يعتبر أبرز فلاسفة ومفكري الغرب أن الإنسان الغربي يمتلك مقومات ثقافية وفكرية وحضارية تجعله متفوقاً على الإنسان الشرقي. وتُعتبر هذه الفكرة ركناً أساسياً في الفكر الغربي وتعود إرهاصاتها إلى مرحلة عصر النهضة في أوروبا.
ففي ذاك الوقت، قرر الفلاسفة أن أوروبا هي أم الحضارات والتقدم والعلوم والفلسفة والفكر، وهمّشوا في كتاباتهم إسهامات الشرق الحضارية ونظروا إليها باعتبارها مرحلة بدائية اندثرت.
وعلى يمين هذه الفكرة، برزت فكرة النظر إلى بعض شعوب إفريقيا وآسيا على أنها في منزلة أدنى من البشر ويمكن التعامل مع أبنائها باعتبارهم كائنات لم تصل في سلم الارتقاء البشري إلى ما وصل إليه باقي البشر.
أُطلق على هذه الفكرة اسم نظرية "المركزية الأوروبية"، ووفقها كانت الحضارتان اليونانية والرومانية أول حضارات حقيقية سعت إلى رفعة الإنسان والسمو بطريقة تفكيره.
وكانت "المركزية الأوروبية"، وما تحمله من أن الإنسان في الشرق أقل منزلة من نظيره الغربي، الظهير الفلسفي للاستعمار الغربي للقارتين الإفريقية والآسيوية.
وبحسب هذه النظرية، فإن مفهوم الديمقراطية بدأ على يد قدماء اليونان في أثينا ومحيطها وشكّل أول نقطة ضوء حقيقية في مفهوم الدولة المدنية.
وأصل فكرة تفوّق أثينا حضارياً على الشرق قديم ويعود إلى هيرودوت وأرسطو، فقد رأى الأخير أن انتشار الفكر الديمقراطي في اليونان يعود إلى تفوقها الحضاري والأخلاقي، مقارنة بوحشية الفرس، في زمن شهد تنافساً وحروباً بين الدولتين.
واستُخدمت هذه الفكرة في اليونان القديمة للترويج لأن الحضارة اليونانية تحارب الهمجية الفارسية وادعاء أن غارات الفرس سببها العداء للحداثة اليونانية.
تفنيد "الأسطورة"
ولكن كتاب التاريخ السري للديمقراطيةThe Secret History of Democracy الصادر في أستراليا للباحثين بنجامين عيسي خان Benjamin Isakhan وستيفن ستوكويل Stephen Stockwell، بالتعاون مع عدد من الباحثين، يكشف استناداً إلى علوم الآثار والتاريخ أن حضارات الشرق القديمة قدّمت سوابق حضارية وفكرية وفلسفية وعلمية، وأن أسطورة أسبقية ديمقراطية أثنيا وروما ليست دقيقة. يكشف عيسي خان أنه رغم تأكيد كبار الفلاسفة اليونانيين أن الديمقراطية تترجم تطور الإنسان الغربي، إلا أن أغلب فلاسفة اليونان القديمة نظروا إلى الديمقراطية باعتبارها اغتصاباً وحشياً من الجماهير للسلطة التي يجب أن تكون بيد النخب المتعلمة والثرية. وتضم قائمة القائلين بذلك أرسطو وأفلاطون وإيزوقراط وثوكيديديس وزينوفون. ففي محاورة "الجمهورية"، وصف أفلاطون التحوّل الديمقراطي بأنه بمثابة تحوّل المواطن الصالح إلى "الجحش الديمقراطي العصي على الترويض"، أي غير القادر على ضبط مطالبه وفهم ضروريتها، ووبأنه يحدث خلخلة في البنيان المجتمعي. ولكن الكتاب لا يكتفي بذلك، والأهم فيه هو أنه ذهب إلى إثبات أن الديمقراطية والدولة المدنية نشأتا في الشرق أولاً.الديمقراطية في بابل وفارس
يشير عيسي خان إلى أن الفرس امتلكوا في واقع الأمر مجالس محلية تقوم بجمع الشكاوي والمشاكل، وكان لدى كل مجلس موظف مسؤول يرفع ما يصله إلى الحكومة المركزية، لافتاً إلى أن هذا النمط من الحياة النيابية الديمقراطية سبق ديمقراطية أثينا، ما يكشف جهل اليونانيين بما كان يجري على الأراضي الفارسية وقت الحرب بين البلدين، وربما خدع كبار فلاسفة اليونان أثينا وروّجوا لشعوبهم أن الفرس شعب همجي دونما أدنى إشارة معرفية إلى وجود ملمح ديمقراطي مهم لديهم.هل الديمقراطية فكر شرقي حصل عليه اليونانيون عبر التجارة مع المصريين والفينيقيين؟
في محاورة "الجمهورية"، وصف أفلاطون التحوّل الديمقراطي بأنه بمثابة تحوّل المواطن الصالح إلى "الجحش الديمقراطي العصي على الترويض"وتوضح مسلة قوانين حمورابي المعروفة لدى العامة باسم شريعة حمورابي أن هنالك تنظيم ديمقراطي ومجتمع ليبرالي منفتح وعلاقات اقتصادية تندرج تحت بند السوق الحر، أهم الأفكار الرأسمالية والديمقراطية، في الحضارة البابلية القديمة، وأن حضارات العراق القديم لم تكن بعيدة عن مبادئ الديمقراطية. ولا تعتمد رؤى تفوق الغرب على الشرق على ما تضمنته كتابات أرسطو وفلاسفة ومفكرين آخرين قدماء وحديثين، ولكنها تستند إلى تاريخ مزيف. يقول الأنثروبولوجي البريطاني جاك جودي في كتابة سرقة التاريخThe Theft of History الصادر عام 2006 إن "فكرة أن الديمقراطية لم تبزغ إلا بوصفها سمة مميزة للمجتمعات الحديثة، والغربية في الواقع، ليست سوى تبسيط مخل، مثلما هو حال نسبة أصلها إلى اليونان القديمة، فالكثير من الأنظمة السياسية المبكرة والبدائية شهدت إجراءات تشاورية مصممة لتقرير إرادة الشعب، ويمكن القول إن قيمة الديمقراطية كانت حاضرة مراراً في المجتمعات المبكرة".
الحياة النيابية في مصر القديمة
أشار المؤرخ البريطاني وعالم المصريات سيريل ألدريد Cyril Aldred (1914 – 1991) في كتابه "المصريون" The Egyptians الصادر عام 1961 في لندن، إلى أن هنالك جمعيات ومجالس للعامة شاركت الحكومة المركزية في الحكم خلال عصور الحضارة المصرية القديمة، وكانت لها قرارات ذات قوة تشريعية على قطاع الخزانة والزراعة، وكان لها وزير مختص. ولفت ألدريد إلى أن النظام القضائي كفل للمواطن اللجوء إلى الاستئناف بحضور الوزير مباشرة وأمام منصة القضاء وأن القضاء حكم مراراً لصالح المواطن العادي من العامة وألغى قرارات وزارية بحضور الوزير دون أن يسبب ذلك الأمر إحراجاً للدولة أو الوزير.الحياة البرلمانية في لبنان القديم
كتب الباحث الأسترالي ستيفن ستوكويل، في ورقة بحثية بعنوان "ما قبل أثينا: الحكومة الشعبية المبكرة في فينيقيا والمدن-الدول الإغريقية"، أن جمعيات ومجالس تمثل فئات المجتمع في أكثر من إمارة فينيقية راسلت مصر القديمة من أجل وضع الدول الفينيقية تحت الحماية المصرية، خاصة في زمن أمنحتب الثالث، وواصلت تبادل الرسائل الدبلوماسية مع خليفته الملك أمنحتب الرابع (أخناتون)، في زمن كانت فيه أغلب دويلات فينيقيا تحت الحماية المصرية. وقد سجلت مراسلات تل العمارنة أو ما يمكن تسميته سجلات وأرشيف الدبلوماسية المصرية في زمن الأسرة الـ18 هذه المراسلات. ويكمل ستوكويل أن بعض المجالس تسلّمت الحكم أثناء فراغ السلطة في سنوات الفوضى التي ضربت فينيقيا بسبب الاضطرابات التي سادت مصر في عصر أخناتون، كما أن مجلساً كان يدير صيدا باسم شعب صيدا هو الذى طالب ملك صيدا بالتنحي وتسليم الحكم إلى الملك اليوناني الإسكندر الأكبر عام 333 ق.م، وحينما أراد اليونانيون استبدال الملك بوالٍ على صيدا، فإن العامة هم الذين ترشحوا للمنصب وليس أبناء الأسرة الملكية، في طقس انتخابي خالص. كما تضمن النظام السياسي في قرطاج الفينيقية (في تونس اليوم) مجالس تعبّر عن فئات الشعب وتصدر توصيات يؤخَذ بها في سدة الحكم.كيف أخذ اليونانيون فكرة الديمقراطية عن الشرق؟
يشير ستوكويل إلى أن الديمقراطية فكر شرقي حصل عليه اليونانيون عبر التجارة مع المصريين والفينيقيين، ولا عجب في ذلك، إذ أن المؤرخ الأمريكي جورج جيمس (1893 – 1956) George James، في كتابه "التراث المسروق... الفلسفة اليونانية هي فلسفة مصرية مسروقة" Stolen Legacy: Greek Philosophy is Stolen Egyptian Philosophy، أوجد كافة الأصول المصرية للفلسفة واللغات والأديان اليونانية، وأشار إلى أن الفلسفة اليونانية التي تُعتبر أصل علوم الفلسفة ما هي إلا فلسفة مسروقة من الفلسفة المصرية القديمة. وأشار إلى أن الأديان اليونانية والرومانية القديمة لها أصل مصري وأن الأمر يتعدى التأثّر الثقافي ليصل إلى السرقة والاقتباس ونقل نصوص دينية كاملة وشاملة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإرث اليوناني في الرياضيات والعلوم. وقال إن تلك السرقة جرت عقب غزو الإسكندر الأكبر لمصر، وإن أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وغيرهم من كبار العلماء والفلاسفة اليونانيين أقاموا في مصر ودرسوا فيها، كما أن اليونانيين نهبوا المكتبات المصرية القديمة خاصة المكتبات الملكية وقاموا بترجمة كافة تلك العلوم إلى اليونانية ونسبها إلى أنفسهم. ولم يكن المؤرخ الأمريكي أول أو آخر مَن دعم هذه الفرضية، فالمؤرخ الأمريكي الأشهر جيمس هنري برستد أقر بالتأثير المصري على الفلسفة الهلنستية، ولكن جورج جيمس، بكتابه المذكور، هو الأشهر في هذا المجال. وواصل المؤرخ البريطاني مارتين بيرنال (1937 – 2013) Martin Bernal الأبحاث في هذا المضمار، ليعود في ثلاثية أثينا السوداءBlack Athena trilogy للإشارة إلى أن تنكّر أوروبا لأصولها الحضارية المصرية يرجع إلى سجالات جرت في عصر النهضة حول المركزية الأوروبية وحول أن أوروبا هي المصدر الحقيقي للحضارة والتقدم وأن وجود أصول حضارية لأوروبا من خارج القارة الأوروبية، خاصة إفريقيا، يقضي على فكرة التنوير الحصري للإنسان الأوروبي، كما يقضي على الأسباب الثقافية التي يستند إليها الاستعمار الأوروبي للشرق وتستند إليها عملية جلب العبيد من إفريقيا إلى أوروبا للعمل.تفكيك الديمقراطية اليونانية
ولكن هل الديمقراطية اليونانية كانت نمطاً أكثر تقدماً عن أنماط فارس وبابل ومصر وفينيقيا؟ المفاجأة الأولى هي الملاحظة التي ذكرها المؤرخ الأمريكي جوسياه أوبر Josiah Ober وقال فيها إن أغلب النصوص اليونانية القديمة عن مفهوم الديمقراطية فُقد في العصور التالية، وبالتالي فإن أغلب ما يتوفر لدينا اليوم عن مفهوم الديمقراطية في اليونان القديمة هو نصوص كُتبت بغرض قراءة المبادئ التي اعتمدت عليها اليونان القديمة في تطبيق الديمقراطية. وينكر المؤرخ البريطاني المختص في تاريخ اليونان القديمة لونيل بيرسون Lionel Pearson وجود الديمقراطية في أثينا، حتى في شكلها البدائي، ويقول إن آلية موافقة الجماهير على قرارات السلطة لم تحدث إلا في فترات متباعدة للغاية وإن المجالس النيابية كان أغلبها بالتعيين من قبل السلطة ولم تكن حتى معينة من قبل فئات من العامة وفقاً لتوازنات مجتمعية كما جرى في بعض أنماط الديمقراطية البدائية، وإنه يمكن القول إن ديمقراطية أثينا وتالياً روما لا ترتقي إلى أنماط الديمقراطية التي ظهرت قبل فجر الفلسفة اليونانية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...