أضاف الكشف عن تفاصيل "تفاهم معراب" بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ المزيد من التعقيدات على عملية تشكيل الحكومة اللبنانية، وكشف فصلاً جديداً من صفقات المحاصصة السياسية التي تقصي خصوماً من نفس الطائفة، بحجة "حسن تمثيل الطائفة".
لا ينتظر اللبنانيون كغيرهم من شعوب الجمهوريات الحديثة تشكيل حكومة جديدة في بلدهم، رغم أن مجلس الوزراء هو السلطة التنفذية العليا التي تدير شؤون البلاد والعباد.
لسان حالهم يقول إن تشكيل الحكومة لن يغيّر شيئاً في حياتهم اليومية، وما يعنيهم عملياً توفّره لهم بيروقراطية الإدارات العامة، أأتت حكومة أم لم تأتِ.
لم يعودوا يتطلعون إلى أعلى سلطة في بلدهم لتقوم بخطوات إصلاحية تُبعد البلد الصغير، ولو سنتيمترات، عن شفا هاوية يتنبأ بالسقوط فيها الاقتصاديون منذ سنوات دون أن يعرف أحد لماذا لم يسقط فيها بعد. كل شيء في هذا البلد غريب حتى السقوط في الهاوية.
ولعلّ الأمر الوحيد الذي ينتظره اللبنانيون، في ما خص تشكيل الحكومة، هو مواقف القوى الإقليمية منها، بعد تشكيلها، كي يعرفوا إنْ كان انفجار البلد سيتأخر.
طبعاً، القوى السياسية لا تنظّر لتشكيل الحكومة ومشاركتها فيها وفق هذه اللامبالاة الشعبية. تصريحات سياسيي الأحزاب تحاول تصوير مسألة مشاركة أحزابهم في الحكومة على أنها مصيرية، وكأنها المارد الذي سيحمل الوطن الصغير على كفّه ليبتعد به عمّا يحدق به من مخاطر. وطبعاً، لا يمتلكون إجابات مقنعة إذا ما سألهم أحدهم عن عدم اتخاذهم أي إجراء نوعي لخدمة الناس حينما كانوا في السلطة، وسيلجأون في تغطية فشلهم إلى تغليف فراغهم بعبارات تدخل فيها مصطلحات الاستراتيجيا والجيوستراتيجيا والتوازنات الطائفية.
عبارة وحيدة تحضر في هذه اللاجدوى الخطابية وتجد آذاناً صاغية لدى الجماهير وهي "تمثيل الطائفة".
وفي إطار صراعات "تمثيل الطائفة"، أتى كشف قناة "أم تي في" عن المضمون الخفي لـ"وثيقة معراب" التي تم التوصل إليها عام 2016، وبان أنها نصّت على أن تتقاسم القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر "مناصفة" المقاعد الوزارية المخصصة للمسيحيين "بما فيها السيادية والخدماتية"، في كل الحكومات التي تتشكل خلال فترة ترؤس ميشال عون للجمهورية، وذلك بعد إعطاء الأخير حصة وزيرين مسيحيين إذا تشكلت الحكومة من 24 وزيراً أو ثلاثة بحال كانت الحكومة من 30 وزيراً.
جرى الكشف عن الوثيقة في خضمّ صراع حاد بين الطرفين. يتهم العونيون القوات بأنها "لم تدعم العهد" بدليل معارضتها لخطط اقترحها وزراء عونيون ومعارضتها لمرسوم التجنيس الأخير الذي وقّعه عون، إضافة إلى ترحيبها باستقالة الحريري التي أعلنها سابقاً من الرياض. وللقوات وجهة نظر تقول إن "دعم العهد" لا يعني منع الاختلاف على "الملفات".
ومما جعل الطرفين أجرأ في استعراض خلافاتهما، شعور العونيين بأنهم يستطيعون تشكيل حكومة تقصي القوات وشعور القواتيين بأن النتائج القوية التي حققوها في الانتخابات النيابية الماضية تسمح لهم بعرض خلافاتهم مع التيار على محكمة القاعدة الشعبية المسيحية.
كل هذا الأخذ والرد يرتبط بتفاصيل صفقة محاصصة عقدها الطرفان سابقاً واختلافهما حالياً على تقاسم "جبنة" الحقائب الوزارية، وهو مما اعتاده اللبنانيون في علاقة القوى السياسية ببعضها في بلدهم.
ولكن الأهم، وما يجب الانتباه إليه في "تفاهم معراب" هو خطر تعاقد طرفين طائفييْن على إقصاء خصوم لهما داخل الطائفة. هذا خطير، لا بل خطير جداً، لأنه يضع لبنة أخرى في عملية البناء لاحتراب داخلي جديد بين اللبنانيين.
يخدم "تفاهم معراب" عن قصد ووعي، أو عن غير قصد وغير وعي، مسار تحويل الطوائف إلى طوائف-أحزاب، ما يقرّب اللبنانيين من احتراب جديديحمل "تفاهم معراب" ما يعمل ضد باقي البنود السياسية التي تضمنها من التزام باتفاق الطائف، وعدم اللجوء إلى السلاح والعنف في الداخل، لأنه يخدم، عن قصد ووعي، أو عن غير قصد وغير وعي، مسار تحويل الطوائف (بصفتها بنية اجتماعية وثقافة فرعية حفظ الدستور حقوقاً لها) إلى طوائف-أحزاب. قد لا يبدو الفرق واضحاً لكثيرين، خاصةً بعد أن غزت السجالات السياسية اللبنانية في السنوات الأخيرة مفاهيم الحزب القوي والرجل القوي بشكل يزيل الفوارق بين الطائفة كبنية باقية وبين الحزب الطائفي ككيان سياسي قد يذوي ويأتي غيره. هو مسار كانت قد ابتدأت في رسم معالمه الثنائية الشيعية التي حوّلت الطائفة الشيعية إلى شيء يرادف تحالف حزب الله وحركة أمل ويلفظ أي تشكيل سياسي شيعي ثالث، لا بل يستسهل وصمه بالعمالة. وهو مسار غذّته وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر بإقصاء الأخير عن العمل السياسي العابر إلى الطائفة الشيعية، ما حوّل بعض وجوهه الشيعية (القليلة بالمناسبة) من شخصيات تقاوم "هيمنة الثنائية" إلى ما يشبه ودائع عونية تقبل الثنائية الشيعية باحتضانها. تأسست الصيغة اللبنانية في واقع كان يشهد تعدد الزعامات داخل كل طائفة، ما كان يسمح بتمثيلها عبر أي مكوّن سياسي من مكوّنات عديدة موجودة فيها، ويسمح بولادة خطابات عابرة للطوائف (حتى ولو كانت طائفية) تؤسس لتحالفات عابرة للطوائف بعضها يدعم السلطة وبعضها يعارضها. ولكن الآن، مع سيادة ثقافة تحزيب الطوائف واختصارها بمكوّن واحد، تصير الأمور أصعب ويتحوّل خلاف تافه حول تعيين موظف صغير إلى معركة كرامات طائفية تزيد الاحتقان وتضعنا على أعتاب حرب جديدة. المسألة أكبر من الاتفاق على تهميش حزب الكتائب وتيار المردة وبعض الزعامات المسيحية المناطقية وأكبر من تحويل حزب الطاشناق إلى خلية في التيار الوطني الحرّ. المسألة هي أن ثقافة الإقصاء تقرّبنا من حرب أهلية جديدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين