منذ القرون الأولى قبل الميلاد عرفت اليمن أحد أول أشكال الديمقراطية التي سبقت بها المنطقة بأسرها في ضرورة رجوع الحاكم إلى مجلس شعبي لابد وأن يقرّه على قراراته قبل تنفيذها إلا وتصبح لاغية.
لا نتحدث عن تجربة "شورى" ناشئة كتجمّع قبلي داخل دار الندوة استأثر فيه بعض سادة قريش، ممن تخطوا الأربعين، بالقرار قبله وبعده، وإنما عن مجلس برلماني له قدر من الصلاحيات عبّر أعضاؤه عن هواجس رقعة واسعة من أهل اليمن السعيد، وهو ما عُرف تاريخياً بـ"مجلس المسود" (مشد أو مسد أو مزد)، والذي يمكن اعتباره أول ظهور لمجلس نيابي في الجزيرة العربية.
بعكس بلاد الحجاز، عرفت اليمن حياة سياسية منظمة منذ القِدَم، وشهدت دولاً مركزية بسط سلطانها نفوذه على كافة الأرجاء، توهج عطاؤها في الزراعة والعمران فقامت على عضديهما حضارات خلّد بعضها القرآن مثل "سبأ (800 ق.م - 525م)".
وأخرى حفلت كُتب المرويات ببديع أعمالها مثل "معين (1400 - 850 ق.م)" و"قتبان (865 - 540 ق.م)" و"أوسان" و"حمير" و"حضرموت (1020 ق.م - 65م)"، بعضها تجاورت فتزاحمت وأخرى تتابعت فتوارثت.
صحيح أن الحُكم في جميع دول اليمن كان ملكياً نمطياً، ينتقل فيه الصولجان من الأب للابن أو لولي العهد إن لم يُوجد الأول، لكن كتب التاريخ تقطع بأن الملك اليمني، في جميع الحضارات التي قامت في جِنانها تلاحقت لم يكن ظلاًّ للإله في الأرض له مطلق صلاحيات اتخاذ القرارات، وإنما عليه أن يستشير "الملأ" من قومه قبل إقرار أي مرسوم هام.
لا يمكننا الجزم من أين أتت الشرارة ولا كيف، بدأتها سبأ أم معين أم قتبان؟ لا تنجدنا المرويات بما يكفي من معلومات لليقين.
لكننا يمكننا القطع بأن السلطة التشريعية اليمنية عرفت نظام المجلسين مبكراً جداً منذ القرون الأولى قبل الميلاد، الأول دُعي بمجلس المسود (مسد منعن أي المجلس المنيع)، وكان يضم كبار رجال الدولة وأسياد القوم والقبائل والمخاليف (المحافظات)، وكان بمثابة المجلس الاستشاري للحاكم يجتمعون للبت في أمور الحرب والمنشآت العامة واستراتيجيات الدولة العليا.
أما المجلس الآخر فهو سلسلة عنقودية من مجالس قبائل أو "مزواد"، ويضم زعماء قبائل كل منطقة وممثلي كل مدينة، وكانت مهامه تمتد اقتراح قوانين يحتاجها الناس لتصريف شؤونهم مثل كيفية البيع والشراء والاستثمار في الأرض وطريقة فرض الضرائب، وذلك لعرضها على الملك تمهيداً لنيل موافقته عليها، فيما يعدّها كثير من الباحثون النسخة اليمنية الأولى من مجالس المحليات.
علاوة على الطبيعة الجغرافية القاسية التي تقلل من مساحات الأرض الصالحة للحياة والتي تُجبر الجميع على الانصياع تحت قوي ولكن رشيد ومنظم يضمن تكافل الجميع للنجاة بحياتهم، ويضيف أن حالة التناحر بين ممالك اليمن وبعضها البعض أجبر ملوكها على محاولة كسب أكبر قدر من ود القبائل بدمج كبارهم في صناعة القرار.
ويختتم صاحب "المفصل" كلامه بأنه بمرور الوقت أخذت صلاحية "المزاود" تتقلص، وصار عدد من يأخذ بالرأي والمشورة من الملوك يقل حتى إذا جاءت الأيام المتأخرة من حكومة سبأ، صار الأمر للسادة وأصحاب الأراضي.
وحين حلَّ القرن الثالث للميلاد فما بعده، انفرد الإقطاعيون والملوك بالقرار وصار رأيهم هو الرأي الراجح، حتى تضاءل حكم "المزاود" أو زالت من الوجود تقريباً، لذلك نستطيع أن نقول: إن العربية الجنوبية فقدت أهم نعمة كانت عندها، نعمة الحكم التشاركي والتعبير عن الرأي.
صورة المقالة: Yemeni cultural landscape IMG16861 © Aga Khan Trust for Culture – Aga Khan Award for Architecture/Courtesy of architect/Anne De Henning--photographer
السلطة التشريعية اليمنية عرفت نظام المجلسين مبكراً جداً منذ القرون الأولى قبل الميلاد، الأول دُعي بمجلس المسود، والثاني عرف بـ"المزواد".
لكننا يمكننا القطع بأن السلطة التشريعية اليمنية عرفت نظام المجلسين مبكراً جداً منذ القرون الأولى قبل الميلاد، الأول دُعي بمجلس المسود (مسد منعن أي المجلس المنيع)، وكان يضم كبار رجال الدولة وأسياد القوم والقبائل والمخاليف (المحافظات)، وكان بمثابة المجلس الاستشاري للحاكم يجتمعون للبت في أمور الحرب والمنشآت العامة واستراتيجيات الدولة العليا.
أما المجلس الآخر فهو سلسلة عنقودية من مجالس قبائل أو "مزواد"، ويضم زعماء قبائل كل منطقة وممثلي كل مدينة، وكانت مهامه تمتد اقتراح قوانين يحتاجها الناس لتصريف شؤونهم مثل كيفية البيع والشراء والاستثمار في الأرض وطريقة فرض الضرائب، وذلك لعرضها على الملك تمهيداً لنيل موافقته عليها، فيما يعدّها كثير من الباحثون النسخة اليمنية الأولى من مجالس المحليات.
الشراكة السياسية بين الحاكم والمحكوم
يقول الكاتب اليمني ناصر العتولي، في مقاله "ثقافة الثورة" بصحفية "نشوان نيوز"، إن آلاف النقوش المسندية سجلت تاريخ الشراكة السياسية بين الحاكم والمحكوم في اليمن، فمجالس "المزاود" كانت مفوضة من القاعدة الشعبية التي اختارتها بإدارة الشأن المحلي اقتصادياً واجتماعياً بشكل كبير، كما كان "المسود" مجلس أعلى مهتم بالشأن الوطني العام مثل تنظيم التجارة وتأمين طرقاتها البحرية والبرية، وتنظيم مهام الدفاع والأمن وغيرها.يمكن اعتبار ما ظهر في اليمن وعُرف تاريخياً بـ"مجلس المسود" (مشد أو مسد أو مزد)، أول ظهور لمجلس نيابي في الجزيرة العربية
رغم انتقال الصولجان من الأب للابن أو لولي العهد في حضارات اليمن المتعاقبة، لم يتطور نموذج الملك كـ"ظل الإله" على الأرض، حيث كان على الحاكم أن يستشير "الملأ" من قومه قبل إقرار أي مرسوم هامويضيف، أن كل هذه العمليات كانت تتم في سياق منظومة من القوانين التي تضاهي أحدث التشريعات المعاصرة، والتي كانت تبدأ بمداولات المجالس حول القوانين المقترحة، ولم يكن لهم فقط سلطة إصدار القوانين، وإنما كان لهم نفوذ على الحاكم نفسه، فإذا أجمعوا على إبقائه أبقوه، وإذا رفضوه عُزل. ويوضح جواد في "المفصل"، أن عضوية المجالس كانت تأتي لصاحبها وفقًا لمنزلته ومكانته، فاعتُبر في ذلك العصر أن كبار الموظفين وملاك الأراضي ورجال الدين هم صفوة المجتمع الذين يملكون رجحان العقل الكافي لاستشارتهم في القرارات المصيرية، ويضيف، أن أعضاء المجلس عرفوا بلقب "أسود"، أي: "أسياد". اجتهد مؤرخ كالطبري في محاولة استنتاج عدد أفراد المجلس، فقدّرهم بأنهم 312 عضواً، قياساً على عدد وفد "الملأ" الذين اصطحبتهم ملكة سبأ بلقيس معها في قصة رحلتها الشهيرة إلى الملك سليمان. يؤكد عبدالعزيز بن صالح في كتابه "تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة"، أن جنوب الجزيرة شهد قيام دولة أوسان اليمنية، التي كانت جزءاً من دولة قتبان قرب مدخل البحر الأحمر وأشرفت، ثم انفصلت عنها في ظروف غير معروفة، ووفّرت لنفسها كياناً مستقلاً بجوار قتبان وسبأ، التفت ملوك الأخيرة إلى هذا الكيان الناشئ وتحولت أطماعهم إليها فبدأت عجلة المناوشات الحربية في الدوران بينهما، حالفهم النصر فيها حيناً والهزيمة حيناً آخر. ويضيف عبدالعزيز: جرت العادة في قتبان على أن يجتمع هذا المجلس في العاصمة بدعوة من الملك، ربما لمرتين على الأقل في كل عام، للنظر فيما يعرض عليه من شؤون الضرائب والمنشآت العامة، وللمداولة في أمور لحرب والسلم، ويتعرف الملك على نتائج قرارات المجلس فإن أقرها صيغت على هيئة مراسيم وأعلنها باسمه، أو وقعه معه رئيس مجلس المسود. ويكمل: على الرغم من صدور المراسيم بِاسم الحاكم إلا أنها لم تكن تؤرخ بسنوات حكمه، وإنما تؤرَّخ بعام رياسة رئيس مجلس المسود. ويبدو أنّ هذه كانت رياسة دورية يتعاقب عليها كبار أعضاء المجلس لفترات محدودة قد تقتصر على عام أو عامين لكل منهم، وكانت الأوامر أو المراسيم الملكية تنقش على مدخل العاصمة أو على نصب تقام في السوق الرئيسية وفي المعابد، ضماناً لعلانية القوانين وللتأكد من أنها بلغت علم الجميع. [caption id="attachment_159922" align="alignleft" width="700"] Istituto Veneto per i Beni Culturali[/caption]
"شهد على صحة هذا البيان وأيده ووافق على ما جاء فيه"
يقول جواد: كانت محاضر الاجتماع توقع بلفظة "مثبت" من أصل "ثبت"، وذلك دلالة على الموافقة والتأييد بصحة صدور القرار، وأنه صار إلزامياً واجب التنفيذ من الجميع، وحفظت لنا الكتابات حفظت الكتابات جملة قرارات من هذا النوع. ومن أهم ما بقي حتى الآن من تشريعات "مسود قتبان" بقايا نص تشريع نُقش على مدخل العاصمة "تمنع" صدر في عهد عهد الملك "يدع أب ذبيان بن شهر" في بداية القرن الثاني قبل الميلاد، وفيه يعاقب القاتل بالحرمان من الحقوق المدنية أو الدينية، وإن تجاهل هذا الحكم أباح الملك دمه ويكون من حق أي مواطن "قتباني" أن يقتله دون أن يخشى العقوبة. بالإضافة لنقش "سبأي" معروف بلقب "Halevy 51" عن قانون صدر في عهد والد الملك "يكرب ملك وتر" يتصل بحقوق الأرض وكيفية استغلالها في مقابل ضرائب معينة تُدفع إلى الدولة، حملت في نهايته موافقة سادة القبائل، وتذيلت أسماؤهم عبارة "شهد على صحة هذا البيان وأيده ووافق على ما جاء فيه". علاوة على نقش آخر عُرف بـ" Glaser1571" في عهد الملك "كرب أيل وتر" يتضمن يتضمن أمرًا ملكيًا يتصل بجباية الضرائب، وقد شهد عليه ووقعه ممثلو قبائل "ذي يفعان"، "نزحتن" (نزحتان)، و"أربعهان"، و"فيشان". بالإضافة إلى النقش الأشهر المسمى (RES 3566 = GI 1600) المعروف لدى الباحثين في التاريخ اليمني القديم بالدستور القتباني، والذي يبين مدى تأصير المجالس العامة وصلاحيتها الواسعة في إصدار التشريعات والقرارات المهمة. يفسر الباحث عبدالسميع عبد الحافظ في أطروحته "نظام الحكم والتنظيم الإداري في اليمن القديم" النزعة اليمنية المبكرة تجاه هذا الشكل الديمقراطي، بأن الجنوبيين لم يقدّسوا حكامهم أبداً، وبالتالي لم يسمحوا له بسلطة بلا ضوابط.تفسّر النزعة اليمنية المبكرة تجاه الشكل الديمقراطي في الحكم، بأن "الجنوبيين لم يقدّسوا حكامهم أبداً، وبالتالي لم يسمحوا له بسلطة بلا ضوابط"
علاوة على الطبيعة الجغرافية القاسية التي تقلل من مساحات الأرض الصالحة للحياة والتي تُجبر الجميع على الانصياع تحت قوي ولكن رشيد ومنظم يضمن تكافل الجميع للنجاة بحياتهم، ويضيف أن حالة التناحر بين ممالك اليمن وبعضها البعض أجبر ملوكها على محاولة كسب أكبر قدر من ود القبائل بدمج كبارهم في صناعة القرار.
ويختتم صاحب "المفصل" كلامه بأنه بمرور الوقت أخذت صلاحية "المزاود" تتقلص، وصار عدد من يأخذ بالرأي والمشورة من الملوك يقل حتى إذا جاءت الأيام المتأخرة من حكومة سبأ، صار الأمر للسادة وأصحاب الأراضي.
وحين حلَّ القرن الثالث للميلاد فما بعده، انفرد الإقطاعيون والملوك بالقرار وصار رأيهم هو الرأي الراجح، حتى تضاءل حكم "المزاود" أو زالت من الوجود تقريباً، لذلك نستطيع أن نقول: إن العربية الجنوبية فقدت أهم نعمة كانت عندها، نعمة الحكم التشاركي والتعبير عن الرأي.
صورة المقالة: Yemeni cultural landscape IMG16861 © Aga Khan Trust for Culture – Aga Khan Award for Architecture/Courtesy of architect/Anne De Henning--photographer رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 20 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.