كانت عائلاتهم دومًا تخشى من السيناريو السيىء، لكن كانت لديهم خيوط من أمل بأن أحبابهم "المُختفين" والمعتقلين منذ سنوات في سجون النظام السوري ما زالوا على قيد الحياة، وأنهم سيشعرون بحرارة أحضانهم مرة أخرى ذات يوم.
قبل أن يكسر نظام بشار الأسد قلوبهم من جديد، بإخباره عائلات سورية تعيش في محافظات دمشق وحمص وحماة واللاذقية "عبر الهاتف" بوفاة ذوويهم "نتيجة أزمات قلبية حادة" دون أن يتسلموا جثثهم.
صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية قالت إن إخطارات الموت ذات المعدلات "غير المسبوقة" التي ظهرت فجأة وتتراكم، تعد إعلاناً من الأسد بفوزه بالحرب الدموية التي شهدتها البلاد على مدار سبع سنوات.
رسالة من النظام: الحرب لم تحدث
منذ الربيع، أصدرت مكاتب التسجيل الحكومية المئات من هذه الإخطارات، فيما تشير العديد منها إلى أن هناك سجناء ماتوا منذ بداية الصراع. وتقول "واشنطن بوست" إنه على الرغم من أن المسؤولين لم يشرحوا سر زيادة الأعداد بشكل علني، يمكن أن توفر نظرة في عقلية القادة السوريين، التي يصعب قراءتها في هذه الفترة المحورية من الحرب. ونقلت الصحيفة عن خبراء حقوق الإنسان ومراقبين، قولهم إن الإفصاح عمن ماتوا في سجون الأسد تعكس الثقة المتزايدة للنظام، لا سيما مع تغلب قواته على جيوب المعارضة في أغلب المناطق. ويرى الخبراء أن السلطات لم تعد تخشى من إثارة مقاومة عنيفة ضدها من خلال الكشف عن عدد الوفيات في سجون النظام. ورجحوا شعور الأسد بالأمان الكافي حاليًا، كونه بدأ بإغلاق كتاب سيرة حرب السنوات السبع، علماً أن إخطارات الموت تشير إلى أنه قد حان الوقت أن يمضي السوريين قدمًا، فيما تبدو الصورة قاتمة. والرسالة هي أن "الحرب لم تحدث يوماً، فقد عاد النظام إلى الحكم، وستتم معالجة كل شيء من خلال النظام"، هذا ما قاله فيصل عيتاني، وهو زميل كبير في مركز رفيق الحريري التابع للمجلس الأطلسي في الشرق الأوسط. وأضاف في حديثه لـ"الصحيفة": "أعتقد أن أفضل كلمة تلخص ذلك هي التطبيع - النسخة السورية منه". وحقق الجيش السوري المدعوم من روسيا وإيران، مكاسب هائلة في الأشهر الأخيرة، إذ قام بإزالة بعض جيوب مقاومة المعارضة العنيدة ورفع العلم الوطني في وقت سابق من الشهر الحالي فوق بلدة درعا الجنوبية، المعروفة بأنها مهد الانتفاضة. وبصرف النظر عن وجود موقعين معزولين خارج نطاق سيطرة الأسد (الحسكة والرقة)، لا تزال محافظة واحدة فقط في أيدي المعارضة المسلحة (إدلب). ومنذ بدء الانتفاضة السورية في العام 2011، تم احتجاز أكثر من 104 آلاف شخص أو اختفوا قسراً، وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان. ويعتقد أن ما يصل إلى 90 % منهم محتجزون لدى الحكومة، عبر شبكة من السجون يستخدم فيها التعذيب والتجويع وأشكال الإهمال الفتاكة بصورة منهجية للقتل. ويعتقد أن الـ 10% المتبقين تحتجزهم جماعات وفصائل مسلحة أخرى. وقال محامون للصحيفة إن وزارة الدفاع السورية أرسلت أسماء مئات المعتقلين إلى مكاتب السجل المدني في جميع أنحاء البلاد، وأصدرت تعليمات لتسجيل هؤلاء السجناء كأموات. وأضافوا إنه قد تم تسجيل الوفيات في محافظات دمشق وحمص وحماة واللاذقية في الأسابيع الأخيرة."اعتدت أن أفكر في ابني كل ليلة بينما كنت أنام في السرير، تخيلت ما كان يقوم به، على أمل أن يكون بخير"، بينما "كان في القبر كل هذا الوقت". والدة أحد المبلغين بوفاة ابنها "بسكتة قلبية"
كانت عائلاتهم دومًا تخشى من السيناريو السيىء، لكن كانت لديهم خيوط من أمل بأن أحبابهم "المُختفين" والمعتقلين منذ سنوات في سجون النظام السوري ما زالوا على قيد الحياة، وأنهم سيشعرون بحرارة أحضانهم مرة أخرى ذات يوم
"كانت تجهز ملابس جديدة له في زيارتها القادمة أول أبريل الماضي عندما رن جرس الهاتف لتتلقى خبراً بأن شهادة وفاته جاهزة. وسبب الوفاة نوبة قلبية".وتصدر مكاتب السجل المدني إخطارات هي في الأساس أوراق تنفيذية تتضمن تفاصيل قليلة عن المتوفى. ويتم إصدار إخطارات وفاة أخرى من قبل المستشفيات العسكرية، التي تصدر شهادات رسمية وتقارير طبية. وهي عبارة عن قائمة روتينية تتضمن سبب الوفاة والنوبات القلبية أو السكتة الدماغية. ويقول سمع نصار، مؤسس منظمة "أورنمو للعدالة وحقوق الإنسان"، التي تراقب السجون السورية، إن المجموعة وثقت مزيدًا من الإخطارات بالوفاة في الأشهر الأخيرة مقارنة بجميع السنوات السابقة. وحددوا أكثر من 300 عائلة تلقت إخطارات بالوفاة خلال عشرة أيام في وقت سابق من هذا الشهر. وبشكل منفصل، قالت الشبكة السورية لحقوق الانسان إنها وثقت 161 مذكرة إعدام على مستوى البلاد منذ مايو، وهو رقم اعتبرت أنه ربما "متحفظ للغاية".
ضربة لـ"أمل زائف": "اعتدت التفكير في ابني كل ليلة بينما كان في القبر كل هذا الوقت"
أظهرت معظم الوثائق التي طالعتها "واشنطن بوست" أن المعتقلين ماتوا بين عامي 2013 و 2015، مع تأخر يصل إلى عامين قبل توقيع الأطباء العسكريين وختم شهادة رسمية وتقرير طبي. ولم تتم إعادة الجثث إلى العائلات، ولا إخبارها بأماكن دفنهم. وأشارت الصحيفة إلى أن مذكرات الوفاة الصادرة في مدينة حماة المركزية كانت مكتوبة في محكمة دمشق العسكرية ليلاً، لافتةً إلى أن هذا التوقيت يوضح أن السجناء أُعدموا وفقاً لجماعات معنية بالمعتقلات السورية. وأكد سجناء سابقون، بعضهم أفرج عنهم من سجن صيدنايا العسكري بالقرب من دمشق، في مايو الماضي، حدوث عمليات إعدام بشكل منتظم، واعتداءات بدنية، وحجب الرعاية الطبية العاجلة والطعام، وهو ما أدى إلى وفاة زملاء لهم في الزنازين بسبب الجوع أو سوء التغذية. ومن الصعب الحصول على أرقام دقيقة للعدد الإجمالي لمن ماتوا في سجون النظام بسبب السرية الحكومية، وتكتم العديد من السوريين على نشر قصص أفراد عائلاتهم. وكجزء من عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، يضغط مسؤولون من تركيا، وبقدر أقل، روسيا، حليفة الأسد، على الحكومة السورية لحل قضية السجناء السياسيين المفقودين، بحسب ممثلي المعارضة في هذه المحادثات ودبلوماسي غربي. وقال سمع نصار، من مؤسسة "أورنمو": "إنهم يريدون إغلاق ملف المعتقلين، والمرحلة الأولى هي إخبار جميع العائلات بأن أقاربهم قد ماتوا منذ وقت طويل"، مُعتبرًا أنه "من الناحية العملية، هذا يعني التعامل بضربة مطرقة ليعلم الناس أنهم احتفظوا بالأمل الزائف لسنوات". حسن، مهندس برمجيات من مدينة حمص، قال إن شقيقه "البشير" ألقي القبض عليه في صيف 2014 وهو يسير إلى مكان الدراسة، وقال أصدقاؤه في وقت لاحق إن رجال شرطة في ثياب مدنية اقتادوه إلى سيارة، ثم اختفى. "لقد قرعنا كل باب. في بعض الأحيان كانت هناك شائعات - سمع أحدهم أنه في هذا السجن أو ذلك السجن... لم يكن هناك شيء مفيد، الشيء الوحيد الذي نعرفه بالتأكيد هو أنه كان هناك في مكان ما ويعاني"، قال حسن، الذي طلب حجب اسم عائلته خوفاً من الانتقام. وبعد أن قال أحد المحتجزين السابقين إنه شاهد "البشير" في سجن صيدنايا على بعد أكثر من 100 ميل، بدأت والدته المُسنة في إجراء زيارات شهرية للسجن، تاركةً له الملابس والمال عند لدى الحراس، الذين أكدوا لها أنه سيحصل على الأمانة. "كانت تجهز ملابس جديدة له في زيارتها القادمة أول أبريل الماضي عندما رن جرس الهاتف لتتلقى خبراً بأن شهادة وفاته جاهزة. وسبب الوفاة نوبة قلبية". يقول حسن: "وجدنا والدتي جالسة بين ملابسه، وتبكي. لم تستطع حتى الوقوف... كنا جميعاً لدينا مشاعر مختلطة حول ما إذا كان قد مات، لكنها كانت دائماً تخبرنا أنه علينا أن نتحلى بالأمل لأن الأمل كان كل ما لدينا". أما نورا غازي، وهي محامية، كان زوجها باسل، وهو ناشط بارز مؤيد للديمقراطية، قد أُعدم في سجن سوري في 2015، فقالت إن عائلات المتوفين من حقها معرفة حقيقة كيف ماتوا. "كعائلات، نطالب بمعرفة أسباب وفاة أحبائنا وأين دُفنوا. لن نقبل تغطية النظام على معاملته الوحشية لأحبائنا من خلال تقديم أسباب وفاة زائفة". لكن آخرين، خوفاً من انتقام الحكومة، قالوا إنهم سيحزنون في صمت. وقالت إمرأة سورية تحدثت إلى الصحيفة، شريطة عدم الكشف عن هويتها: "كان ابننا أغلى شيء في الدنيا وفقدناه... لقد عاد النظام لنعود إلى المربع الأول. إذا تحدثت اليوم، فهل أفقد زوجي غدًا؟ هل يأخذونني بدلاً منه؟". وأضافت: "اعتدت أن أفكر في ابني كل ليلة بينما كنت أنام في السرير، تخيلت ما كان يقوم به، على أمل أن يكون بخير"، بينما "كان في القبر كل هذا الوقت".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...