في ميدان رمسيس الواقع بقلب محافظة القاهرة المصرية، وقفت سيدةٌ في الأربعينيات من العمر أمام بائع حقائب مدرسية يضع بضاعته على الأرض في ركنٍ من الميدان القريب من منطقة الفجالة، عاصمة تجارة المستلزمات المدرسية في مصر. تحاول السيدة أن تشتري حقيبة لطفلتها بمبلغ 150 جنيهاً مصرياً، أقل من تسعة دولارات، لكن البائع مصممٌ أن الحقيبة المرسوم عليها واحدةٌ من شخصيات فيلم frozen الشهير تستحق 170 جنيهاً. أصرَّت السيدة على دفع ما اقترحته فقط على الرجل، بدوره صمم أن "كدة البيعة مش جايبة ثمنها" وهي جملة يستخدمها بعض الباعة في مصر حين يواجهون فصالاً من المشترين يهدد مكسبهم.
رحلة البسطاء لشراء مستلزمات مدرسية لأطفالهم
تقول نادية لرصيف22 وهي تحاول البحث عن حقيبة أخرى وسط بضائع الرجل "جئت من بولاق الدكرور، بحثاً عن حقيبة طلبتها ابنتي مرسوم عليها الأميرة في فيلم ملكة الثلج - تقصد فيلم Frozen- ولا يمكنني أن أدفع سوى 150 جنيهاً فقط، الحقائب أصبحت غالية جداً، وأخاف أن أنتظر أكثر فيزيد الثمن مثل كل شيء في مصر". كان واضحاً أن خامة الحقيبة رديئة، والسيدة تعلم ذلك جيداً "لكن هعمل إيه، مش هقدر أشتري حاجة أغلى من كده" تقول ثم تترك البائع للبحث عن آخر يقبل أن يعطيها ما ترغب مقابل ما تستطيع دفعه فقط. كان هناك الكثير من البائعين، يعرضون حقائب مدارس بأسعار تبدأ من 150 جنيهاً وتصل إلى 250 جنيهاً. يقول هدهد، أحد الباعة إن الشخصيات المرسومة على الحقيبة هي ما يزيد أو ينقص سعرها، مضيفاً أن الشخصيات المجسمة غير المطبوعة، أما التي تلقى إقبالاً كأبطال فيلم ملكة الثلج للفتيات، ولاعب كرة القدم محمد صلاح أو الأبطال الخارقين للفتيان أغلى من باقي المنتجات. حكاية نادية تشبه حال ملايين المصريات اللاتي يحاولن شراء مستلزمات المدارس لأطفالهن، مستخدماتٍ تقنية الفصال كسلاح لمحاربة الغلاء الذي انتشر في مصر منذ تحرير سعر الجنيه أواخر عام 2016. والذي تسبب في موجة غلاء كبيرة. يؤكد هدهد أن هذه الحقائب المستوردة من الصين ويبيعها الآن، كان سعر الواحدة منها أقل من خمسين جنيهاً قبل خمس سنوات، لكن بسبب القيود على الاستيراد، وارتفاع سعر الدولار زادت الأسعار. مضيفاً "الخامات أصبحت رديئة طبعاً في محاولة لتقليل السعر، هؤلاء ناس لن يستطيعوا أبداً دفع مبالغ كبيرة، هم مضطرون لشراء حقائب بجودة قليلة وأنا مضطر لبيع هذه الحقائب حتى أستطيع الحياة". ووجود هدهد وزملائه في هذه المنطقة ممنوعٌ منذ أن شنت السلطات المصرية حرباً على الباعة الجائلين في القاهرة ومنعتهم من التواجد في أماكن كثيرة منها ميدان رمسيس وشوارع وسط القاهرة، في محاولة لتقليل الزحام وجعل شكل قلب القاهرة حضارياً أكثر، لكن يدفع الباعة رشاوى للتواجد، وعندما تأتي حملةٌ أمنية كبيرة يهربون ببضائعهم. تركنا الميدان ببائعيه الذين ينادون على بضاعتهم، وتوجهنا إلى شارع الفجالة القريب، حيث عشرات المتاجر التي تبيع مستلزمات المدارس من أقلام وكتب خارجية وكشاكيل وعبوات للمياه يأخذها الطلاب معهم إلى المدارس، وغير ذلك. في شارع الفجالة وقف رجلٌ خمسيني ليشتري عبوة مياه، بينما البائع ينادي "أي حاجة بعشرة جنيه" أكثر من نصف دولار بقليل، قال الرجل لرصيف22 بعدما ابتاع عبوة لونها أزرق "جميلة ورخيصة، بالتأكيد ستعجب ابني". يعلل انخفاض سعرها بأن البضاعة في هذا الشارع تباع بسعر الجملة، وهي أرخص بكثير من محال أخرى في القاهرة. ينفي الرجل أن سعرها الزهيد يعود إلى أن نوع البلاستيك المستخدم في صناعة العبوة من أسوأ وأخطر أنواع الخامات المستعملة لأجل ذلك، كما كشفت العديد من التحقيقات الصحافية في مصر. يقول الطبيب المصري أحمد عبد الحليم لرصيف22 إن أغلب العبوات البلاستيكية الرخيصة في مصر مصنوعة من بلاستيك شديد الخطورة ويحوي مادتين عاليتي السمية، يطلق عليهما فيساليت وثنائي الفانلين أ. رغم ذلك يشتري ملايين المصريين تلك العبوات الرخيصة لأسباب اقتصادية بحتة. مع غياب أيّة رقابة على استيرادها وبيعها. المتاجر في شارع الفجالة المزدحم تبيع مستلزماتٍ مدرسيةً كثيرة، منها ألوان للرسم بأسعار تبدأ من خمسة جنيهات وتصل إلى عشرين جنيهاً حسب نوعها، شمع، أو خشب، أو فلوماستر. أما الحاوية التي توضع داخلها الأقلام والأدوات المدرسية الأخرى الصغيرة والمسماة في مصر "مقلمة" فيترواح سعرها في الشارع من 30 جنيهاً حتى 70 جنيهاً، بناء على خامتها والشخصيات المرسومة عليها. يقول علاء عز، أمين عام اتحاد الغرف التجارية المصرية لرصيف22 إن شعبة الأدوات المكتبية بالاتحاد لم تسجل زيادةً كبيرةً في أسعار مستلزمات المدارس والأدوات المكتبية لهذا العام مقارنة بالعام السابق. مضيفاً أن السبب هو تكيف التجار مع أسعار الدولار وضريبة القيمة المضافة والقوانين الجمركية الأخيرة في مصر. لكن على أرض الواقع الأمر مختلف كثيراً عن تصريح عز، حيث يؤكد الكثيرون أن الأسعار زادت بشكل واضح عن العام السابق. حين أخبرنا أمين عام اتحاد الغرف التجارية بشكوى بعض المصريين قال "ببساطة يمكن لمن يشكون من الغلاء التوجه إلى المعارض الحكومية المُخَفضَة التي تبيع مستلزمات مدارس"."هاي كوبي".. حلّ بديل
على بعد نحو نصف ساعة سيراً على الأقدام من شارع الفجالة ستجد نفسك في وسط القاهرة، حيث متاجر الأحذية، التي يزدحم أمامها المصريون، باحثين عن حذاء مناسب لأطفالهم في المدرسة. يقول الحاج محمود، صاحب متجر أحذية أطفال شهير في شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، إن الأسعار تتراوح ما بين 190 و300 جنيهٍ. بحسب جودة الخامة المصنوع منها الحذاء والبلد الذي صنع فيها. "هناك أحذية صينية أرخص من تلك المصنوعة في تايوان، ونوفر للمستهلك كل الأنواع مثل أديداس ونايك وبوما، لكنها طبعاً ليست الأصلية بل، هاي كوبي، بجودة معقولة" يضيف الحاج محمود لرصيف22. تقول سيدة وقفت بجانبنا في ذات المحل إنها تشتري حذاءً كل عام دراسي لطفلها، لكنها تشكو تراجعَ الجودة عما كانت عليه في السابق، رغم ارتفاع الأسعار "أنفقت حتى الآن حوالي 1800 جنيهٍ على مستلزمات مدرسة ابني، ما بين حذاء وزمزمية -وعاء للماء- وأقلام وكشاكيل، الأسعار نار، هذا راتب والده في شهر كامل، لكن ماذا نفعل، مضطرون لذلك". تضيف السيدة أن ما اشترته لن يكفي طفلها سوى فصل دراسي واحد، وأنها ستحتاج شراء نفس الأشياء في الفصل الدراسي الثاني.خارج المتجر وقفت سيدة بسيطة مع طفلها، وعيونهما متوجهةٌ إلى المنتجات المعروضة داخل الفاترينة الزجاجية. رفضتِ الدخول حين قرأت الأسعار، رحلت وهي تمسك طفلها بيدها، بالتأكيد ستذهب إلى مكان شعبي يمكنها أن تشتري منه مستلزمات تناسب إمكاناتها، حاولنا الحديث معها لكنها رفضت، اكتفت بالقول "أنا رايحة العتبة".
وجود هدهد وزملائه في هذه المنطقة ممنوع منذ أن شنت السلطات المصرية حرباً على الباعة الجائلين في القاهرة ومنعتهم من التواجد في أماكن كثيرة منها ميدان رمسيس وشوارع وسط القاهرة
"الشنطة ماركة أصلية عشان ثقة الطفل بنفسه"
في شارع السودان الواقع بمحافظة الجيزة يتواجد توكيل Active داخل مول صيدناوي، المكان مزدحم جداً، أيضاً لكن بنوعية زبائن مختلفة عن الذين كانوا في وسط القاهرة وميدان رمسيس وشارع الفجالة. جاؤوا لشراء منتجاتٍ أصلية غالية، والفصال ليس من طباعهم، فهم يعلمون أن الأسعار محددة مسبقاً، وأغلبهم يصطحب طفله مطبقاً المنطق التربوي "من حق طفلي أن يختار بنفسه ما يرغبه". وجملة "العودة إلى المدارس" بالإنجليزية تطاردك في كل مكان داخل المتجر الذي يتكون من أربعة طوابق. أمام حاوية كبيرة من البلاستيك داخلها عبوات مياه مدرسية وقف بعض الزبائن مع أطفالهم يختارون الألوان والأشكال التي تروق لهم، الأسعار مدونة على كل عبوة، تبدأ تقريباً من 350 جنيهاً، نحو 20 دولاراً، وتصل إلى 400 جنيهٍ، ويوضح الملصق المتواجد عليها أنها مصنوعة من بلاستيك صحي وخالية من مادة (BPA) المضرة. وتم اختبارها للتأكد من عدم تسريبها المياه داخل حقيبة الطفل. أما حقائب المدارس نفسها فكانت أصلية، مطبوع عليها شعار شركة Active وأسعارها تترواح من 800 جنيهٍ، وتصل إلى 1300 جنيهٍ. في المتجر أيضاً قسم خاص للقبعات المدرسية، يعلن عبر لافتة أنه يقدم تخفيض 20% بمناسبة العودة إلى المدارس، والأسعار تتراواح من 350 جنيهاً وتصل إلى 400 جنيهٍ للقبعة الواحدة. تقف سيدة أمام الحقائب مع طفلتها، بحثاً عما يناسبها، تقول لرصيف22 إن طفلتها تدرس في كايرو أمريكان كولدج، مدرسة مرتفعة المصاريف تقع في منطقة ثكنات المعادي بالقاهرة، مؤكدةً دون الترحيب بذكر اسمها أن "طفلتي يجب أن يكون معها حقيبة أصلية حتى لا تتعرض لإحراج بين زميلاتها في المدرسة". مضيفة أن للحقيبة الأصلية فوائد عدة منها، زيادة ثقة الأطفال في أنفسهم بين زملائهم، كما أنها تحمي جهاز الحاسوب المحمول الذي تذهب به ابنتها للمدرسة. توجهنا إلى قسم الأحذية، وفيه الأسعار مختلفة تماماً عنها في متاجر وسط القاهرة، يتراوح سعر حذاء الطفل من 800 جنيهٍ إلى 3000 جنيهٍ، والسبب أنه أصلي وليس تقليد. خارج المتجر وقفت سيدة بسيطة مع طفلها، وعيونهما متوجهةٌ إلى المنتجات المعروضة داخل الفاترينة الزجاجية. رفضتِ الدخول حين قرأت الأسعار، رحلت وهي تمسك طفلها بيدها، بالتأكيد ستذهب إلى مكان شعبي يمكنها أن تشتري منه مستلزمات تناسب إمكاناتها، حاولنا الحديث معها لكنها رفضت، اكتفت بالقول "أنا رايحة العتبة". والعتبة سوق شعبي يبيع أيضاً مستلزمات مدارس هذه الفترة بسعر مختلف تماماً عن المعروض داخل مول Active لكن طبعاً بخامات رديئة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...