا"، أمر تحتمه كيمياء الجسم. وحينذاك يسمو الحبيبان، ويتجاهلان الظروف غير المناسبة (وفقاً لما تفرضه الأنا)، ولا يشعران إلا بالحب.استسلم للحظةوتواترت الدراسات والأبحاث السيكولوجية والدماغية، التي تشير إلى حقيقة "الحب من أول نظرة"، وأنها ظاهرة إنسانية أصيلة. ففي اللحظة التي تطلق بها العين سهمها إلى المحبوب/ة، يغيب العقل عن أي شيء، ولا يرى إلا هو/هي في تلك اللحظة، شغوفاً بالتواصل، وهي اللحظة التي لا تمحى أبداً من أذهان العاشقين. في هذه اللحظة يفرز الدماغ موادَّ كيميائية تعطي شعوراً بالنشوة والسعادة، وعلى رأسها الدوبامين والأوكسيتوسين والأدرينالين. وهي أيضاً الحالة التي نعثر فيها أو نصل إلى شيء غالٍ علينا، هي عودة غائب، وتفوق في دراسة، وترقٍ في عمل، هي سيارة جديدة، ومنزل فخم... هي لحظة النشوة مع ما نحب، هي الـorgasm الجنسي. ما يميز هذه الحالات هو التركيز الشديد، وخلو العقل والمشاعر إلا من شيء واحد يباشره والنظر إليه على حالته، ما يدفع بالإنسان إلى قمة وهجه الوجودي، ويجعله في أقوى لحظاته الذهنية. ووفقاً للفيلسوف الأمريكي الإسباني جورج سانتيانا فإن الذكاء هو: "سرعة" رؤية الأشياء كما هي. أي بلا تراكمات "الأنا". ويرى أيضاً أن المحب أكثر دراية ومعرفة بالجمال الكلي، والخير المطلق، أكثر من رجال المنطق أو رجال الدين، بحسب ما نقل عنه سعيد عبيد في كتابه "فلسفة القيم عند جورج سانتيانا". أي أن رؤية الأشياء بتجرد (دون الأنا)، وفقاً للحظة التي نعيشها، هي الذكاء الذي يدفع إلى الحب، و أن الحب يدفع إلى التركيز فيما نحب، وبالتالي تحدث المعرفة بالخير المطلق والجمال الكلي، أي بلوغ السعادة الشخصية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...