شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
في محاولة إيجاد أجوبة عن السؤال الغامض: لماذا منعتنا جداتنا من دخول الصالون منذ أن كنا أطفالاً؟

في محاولة إيجاد أجوبة عن السؤال الغامض: لماذا منعتنا جداتنا من دخول الصالون منذ أن كنا أطفالاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 9 يوليو 201811:28 ص

لا تسمح لنا جدتي بالدخول الى الصالون منذ أن كنا أطفال. هذه الغرفة محاطة بهالة الـ"ممنوع" والـ"انتبهوا"، التي ننظفها 3 مرات أسبوعيًا من دون أن نستعملها، لنبقى جاهزين للزيارات "المفاجئة" والعزائم الكبيرة، والضيوف المهمّين، والمناسبات "الحرزانة". ظننت أن هالة الصالون هي فقط في لبنان، ولكن تبيّن أن الأمر ينسحب على معظم الدول العربية، وبعض الدول الأجنبية. فعندما كنا في مصر، بدأت زميلتي هاجر سعيد بالتكلم ساخرة على الصالون في منزلها: "وكأنه متحف لا يمكن الدخول اليه من غير بطاقة الضيوف". ثم تابعت بالمنطق نفسه صديقتنا من فلسطين وأخرى من الأردن. ومن هنا تساءلنا لمَ الصالون الفخم المبهر مفصول عن غرفة الجلوس العادية الصغيرة؟ ولمَ هناك غرفتان مفصولتان للاستعمال نفسه، لكل واحدة أسلوب فرش معيّن يحدد أهميتها والأشخاص المخولين الدخول اليها؟

لماذا تيتا؟

سألت جدتي هذا السؤال الذي لطالما راودني: تيتا، لم لديك صالون وغرفة الجلوس؟ فاستغربت وضحكت: "انه ككل غرف البيت! كالحمام وغرفة النوم...". وبعد اصراري حول جدية الموضوع قالت:  كنا نخصص الصالون للأعراس والمآتم، أين يجلس الضيوف؟ وكان مخصصًا أيضًا  للعزائم والمناسبات الكبيرة، وجدك له معارف كثر. أما اليوم فتغيّر الوضع، وبات الجميع يجتمع في المطعم أو القهوة".

وتشابهت ردّة فعل أم هاجر مع ردة فعل جدتي، ووجدت أن السؤال مسلٍ. فقالت: "الصالون بأهمية غرفة الجلوس ولكنه.. أثمن وأفخم. وإن فكرة وظيفته "للحفلات والمناسبات الضخمة والضيوف" متوارثة ثقافيًا، من جدتها الى أمها". تستوقفها هاجر: نعم، ولكنني سأكسر هذه السلسلة الوراثية، لأن الصالون مضيعة للمساحة بالنسبة الى شخص براغماتي مثلي. أنا أحب استعمال كل مساحات المنزل. سيكون لدي غرفة كبيرة للاسترخاء واستقبال الضيوف وبدل الصالون مكتبة، لأنني أستمتع بها أكثر وأمضي أغلب وقتي فيها. عدا انني لا أملك الوقت الكافي لتنظيف غرف لا أستعملها!". وخلافًا لكل منازل أفراد العائلة، لا يوجد صالون في منزل أختي التي تزوجت قبل بضعة أشهر. تقول "لم أنشئ صالونًا لأن مساحة البيت صغيرة، بالاضافة الى أنني شخص عملي جدًا. ربما لو كنت أملك أموالًا طائلة ومساحة المنزل كبيرة، كنت فكرت في تخصيص غرفة فيها الصالون".

سأكسر هذه السلسلة الوراثية، لأن الصالون مضيعة للمساحة بالنسبة الى شخص براغماتي مثلي. أنا أحب استعمال كل مساحات المنزل. سيكون لدي غرفة كبيرة للاسترخاء واستقبال الضيوف وبدل الصالون مكتبة..
عندما أصبح مرفأ بيروت سبّاقًا في العام 1860، ظهرت طبقة برجوازية في بيروت وصيدا وتركيا وسوريا. وللتباهي بأموالهم، اتفقوا على نوع معيّن من الهندسة: صالون يتوسط المنزل فيه واجهات مكونة من 3 أقواس تطل على البحر.
سألت صديقتي الفرنسية ماتيلد عن هذا الموضوع، فاستغربت فكرة وجود "غرفة فخمة لاستقبال الضيوف". فعائلتها لديها غرفة معيشة كبيرة وفيها زاوية للتلفاز (coin télé)، لئلا يزعج المشاهدون المتحدثين. وكذلك الأمر في منزل جدتها، التي تفصل غرفة المعيشة عن غرفة الطعام لأهمية هذه الأخيرة: "أبرز وأفضل الأحاديث والأخبار تتم حول المائدة!".

المفهوم البرجوازي

وفي مقابلات سريعة من الشارع، ظهر أن الفكرة الأساس لفصل الغرفتين كانت فكرة الضيوف والزيارات المفاجئة، وأن المقربين فاستقبالهم مألوف في غرفة الجلوس أما الغرباء فلا. وأن الصالون يجب أن يكون فخمًا وفرشه أثمن... هنا يشير المدير التنفيذي في أحد فروع غاليري "استقبال"، علي الموسوي، إلى أن الفرق بين الصالون (اجمالًا أكثر من 2500$) وغرفة المعيشة (اجمالاً اقل من 2500$) هو الكلفة، بسبب اختلاف التصميم وكمية القماش المستعملة والزخرفة، وحجم المقاسات... على الرغم من كون نوعية الخشب مثلًا، نفسها. ويزيد: "أن الناس يدفعون مبالغ كبيرة ثمن الصالون للتباهي، ويستثمرون في الصالون وغرفة الطعام والمعيشة، أكثر من الاستثمار في غرف النوم!". عليه، تشير الباحثة المعمارية ماريا الحلو، الى طبيعة هذا الفصل في المشرق موضحة أنه "عندما أصبح مرفأ بيروت سبّاقًا في العام 1860، ظهرت طبقة برجوازية في بيروت وصيدا وتركيا وسوريا. وللتباهي بأموالهم، اتفقوا على نوع معيّن من الهندسة: صالون يتوسط المنزل فيه واجهات مكونة من 3 أقواس تطل على البحر.

وتحيط الصالون باقي الغرف". ويزيد أستاذ الهندسة في الجامعة اللبنانية الأميركية عبدالله كحيل: "هذا الصالون كان يسمى "لِوان" وبرز في البيوت البرجوازية وبيوت الطبقات المتوسطة، لأنهما تتحملان أعباء الغرف الاضافية. وفيه كانت تنظم حفلات لتلاوة الشعر والتحدث في السياسة والتجارة... فالمنزل القديم للطبقة الميسورة والفقيرة يقتصر على غرف عملية (functional): واحدة للطبخ وأخرى للنوم وأخرى للمعيشة والاستقبال"ويضيف كحيل: "يُقال أن انقسام الغرفتين كان لتفريق أحاديث الرجال عن النساء. اذ قبل وسائل التواصل والاتصال، وقبل تحرّر المرأة من قيود اجتماعية عدة، لم تكن مواضيع التحدث مشتركة بفعل طبيعة عمل وحياة كل من الجنسين: الرجال في الزراعة والتجارة والنساء في المنزل وتربية الأولاد. لكن هذه النظرة غير دقيقة: نمط وسائل التواصل الاجتماعي وانخراط المرأة في العمل، غيّرا هذا الوضع.

كما يؤكد الخبيران أن فكرة الصالون دليل على حب الحياة الاجتماعية (communal living)، ففي بلدان أخرى يُفضّل أن يخصص لكل فرد غرفته حيث يقوم بمعظم نشاطاته وفروضه، أما في بلادنا فنحب أن نقوم بكل النشاطات معًا. وفصل الغرفتين ودفع مبالغ كبيرة للصالون يدلّان على أننا نريد دائمًا اظهار صورة فخمة وجميلة عنا مختلفة عن صورة حياتنا اليومية وتاريخنا (غرفة المعيشة)، وهذا انعكاس للشخصية ومتوارث في اللاوعي الجماعي. فهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحالة الاجتماعية والمعيشية، وحب التفاخر، "فحتى لو لم نملك المساحة أو المال الكافي، نفكر بتحويل الشرفة إلى صالون"، حسب الحلو، التي تنصح الزّبائن بالاستثمار أكثر في غرف النوم لأنها المكان الأساسي للتواصل بين الثنائي بعد نهار طويل، أو لقدرة استيعاب الطفل لكل ما قام به خلال اليوم". وتلاحظ الحلو أن  "الاكتظاظ السكاني والمركزية في المدينة سببا بتضييق مساحة البيوت علمًا أن أسعارها ما زالت مرتفعة جدًا. وبالتالي يصعب انشاء صالون وغرفة معيشة. فتحوّلت العزائم الى المطاعم، المكلفة أيضًا. لذلك نجد ارتفاعًا في حاجة الناس ومطالبتهم بايجاد مساحات عامة للقاءات، والتحدّث".

غرفة الموت

وفي أوروبا، ارتبط مفهوم الصالون بالبرجوازية أيضًا. ففي العصور المتوسطة، اشتقت كلمة الصالون من salone الايطالية، (sal في الفرنسي القديم) وهي تعني غرفة الاستقبال في القصور الكبيرة. لاحقًا أصبح المعنى "مكان سكن يضم غرفة واحدة". ثم ارتبط الصالون بنشاط معين للإشارة إلى وظيفة الغرفة: كصالون للرسم، أو للشعر، أو للعب الورق... أمّا معنى كلمة "séjour" (للإشارة الى غرفة المعيشة) فلم يستعمل للدلالة على نوع غرفة إلا في أواخر القرن العشرين، وذلك للتفرقة بين الغرفة البرجوازية والغرفة العائلية. ولعل بداية استخدام هذه الكلمة كان نهاية لفترة انشاء الصالونات الكبيرة واستخدام المفردة (الصالون) في العصر الفيكتوري.
ننظفها 3 مرات أسبوعيًا من دون أن نستعملها، لنبقى جاهزين للزيارات "المفاجئة" والعزائم الكبيرة، والضيوف المهمّين
أما اليوم، فغرفة الضيوف غير مفصولة عن غرفة المعيشة، الا في المنازل الفخمة، لأن معظم المنازل لا تتعدى 100 متر مربع. وفي البلدان الانغلوساكسونية، تستعمل كلمة (living room) للدلالة على الصالون في حين (family room) تدل على غرفة المعيشة. قصة تسمية الصالون (living room) غريبة: كانت هذه الغرفة أول غرفة يراها الضيف عند دخوله المنزل. لم تكن للتسلية أو لراحة أفراد العائلة، بل للضيوف والزيارات. وفي أوائل القرن العشرين ضرب وباء الانفلونزا وفتك بالعديد من الأشخاص، فخصصت الغرفة لرثاء الميت قبل دفنه، وسمّيت "غرفة الموت". وبعد انتهاء هذا الوباء، انزعج الأفراد من اسم "غرفة الموت" فحوّلوه الى "غرفة الحياة" أو العيش، التي نُقلت الى جانب المنزل وليس وسطه. من ناحية أخرى، شعر الناس أنهم بحاجة الى اختراع غرفة جديدة للترفيه والراحة ومشاهدة التلفاز، فكان اختراع (family room) = غرفة العائلة. وتشير دراسة قامت بها شركة (Tekcarta) عام 2014 إلى أن تغيّر القيم العائلية وزيادة الأسعار والمصاريف، والاتجاه الى الفردانية، جعل 24% من الشباب الأميركيين يستأجرون بيوتًا صغيرة، أو مشتركة للعيش فيها، متخلّين عن التقسيمات المنزلية القديمة، وبالتالي عن ثقافة معمارية كانت سائدة يوماً 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image