شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بعد سبع سنوات من الحرب السورية... لا يزال النظام يحتكر السياسة ويوكل إلى المشيخة الدينية إدارة الشارع

بعد سبع سنوات من الحرب السورية... لا يزال النظام يحتكر السياسة ويوكل إلى المشيخة الدينية إدارة الشارع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 14 يوليو 201804:29 م
بعد أن هدأ هدير الحرب المحيط بأركان دمشق الأربعة، بات الهدوء يلف صباحاتها، وعادت الحياة إلى جريانها الطبيعي... باعة يفترشون الأرصفة، محال تجارية تبيع المُسكِرات والألبسة والأطعمة، كنيسة يجاورها جامع، شوارع وأزقة منها ما تدل الشعارات المرفوعة فيها والتذكارات التي تعرضها محالها للبيع على هوية دينية معينة، وأخرى تجعلك حائراً تائهاً بين طابع أبنيتها العشوائي من جهة، ومظاهر الترف والبيوت الفخمة من جهة أخرى. تحدّق في الوجوه، فإذ هي مبتسمة شاردة في تفكير عميق، أو مثقلة بهموم لا يعرف مذاقها إلا من تجرّع مرّها. بيد أن إحساساً ما ينبئك بأن ثمة ما تخفيه هذه المدينة. فالنساء المتشحات بالسواد من رؤوسهن حتى أخماص أقدامهنّ، غير كاشفات إلا عن بضعة سنتميترات من وجوههن لتحسس الطريق أمامهن واللواتي نزحن إلى دمشق مع عائلاتهن، هرباً من موت فرضته الحرب، بتن بلباسهن هذا يشكلن واحداً من أوجه دمشق المتباينة. زد على ذلك، دروس الوعظ والإرشاد الديني، المنبعثة من منابر مساجدها، وأفواه خطبائها وأئمتها، في محاولة منهم، كما يزعمون، لتصويب البوصلة في "الاتجاه الصحيح"، ومحاربة الطائفية بـ"الفهم العقلاني للدين"، مُسكتين بذلك أصوات العلمانيين والمثقفين الذين لم يعد لهم أي ثقل يُذكر. كل هذا يضعنا أمام مشهد لا يمكننا التعامي عنه، والتعاطي معه على أنه حالة طارئة أفرزتها الحرب السورية، ستندثر وتتلاشى بمجرد أن تطوي الحرب صفحتها.

الحكاية باختصار

لم تعد مقولة "سوريا العلمانية والتعددية" تعبّر عن واقع السوريين بعد انحسار الحرب على جزء كبير من أراضيهم. فالاجتياح الديني للغالبية السُنية بات يؤرقهم ليلاً نهاراً، ليس كرهاً أو خوفاً من السُنة، بل احتجاجاً على انحياز النظام لهم في الثقافة الدينية، لما في ذلك من تبعات، من شأنها أن تطيح بحلم الدولة العلمانية، وتزيد من حدة التوتر الطائفي. حالة من عدم الرضى والانزعاج الواضح والهستيريا الجنونية تنتاب العلمانيين والملحدين والمتدينين المعتدلين، سواء كانوا موالين أم معارضين. فالمعركة الآن، لم تعد بين جيش سوري ومجموعات مسلحة مدعومة من جهات مختفلة، بل أصبحت بين قطاعات من تنظيمات سُنية متدينة، تلتف تحت عباءة وزارة الأوقاف، وبين نسبة لا يستهان بها من رأي عام، واتجاه يساري رافض بشكل قطعي لتدخل هذه التنظيمات في المعترك الاجتماعي والتعليمي، ومستهجن لحالة الوفاق "المثيرة للريبة" مع باقي الوزارات، كالإعلام والتربية والتعليم العالي، والتي يُفترض أنها انبثقت من دستور رافض لأي تجمع أو تكتل له صبغة دينية أو طائفية أو فئوية. عندما تقلد حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا، طرح شعار الدولة العلمانية، بيد أنه إلى الآن لم تُحسب له أية خطوة جدية نحو بناء دولة علمانية لا طائفية، بل ضاعت هويته، وفضّل عدم الصدام مع التيارات الدينية المتطرفة، باستثناء ما جرى في ثمانينيات القرن الماضي من صراع مسلح بين نظام البعث وجماعة الإخوان المسلمين. انتهى الصراع المذكور بتفتيت نشاط الجماعة العسكري، ما سمح بظهور تيارات دينية وشخصيات أخرى ذات طابع سني، اتعظت من تجربة الإخوان الصدامية مع البعث، فكانت الصوفية منهجاً لها، ومقولة "الإسلام الوسطي" إحدى ركائزها. كان البوطي وجماعة أحمد كفتارو وتنظيم القبيسيات النسوي، ممن أسسوا لنهج ديني جديد، اعتمد عدم التدخل في الأمور السياسية، والتغلغل والسيطرة على المجتمع، بتكتيك وأسلوب جديدين، من خلال التعليم الشرعي. ونتج عن ذلك تطويع البيئة السورية لسلطة دينية، وصل حد التقديس والانصياع الكامل لها. فاحتضن النظام هذه التيارات، وهيأ لها سبل العمل والانتشار كافة، بإشراف إحدى جهاته الحكومية المتمثلة بوزارة الأوقاف، مستندة في فقهها ومنهجها على كتب ابن تيمية والأئمة الأربعة الطافحة بأحكام القتل لكل تارك صلاة، وسبي النساء، ومصادرة الأموال لطوائف محددة بعينها، لتماثل في أحيان كثيرة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". إن جميع مَن عاصروا ثمانينيات القرن الماضي يذكرون جيداً شارع شيكاغو، وما فيه من بارات ومطاعم، عملت وزارة الأوقاف على إغلاقها، بعيد استملاكها الشارع. واتسعت رقعة السطوة الدينية، بعد عام 2000، لتصيب بالعدوى المجتمع المتأثر بها، كما يطلعنا سامي أحمد، صاحب دار التكوين للنشر. فقد شن المتدينون حملة لتسكير الخمّارات في دمشق، بدءاً من خمارة فريدي لصاحبها جوزيف الذي لم يغلقها راضياً، بل بضغط من المطعم الصحي، بحجة أن رائحة الخمر تزعج زبائنه.
ثمة ما تخفيه دمشق. النساء المتشحات بالسواد بتن بلباسهن هذا يشكلن واحداً من أوجه المدينة المتباينة. ودروس الوعظ والإرشاد الديني، المنبعثة من منابر مساجدها، بحجة تصويب البوصلة في "الاتجاه الصحيح"، تُسكت أصوات العلمانيين
كان البوطي وجماعة أحمد كفتارو وتنظيم القبيسيات النسوي، ممن أسسوا لنهج ديني جديدفي سوريا، اعتمد عدم التدخل في الأمور السياسية، والتغلغل والسيطرة على المجتمع، بتكتيك وأسلوب جديدين، من خلال التعليم الشرعي
ليست المشكلة كما يضيف سامي أحمد "بإغلاق أماكن المشروب في دمشق، بل في أن هذا يُعَدّ إفراغاً للمدينة من محتواها التاريخي والثقافي، وهو ما خلّف وراءه تبعات كثيرة، برفض الآخر المختلف، المحكوم عليه بالإقصاء أو القتل". تجددت ممارسات "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كما أسماها السوريون في مناسبات كثيرة، كما حدث في شهر رمضان المنصرم، عندما أصدرت جامعة حلب بياناً يُلزم طلابها بالتقيّد بآداب شهر رمضان، وارتداء الملابس المناسبة، وعدم تناول الطعام والشراب في الأماكن العامة. بيد أن تعاطي السوريين هذه المرة كان مختلفاً عما جرى في السابق، ذلك أن وجود "الفضاء الأزرق" سمح لهم بشن حملة استنكار واسعة، لما اعتبروه سابقة غريبة، وتعدّياً فاضحاً على الحريات الشخصية، أجبرت مدير جامعة حلب على الاعتذار، موضحاً أن المنشور لم يصدر عن رئاسة الجامعة، علماً أنه كان "ممهوراً بختمها". إن حجة حزب البعث، في مباركة ومهادنة التيارات السُنية تحديداً، كما يقول جورج برشيني، المنسق العام لجمعية "دعم"، ومؤسس حركة "المرأة إنسان"، هي "أنها تشكل غالبية المجتمع السوري المتدين، الذي لا يمكن الانتقال به نحو العلمانية، علماً أن هذا المجتمع معروف بغناه الإثني والطائفي. وبمقارنة بسيطة مع تركيبة المجتمع التونسي، نجد أن الحبيب بورقيبة لم يسمح، للغالبية الساحقة من المذهب السني المالكي بأن تقف عائقاً أمام توجهه نحو شرعنة علمانية الدولة". توضّحت معالم هذه المهادنة والاتفاق الذي لم يكن معلناً بشكل صريح بين النظام وأرباب السُنة في سوريا، منذ عام 2000، عندما بدأ تنظيم "القبيسيات"، وهو الجماعة الدينية الإسلامية النخبوية، المحصورة بفتيات الطائفة السنية دون غيرها من الطوائف، باكتساح الشارع الدمشقي تحديداً، متخذين من طبقة الأثرياء والتجار والفئات الجامعية نواة لهم. وشهد عام 2006 تحولاً مفصلياً للداعيات القبيسيات، حين سمح لهن النظام بالانتقال بعملهن الدعوي السري من البيوت، ليكون علنياً في المساجد، بعد أن استطعن بفضل مؤَسِسَتِهن منيرة القبيسي، أن يؤسسن لقاعدة شعبية، اعتمدن فيها على السرية، والعمل بعيداً عن أجهزة الأمن السورية، دون أن يسجل لهن أي صدام يذكر مع التيارات الدينية أو السياسية الأخرى. ومع بداية الحرب في سوريا، وبروز الفكر الديني المتطرف كواحدٍ من مسبباتها، وجدت الطائفة السُنية نفسها معنية بالأمر بشكل مباشر، لكونها وُسمت من الشارع السوري، بأنها أكثر من تبنّى إيديولوجيات التطرف والتعصب الطائفي، خلال سنوات الحرب وما قبلها، خاصة في البلدات والأرياف، التي كثر فيها الجهل والتعصب، وندر وجود المراكز الثقافية والتعليمية. حينها سارعت وزارة الأوقاف ومعها العديد من الجماعات الدينية المؤيدة لنهجها لحفظ ما تبقى من ماء وجههم، معلنين انشقاقهم عن التيارات المعارضة المسلحة، فوفر لهم النظام المساحة الكاملة، لما عُرف بمنهج "فقه الأزمة في مواجهة فقه الفتنة". فأطلِقت قناة نور الشام الفضائية، المختصة بأمور الدين والدنيا، وهبّ المشايخ لتقديم استشاراتهم ونُصحهم للناس كافة، وغزت البرامج الدينية شاشات التلفزة. تعاظم دعم النظام لأرباب السنة الذين وقفوا في صفه، وهو ما يفهم منه أنه الاتجاه السياسي العام المتبع في الوقت الحالي، فعُينت الداعية القبيسية سلمى عياش، بمنصب معاونة وزير الأوقاف، في عام 2014، وشُكِّل عام 2016، الفريق الشبابي الديني، لمؤسسه عبد الله السيد، ابن وزير الأوقاف، وكانت مؤخراً اتفاقية مديرية الأوقاف مع جامعة البعث في حمص، لتبادل المعلومات، وإقامة فعاليات ونشاطات اجتماعية وثقافية ذات طابع نوعي وإرشادي هادف، ليصبح بذلك الطوق محكماً حول الحلقة التنويرية التي من شأنها أن تسهم في رسم خارطة الثقافة والانفتاح، الإعلام والتربية والتعليم، مطلقين بذلك الرصاصة الأخيرة في جسد المشروع العلماني.

لا حل بدون العلمانية!

تستند العلمانية في تعريفها الأساسي على مبدأ فصل الحكومة ومؤسساتها والسلطة السياسية عن السلطة الدينية أو الشخصيات الدينية، كما أنها تكفل عدم اعتناق دين معين، وعدم تبني دين بعينه كدين رسمي للدولة، وهو بالطبع ما لا يكفله الدستور السوري أصلاً، ويتناقض مع الشعار الذي تبناه حزب البعث "الدين لله والوطن للجميع". الدليل على عدم صحة هذا الشعار كما يقول الكاتب والناقد المهتم بمسألة المقارنة النقدية بين الأديان والطوائف الدكتور نبيل فياض "هو قانون الأحوال الشخصية الطائفي. فمن غير المعقول أن نُحكم بقانون وُضِع سنة 1918. هذا القانون الذي يُجبر الأقليات ومعتنقي الديانات الأخرى، على إشهار إسلامهم، عند الزواج من مسلمة، وقول بعضهم إن العلة في التطبيق، فيه كذب على الذات وعلى الآخرين". إن أقل ما توقعه السوريون بعد انخفاض حدة الصراع العسكري، أن يُعاد تشكيل دولتهم، على أساس المواطنة، والحريات، والتعايش. بيد أن تطلعاتهم، لم تكن في مكانها، أو ربما أنهم لم يقرؤوا التاريخ جيداً، ذلك أن التزاوج الديني السياسي، ليس بالحلف الجديد، فقد تولى النظام إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً، بينما أُوكلت إلى المشيخة إدارة الشارع السوري دينياً وتربوياً، وكأنها لم تثبت فشلها على مدى سنوات طويلة. وبهذا يظل الفرد السوري مغيّباً عقلياً، عاجزاً عن التفكير خارج إطار الفتاوي والأحكام الشرعية، وهو ما يضمن استمرار النظام في سدة الحكم، والمشيخة على رأس مهامها. إن وضع التيار الديني في قفص الاتهام في كل مرة، قد لا ينطوي على قدر من الدقة والموضوعية، في توصيف الواقع السوري. فالتيار العلماني، على الرغم من اتساع رقعته، أثبت عجزه في كل المراحل، عن تشكيل كتل وأحزاب، يكون لها دورها الفاعل والضاغط، في الاتجاه الآخر المعاكس، ذلك أن البعض منهم تمسح بالجماعات الدينية، وخان مبادئه، بغية منفعة شخصية، أو مطمع سياسي، فضلاً عن أن هذه التيارات العلمانية قد جوبهت بمحاربة قوية، فمطالبهم بالديمقراطية والتعددية أثارت مخاوف النظام من وصولهم إلى السلطة، فعمد إلى إجهاض كثير من المحاولات، كان من شأنها أن تؤدي إلى تشكيل أحزاب يسارية حقيقية تدخل المعترك السياسي، وتشكل نداً لنهج النظام. السوريون يدركون الآن أن الحرب لم تنتهِ بعد، وأن انتهاءها لا يكون بمجاراة أسبابها، بل بمحاربتها، بما فيها محاربة مروجي إسلام الفتاوي، ودعاة القتل، ومحاربي العقل، إذ لا يمكن للنصوص الدينية التي اقتربت من تحريم الهواء، أن تقود عملية التغيير في السلطة والمجتمع. إنهم أمام صراع وجودي، يتطلب منهم قراءة جديدة للواقع المعاش، يمضي بهم إلى ضفة الخلاص. فبدل أن تبدأ الأقليات الأخرى، بالمغالاة بممارسة الطقوس والشعائر الدينية، وتخرج اللطميات من أسوار السيدة رقية، إلى سوق الحميدية، ويُختصر تاريخ المسيحية، بقداس الجمعة العظيمة، وأطول شجرة عيد ميلاد، وعوضاً عن أن ينشغل النظام ومشيخته بتطييف المجتمع، وشرذمته إلى مجموعات متدينة متناحرة، وفرض القيود الفكرية والثقافية، وأدلجة الفكر باتجاهات محددة، وبسط هيمنتهم على حرية الرأي، كان حرياً بهم أن يوجهوا الطاقات والجهود لمحاربة الجهل والفقر، ويتخذوا من العلم بدل الفردوس سبيلاً، وأن يسمحوا لكل المكونات الدينية والثقافية، دون الانحياز إلى مكون بعينه، بالعمل على وضع أسس معرفية لثقافة عقلانية علمانية، تتعاطى مع الناس على أنهم بشر ومواطنون، وليس كرعايا طائفيين.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image