حقق حزب الله فوزاً ساحقاً في الانتخابات النيابية اللبنانية. فلأول مرة منذ الانقسام اللبناني الحاد الذي أعقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، تأتي تركيبة المجلس بشكل يحقق ما أسماه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله "ضمانة لحماية المعادلة الذهبية". وبرغم أن هذه النتائج كان من المفترض أن تريح جماهير الحزب المستنفر منذ عدة أسابيع، بشكل قد يكون غير مسبوق، إلا أنها أسفرت عن "احتفالات" كادت تهدد السلم الأهلي في العاصمة اللبنانية، عبر مسيرات دراجات نارية جابت شوارع بيروت وأثارت عدة إشكالات في أحياء متفرقة. وأتت رسائل الجمهور المستنفَر شديدة البلاغة وعبّرت عمّا لم يعبّر عنه "خطاب النصر" الذي أطلقه نصر الله بعد الانتخابات: تحالفات الكتل ليست بالثبات الذي يظنّه البعض.
الاستنفار الشيعي
حصد حزب الله بتحالفه مع حركة أمل 26 مقعداً شيعياً من أصل 27 تشكّل حصة الشيعة من مقاعد المجلس، وكان يستطيع أن يحصد 27 مقعداً لو أنه أراد ذلك، إلا أنه خاض معركة في دائرة جبيل-كسروان ليستعرض قوّته أمام حليفه التيار الوطني الحر، وليؤكد بالأرقام أن مَن كانوا يسمّون يوماً ما "شيعة الموارنة" صاروا "شيعة حزب الله" وهذا واقع سيفرض نفسه على التحالفات الانتخابية في أية معركة انتخابية مقبلة. خسارة هذا المقعد كانت استراتيجية جداً. صوّت الشيعة بأغلبيتهم الساحقة لما يُسمّى بـ"خيار المقاومة"، فيما أتت نتائج كل المرشحين المعارضين الشيعة شديدة الهزال. ثبّت حزب الله موقعه كالحزب اللبناني الوحيد القادر على حصد كل المقاعد المخصصة للطائفة التي ينتمي إليها، وبالتالي الاسترخاء في مناطقه، والتركيز على اللعب في ساحات الطوائف الأخرى لدعم حليف من هنا وآخر من هناك. أما باقي الأحزاب والتكتلات السياسية، فقد تصارعت على إثبات نفسها في "بيئاتها" أمام خصوم ينتمون إلى هذه "البيئات"، وهذا ما يميّز حزب الله عنها. عكست نتائج الانتخابات ميزة فريدة للجماعة الشيعية عن باقي الجماعات. فهذه الجماعة هي الوحيدة التي انكسرت فيها كل الحيثيات السياسية المناطقية، وهي الوحيدة التي تتبنى توجهاً سياسياً عابراً لحدود الأقضية والمحافظات.في المقابل، يختلف الأمر لدى باقي الطوائف، فتيار المستقبل والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية أثبتوا أنهم كيانات سياسية حاضرة على امتداد لبنان، ولكن بدون القدرة على تفكيك بعض الحيثيات السياسية المناطقية كحيثية نجيب ميقاتي في طرابلس وأسامة سعد في صيدا وعبد الرحيم مراد في البقاع الغربي والأحباش وفؤاد مخزومي في بيروت لدى السنة، وميشال المر في المتن وسليمان فرنجية في زغرتا لدى المسيحيين، في وقت يتحوّل حزب الكتائب إلى حيثية مناطقية فضاؤها المتن وجزء من بيروت. لم يأتِ هذا الأمر من فراغ. أمور كثيرة أوصلت إليه، أبرزها التهجير الذي عانى منه الشيعة لأسباب مختلفة، على رأسها الاحتلالات والاعتداءات الإسرائيلية، ما جعل منهم جماعة غير مرتبطة بـ"مسقط الرأس"، ومنفصلة عن التقاليد السياسية (والاجتماعية أيضاً) القديمة، ولا تجد لحمتها سوى في خطابات عابرة للمناطق لأن عبور المناطق هو واقع أبنائها سوسيولوجياً.
"تقوقع" باقي الطوائف
تشعر بعض القوى السياسية بأنها نجحت في التمدد في "بيئات" لم تكن تحصد فيها أية مقاعد نيابية كما الحال مع التيار الوطني الحر في الشوف والقوات اللبنانية في بعلبك-الهرمل. إلا أن الأمر لم يكن في الحقيقة تمدداً بل مجرّد إثبات حضور كان موجوداً ولكن كانت القوانين الانتخابية السابقة التي تعتمد النظام الأكثري تمنعه من الظهور. وفي كل حالات التمدد الظاهري هذه، لم تنجح الأحزاب الطائفية غير الشيعية في إثبات حضور خارج بيئاتها الطائفية، بعكس حزب الله الذي حقق انتصارات خارج قواعده، عبر شخصيات سنية بالدرجة الأولى. يعود جزء من أسباب حالة "التقوقع" التي تعيشها الأحزاب السنية والمسيحية العابرة للمناطق إلى افتقادها لأي مشروع جذاب لعموم اللبنانيين وإلى سياسيات اتبعتها منذ 14 آذار 2005، حين ارتضت جميعها باعتبار الشيعة ومناطقهم ملعباً خاصاً لحزب الله، يتقرّبون منه إذا تقرّبوا من هذا الحزب، ويبتعدون عنه إذا ابتعدوا عنه. وفي المقابل، لم ينجحوا في منع حزب الله من اللعب في ملاعبهم. كان جلّ همّهم ألا يلعب فيها عسكرياً وأن يكتفي باللعب عبر نسج علاقات مع فريق من هنا وتحالف مع فريق من هناك. خلال السنوات الـ13 الماضية، نجح حزب الله في دعم مجموعة واسعة من حلفائه غير الشيعة بالخدمات والتدريبات العسكرية وبالمواقف السياسية، بينما فشل خصومه، وخاصة تيار المستقبل، في نسج أية علاقة جدية لها بعد شعبي مع شيعة، في وقت فشل في احتضان شرائح واسعة من السنّة كانت تفتح له أيديها وتنتظره."ثورة" الانتخابات التي كان بطلها حزب الله ستكون قريباً أمام "كونترا" بطلها جبران باسيل. كان على جماهير الثنائية الشيعية تحقيق النشوة بالفوز قبل ذلك، وخاصةً جماهير حركة أمل
حصة جماهير حزب الله من "نصره" الانتخابي مثل حصتهم من نصر برشلونة أو ريال مدريد، وكلا النوعين من الانتصارات يحرّكان دراجاتهم الناريةأدت مقاربة أحزاب 14 آذار المتوترة وغير المدروسة لواقع السياسة اللبنانية ولواقع الجماعة الشيعية إلى لصق حركة أمل بحزب الله حتى بات من الصعب التمييز أين تنتهي حدود حزب الله وأين تبدأ حدود ما يُسمّى بـ"الثنائية الشيعية". مارست هذه الأحزاب لفترة خطابات انتصار غير مبنية على أسس صلبة، فاستنفر الشيعة ضدها. وها هي اليوم تحصد ما جنته: مات تحالف 14 آذار منذ سنوات بينما "الثنائية الشيعية" تتمدد وتتمدد عبر حلفائها على طول لبنان.
البرلمان ثانياً
رغم النتائج المبهرة التي حققها حزب الله إلا أن تركيبة البرلمان التي تحمي "المعادلة الذهبية" (شعب وجيش ومقاومة، أي عدم المس بسلاح حزب الله)، ليست معطى ثابتاً. "الأكثرية" التي حققها الحزب وحلفاؤه تمر بالتيار الوطني الحر (يقود "كتلة العهد" التي تتألف من نحو 29 نائباً وقد تزيد) وهو تيار يلعب بين جملة متناقضات: يريد التقرب من حزب الله دون التقرّب من رئيس مجلس النواب نبيه بري؛ يريد التقرّب من حزب الله والتقرّب من الدول الغربية؛ يريد التقرب من حزب الله والبقاء في تحالف ثابت مع رئيس الحكومة سعد الحريري.لا شك في أن حزب الله هو الأقدر على الانطلاق في أي موقف من كتلة نيابية صلبة شيعية-سنية-مسيحية تمثل نحو ثلث مجلس النواب، إلا أن الأكثرية والأقلية لن تكون واضحة أبداً في السنوات الأربع المقبلة بل ستتبدّل بحسب موضوع القانون المطروح أمام مجلس النواب. وستظهر أولى نتائج تضعضعها في "الابتزاز" الشديد الذي سيمارسه التيار الوطني الحر أثناء تشكيل الحكومة المقبلة، وهو "ابتزار" مارسه في الفترة الماضية، ولا يُعلم مدى قدرة حزب الله على الاستمرار في تحمّله. جماهير الثنائية الشيعية تدرك بغريزتها هذه الأمور، هي التي لا تحب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وتعرف أن الحريري المهزوم انتخابياً سيكون رئيس الحكومة المقبلة على الأرجح، وتعرف أن بري سيكون ممتعضاً من توزيع الوزراء على أركان التحالف الحكومي القادم. الآليات الدستورية لا تسمح لهذه الجماهير بقطف ثمار الانتصار بالنضوج الذي تشتهيه، وبالتالي لا يبقى أمامها سوى "مسيرات زعران الدراجات النارية" للشعور بالنشوة.
"ثورة" الانتخابات التي كان بطلها حزب الله ستكون قريباً أمام "كونترا" بطلها جبران باسيل. كان على جماهير الثنائية الشيعية تحقيق النشوة بالفوز قبل ذلك، وخاصةً جماهير حركة أمل. عامل آخر أخرج شباب الدراجات النارية إلى شوارع بيروت. هؤلاء مثل كل أبناء الطبقات الشعبية اللبنانية مسحوقون تحت ضغوط الفقر والبطالة وانعدام الرعاية الصحية وتردي الخدمات، ولا يشاركون حزب الله عوامل قوته في يومياتهم. هؤلاء شباب الدراجات النارية وليسوا شباب "الرانج روفر" أو "الإنفوي". هؤلاء لا شيء يربطهم بقوة حزب الله سوى شعورهم الوهمي بأنهم جزء من هذه القوة وهو ما تحققه لهم خطابات هذا الحزب بنجاح منقطع النظير، مستبدلةً الخبز والخدمات الموزعة على قلة بـ"الكرامة" التي تستطيع الفيض على الجميع.
حزب الله و"انتصاراته" بالنسبة إلى هؤلاء حاجة نفسية، لا يعوّضها سوى مشروع قادر على تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. هؤلاء هم جماهير حزب الله وحصتهم من نصره مثل حصتهم من نصر برشلونة أو ريال مدريد، وكلا النوعين من الانتصارات يحرّكان دراجاتهم النارية التي تفعل فعل المغناطيس ولا أحد يعرف كيف تتكاثر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...