شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"طلّ الملوحي أميرة السجن"، "راما العيد ابنة الجميع"... نساء "العنبر رقم 4" في سجن عدرا ووجع التفاصيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 7 أغسطس 201801:46 م

"طلّ الملوحي تشعر أنها أميرة. لا بدّ أنها فقدت عقلها في الداخل. عندما يحين موعد دخول الحرس من أجل إحصائنا، تصرّ على الظهور بشكل جيّد وعلى رشّ العطر، بحيث عندما يحين دورها خلال عملية العدّ تكون بأبهى حلّة. حين تنظر إليها لا بدّ أن تشعر بالشفقة".

"راما العيد تريد من كل امرأة في السجن أن تكون أمها. شابة يافعة وجميلة جداً بعينين واسعتين. أسميناها شوكولاطة. كانت بطلة الجمهورية في الريشة الطائرة (Badminton). راما من درعا، وحين اعتُقلت كانت لا تزال مراهقة، لكنها اتُهمت بالعمل ضدّ النظام. عندما بلغت الـ18، حُكمت بالسجن لستة سنوات وثماني أشهر".

"... تشبك مريم يديها في حضنها، ترفعهما أحياناً للدعاء وأحياناً أخرى للكفر بوضعها. تعيد السؤال نفسه مراراً وتكراراً: لماذا أنا هنا. فقدتُ عقلي وهي تكرّر عليّ ذاك السؤال كل أربع دقائق. لقد اعتدت أن أهتم بها، أن أغسل شعرها وأطعمها. ولكنها لا تكف عن طرح السؤال نفسه، ما جعلني أفقد عقلي. صرخت بها طالبة منها الكفّ عن طرحه، ثم دخلتُ في نوبة بكاء نادمة على ذلك".

هي قصص لـ"نساء العنبر رقم 4" التي وثقتها عزة أبو ربيع بالصور والكلمات. عزة أمضت أشهراً طويلة مع ثلاثين امرأة وفتاة في ذلك العنبر، حيث كانت معتقلة بدورها بعدما أوقع بها أحد أصدقائها في سبتمبر 2015. لقد دعاها الصديق إلى أحد المقاهي لشرب القهوة، وهناك كان الأمن بانتظارها.

قبل الوصول إلى سجن النساء في عدرا، أمضت عزة حوالي 70 يوماً في مركز احتجاز برفقة 15 سيدة أخرى. كان القمل يملأ رؤوس هؤلاء والعث يعشش في بطانياتهن. كان بإمكانهن زيارة المرحاض المليء بالفضلات والصراصير لبضع دقائق كل يوم. هناك وجدت الرسامة الآتية من طبقة متوسطة، والتي كانت قد باعت قبل اعتقالها ثلاثة من أعمالها للمتحف البريطاني، بين مجموعة من النساء بالكاد يعرفن القراءة والكتابة وقد جرى اعتقالهن بشكل عشوائي.

INSIDE_AzzaAboRabiah_1

تروي عزة لصحيفة "نيويورك تايمز" تجربتها في مركز الاحتجاز. تقول إن المرة الوحيدة التي سُمح لها فيها بالرسم كانت بعدما عرف المحقق أنها فنانة، فأعطاها قلماً وورقة وقال لها "ارسمي الكراهية".

"لقد أعطاني قلم رصاص وورقة وأجبرني على الرسم". كانت معصوبة العينين حتى أنها لم تتمكن من رؤية من كان يستجوبها، ولكن سُمح لها ببعض الرؤية كي ترسم. رسمت عزة رجلاً له نظرة شيطانية وهو يعصر طيراً بين يديه. قال لها المحقق "هذا نحن أليس كذلك؟ نحن نفعل ذلك". ردت الفنانة خائفة "لا لا، هذا ليس أنتم، إنه شخص آخر"، لكنه عاد ليقول "لا لا، هذا ما نفعله نحن، نعرف ذلك ونحن سعيدون به، أما هذا - وهو يشير إلى الطير المعصور- فهذا أنتم".

هي قصص لـ"نساء العنبر رقم 4" التي وثقتها عزة أبو ربيع بالصور والكلمات. عزة أمضت أشهراً طويلة مع ثلاثين امرأة وفتاة في ذلك العنبر، حيث كانت معتقلة بدورها بعدما أوقع بها أحد أصدقائها في سبتمبر 2015
كيف يمكن لتفاصيل صغيرة أن تحمل كل هذا الكمّ من الوجع؟ كيف يمكن لخبر حرص طلّ الملوحي مثلاً أن تتعطّر أثناء إحصاء السجينات أن يزرع غصة في الحلق بحجم سنوات الضياع والحلم "المعصور كحمامة"؟

وبعدما انتقلت إلى سجن النساء في عدرا رسمت من تشاركت وإياهن العنبر، جعلتهن يرين أنفسهن في مكان لا وجود للمرآة فيه. كانت صوتهن إلى الخارج، وحين خرجت من السجن عام 2016، علّقت وجوههن وصورهن على جدار منزلها في بيروت (حيث لجأت لأنها لا تزال مطلوبة في سوريا)، وأكملت في رواية حكاياتهن. أرادت أن تحافظ على ذكراهن، وأن تذكّر نفسها بأنها في الخارج وهنّ في الداخل.

"نساء العنبر رقم 4"... الوجع يكمن في التفاصيل

بحسب روايتها للصحيفة الأمريكية، تحسنّت ظروف عزة قليلاً حين تمّ نقلها إلى سجن النساء في عدرا. هناك استطاعت إقناع الحارس بأن يعطيها ورقة وأقلام رصاص لترسم.

"لم تكن توجد مرايا داخل السجن، لذا فإن الرسومات التي صنعتها للنساء جعلتهن يرين كيف يبدون. هن أكثر جمالا من الطريقة التي أرسم بها. في السجن لا يوجد شيء لفعله، تنشغل هؤلاء بتجميل وجوههن وشعورهن. تطلب بعض الفتيات من أهلهن شراء مستحضرات التجميل. بعضهن صغيرات جداً. يرقصن في الليل ويتنافسن بشأن من ترقص بشكل أفضل. أحيانا يبكين أثناء الرقص".

هذا ما ترويه عزة، مستذكرة ليلة رأس السنة من ذاك العام. "لقد سمح لنا الحراس بأن يكون لنا حفلة. لليلة واحدة فقط. رسمت على وجوه الفتيات، واحدة كانت قطة وأخرى فراشة. ثم كتبنا رسالة للحراس تقول "سيدات العنبر رقم 4 يهنئوكن في العام الجديد"، تروي عزة مضيفة "عندما رأى الحراس أننا أطلقنا على أنفسنا اسم (سيدات) جنّ جنونهم وقالوا لنا (أنتن إرهابيات وليس سيدات)".

[caption id="attachment_158430" align="alignnone" width="700"]INSIDE_AzzaAboRabiah_Tal طلّ الملوحي[/caption]

روت عزة قصة طلّ الملوحي التي جرى اعتقالها عام 2009، وكانت مدوّنة في التاسعة عشر من عمرها. أُلصقت بها أبشع التهم وصولاً إلى التخطيط لاغتيال مسؤولين أمنيين كبار في ذلك الوقت، ولا تزال أخبارها تطلّ وتغيب بين الفترة والأخرى. كما روت قصة راما العيد التي كانت بطلة الجمهورية، ومريم التي تبلغ من العمر 65 عاماً وهي والدة لست أولاد وقد أمضت شهوراً عدة في سجن سري في حلب. أطلق القاضي لاحقاً سراحها من سجن في دمشق، بعدما تبيّن أنها فقدت عقلها، لكن وبسبب التنسيق الأمني الضعيف بين الأجهزة، تمّ اعتقالها مجدداً وهي في طريق عودتها إلى المنزل. (الشهادات مذكورة في مطلع النص).

[caption id="attachment_158428" align="alignnone" width="700"]INSIDE_AzzaAboRabiah_Rama راما العيد[/caption]

نساء أخريات شاركن عزة العنبر ويشاركنها اليوم حائط غرفتها. في وقت تتزاحم فيه الأخبار عن السجون والتعذيب فيها، عن المختفين والمغيّبين، عن المقتولين تحت التعذيب… كيف يمكن لتفاصيل صغيرة أن تحمل كل هذا الكمّ من الوجع؟ كيف يمكن لخبر حرص طلّ الملوحي مثلاً أن تتعطّر أثناء إحصاء السجينات أن يزرع غصة في الحلق بحجم سنوات الضياع والحلم "المعصور كحمامة"؟ إنه السجن ويومياته التي نقلتها عزة بصور تحاكي صور رسامها المفضّل الإسباني فرانشسكو غويا.

INSIDE_AzzaAboRabiah_Hiam

هذه الصورة لهيام (65 عاماً) وهي تدخن سيجارتها وتشرب المتة على فراش السجن، تمضي عامين ونصف هنا فقط لأنها تأتي من منطقة معارضة. شرود هيام ووضعية جسدها تحكي الكثير عن الظلم حين يدخل مرحلة العبث القاتل.

INSIDE_AzzaAboRabiah_Nayfee

وهذه نايفة. فقط نايفة.

INSIDE_AzzaAboRabiah_Raeefeh

وهذه رئيفة (22 عاماً)، كانت تمضي حكمها بأربع سنوات في السجن. فتاة محبوبة جداً. تنام وهي تحضن لعبتها المصنوعة على شكل دب.

وهناك هيام ثانية لم تكن تعرف القراءة والكتابة، لكنها سألت عزة أن تعلمها الرسم. "تحب هيام الأرانب، علمتها أن ترسمها. ثم بدأت ترسم منزلها والأزهار حولها"، تقول عزة.

وتضيف "عندما غادرت السجن، أرسلت لي هيام رسالة - شخص ما كتبها لها - لتخبرني قائلة "لست بحاجة إلى تعلم القراءة والكتابة. لقد علمتني كيفية الرسم، والرسم هو أفضل تعبير بالنسبة لي. يمكنني رسم منزل الآن ويمكنني أن أرسم أحلامي".

تروي عزة قصة هيام شارحة "كانت هيام سعيدة، ولا تجعل الشخص يشعر بالسوء داخل السجن. في سن الخامسة والستين، كانت أمّ لخمسة أولاد ومسجونة بتهمة "جهاد النكاح" دون دليل... عندما تسألها إحداهن (لماذا أنت في السجن؟)، كانت تقفز وتقول بحماسة بادية (إنه "جهاد النكاح!"). قضت عامين ونصف في السجن. لم يكن أحد يستطيع أن يزورها، كما كانت من ريف حمص وكان من الصعب على أي من أفراد عائلتها الوصول إليها لأنه كان من الممكن اعتقالهم عند نقاط التفتيش على الطريق ".

[caption id="attachment_158456" align="alignnone" width="700"]INSIDE_AzzaAboRabiah_Zeina زينة[/caption]

وكان هناك زينة، الفتاة التي رسمتها عزة - بالألوان - وهي خارج جدران السجن. تقول "تم القبض علينا في سبتمبر وكانت ملابس الصيف عليها. بحلول فصل الشتاء، كان البرد شديداً، وكانوا قد صادروا أموالنا ورفضوا إعطاءنا أية ملابس. أحضروا لنا بطانيات مليئة بالعث، وكانت زينة تعاني من الربو فلم تعد تستطيع التنفس".

تشرح عزة "هذه الصورة تجسّد زينة حين قرعت الباب وطلبت من الحارس التنفس لمدة دقيقة، جلست هناك لتأخذ نفساً عميقاً وغرقت في دموعها. لا أستطيع أن أنسى هذا المشهد".

دخلت عزة في متاهة من العذاب بعد خروجها، وغرقت في إحساسها بالذنب لأنها حرة بينما تركت خلفها رفيقاتها في العنبر. نصحها طبيبها النفسي بأن تفرّغ حزنها وغضبها بالرسم، وهكذا تفعل. "لا بدّ أن نستمر في رواية قصص السجن… وفنّي أكرسّه لأجل ذلك".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image