صباح يوم الأحد، 4 مارس من العام الجاري، نشرت غالبية المواقع المختصة بالأخبار الفنية نبأ وفاة الممثل بيير سيوفي، بعد صراع مع مرض السرطان؛ في المقابل لم تشهد وفاته أي ضجيج، كما يحدث عادة حيال موت الفنانين في مصر، ومر الخبر مرور الكرام.
ونظرًا لقلة أعماله الفنية وعدم توغله في علاقات قوية مع زملاء المهنة، أو ربما خوفًا على «أكل عيشهم»، لم ينعِه أحد، حتى من شاركوه في مسلسليه الأخيرين «6 ميدان التحرير»، و«أهل كايرو»، قبل اعتكافه بعِمارته المُطلة على ميدان التحرير لما يزيد على ثلاث سنوات؛ واقتصر رثاؤه على رفاقه في ثورة الخامس والعشرين من يناير فقط.
من هو بيير سيوفي المثير للجدل؟
لو بحثتم عن الاسم الكامل لبيير، وأين ولد، وغيرهما من الأسئلة التعريفية، لن تجدوا أي إجابات شافية؛ كل ما عُرف عنه، هو مواصفات جسدية، برع في وصفها الروائي الراحل مكاوي سعيد، الذي قال عنه في مقال، نشرته مجلة «الدوحة» بأحد أعدادها الشهرية عام 2011: «هو شخصية شهيرة في منطقة وسط البلد بطوله الفارع وعرضه الذي يقترب من البدانة، وشعره المسترسل خلفه الذي دب فيه الشيب مؤخرًا، ولحيته المكسوة بياضًا التي يطلقها أحيانًا، فتبدو كلحى السلفيين أو القساوسة، ومقدمة رأسه الضخم التي تكاد تبدو خالية من الشعر». ويزيد سعيد في الوصف، قائلًا: «لدى بيير كرش عظيم، يزيده وجاهة الـ(تي شيرتات) القطنية اللافتة للنظر التي يرتديها، وتصير بعد أن يرتديها موضات يتبعه في اقتنائها ولبسها الكثيرون.. وكل (تي شيرت) بحال؛ فإما على صدره وظهره رسومات عادية مجردة، أو كلمات بلغات أجنبية مختلفة بذيئة أو عابرة للتابوهات، أو عبارات طريفة وسط ألوان فاقعة، أو رسوم كاريكاتيرية غريبة عن سكان الفضاء، أو حيونات متخيلة ليس لها وجود إلا في مخيلة راسمها.إنه المفجر الحقيقي للثورة، وبطل غرفة العمليات التي تدير الأحداث، والتواصل مع الخارج عبر الإنترنت، ورفع الفيديوهات والصور المزورة لتشويه الجيش، وتضخيم الأحداث، وإشعالها بإضفاء المزيج من الشائعات والأكاذيب.
بينما هي تصلح زينتها أمام المرآة الكبيرة في الصالة، تردد صوت أشرف فجأة في الردهة كالعويل: الحقي يا إكرام، دول بيقتلوهم.. بيقتلوهم بالرصاص.وفي الجزء الأسفل بنطلونات غالية من القطن أو الكتان، أو رخيصة من التيل والدمور؛ اللافت فيها جيوبها التي كثيرًا ما تظهر منها بطانتها من دون أن تعود مرة أخرى لمكانها».
«لا يهمني اسمك.. لا يهمني عنوانك.. ولا ميلادك.. يهمني الإنسان»
بهذه الكلمات الغارقة في الإنسانية للشاعر عبد الرحيم منصور، صدح المطرب المصري محمد منير في أغنيته الشهيرة «حدوتة مصرية»، مؤكدَين أن فعل الإنسان هو ما يبقى، لا الاسم يعني في شيء، ولا المنشأ يزيد صاحبه احترامًا، وتخليدًا بعد وفاته؛ وبأغنية المطرب نفسه «قلبي مساكن شعبية»، وصف الناشط زياد العليمي بيير سيوفي في منشوره على صفحته الشخصية بموقع «فيسبوك»، حين رثاه بعد وفاته، ومعرفًا إياه لمن لا يعرفه، قائلًا: «شايف البلكونة اللي متعلق فيها مطالب المعتصمين دي؟ ده بيت بيير السيوفي، الراجل اللي أحلام ملايين المصريين اتعلقت ببلكونته، ورسم كل أحلامهم - في المطالَب اللي وقتها كانت ممكن تكلفه حياته - على واجهة عمارته (1 شارع طلعت حرب). بيير ابن عيلة ثرية كانت بتشتغل في تجارة التحف والأنتيكات، اتخرج من الجامعة الأمريكية، وساكن في ميدان التحرير، وقلبه عايش في الشوارع والحواري المحيطة به. الثورة كانت فرصة لبيير.. فجأة الشوارع والحواري اللي قلبه عايش فيها بناسها وصلوا لغاية عنده، تحت البيت. بيته بقى جزء من الميدان، بثقافته، وطريقته وناسه، جزء من الميدان حرفيٌا مش مجازًا. باب مفتوح 24 ساعة، تدخلوا تلاقوه قاعد في / أو حوالين نفس المكان، ماسك الكمبيوتر بتاعه، وبيكتب أو بيتابع حاجة، وباقي البيت زحمة بشكل رهيب بناس معظمها ما يعرفوش مين صاحب البيت أصلاً». لم يُعرف بيير كشخصية عامة، موثَّق تاريخ ميلادها، ومكان نشأتها؛ لكنه كفنان تشكيلي وممثل سينمائي، اشتهر شكلًا فقط، من خلال أدوار بسيطة جسدها في عدة أعمال سينمائية وتليفزيوينة، لم تتجاوز الاثني عشر عملًا. أبرزها شخصية مستر حسان في فيلم «المنسي» لعادل إمام، والمخرج شريف عرفة، والسيناريست وحيد حامد، ومدير الكباريه بفيلم «أرض الخوف» للراحل أحمد زكي، والمخرج داود عبد السيد، انتهاء بظهوره بشخصيته الحقيقية، كأحد الأعضاء الناشطين بثورة الخامس والعشرين من يناير في الفيلم الوثائقي «الميدان»، الذي يرصد ما دار بالثورة، مرورًا بفترة حكم المجلس العسكري، وجماعة الإخوان المسلمين برئاسة محمد مرسي، حتى اندلاع ثورة الثلاثين من يونيو، ورُشح الفيلم لجائزة الأوسكار عام 2014.بيير المخلّد باسم مستعار في رواية ممنوعة
الأديب علاء الأسواني استلهم ما مر به وشاهده بعينه في ميدان التحرير إبان الثورة ضمن أحداث روايته الأخيرة «جمهورية كأن»، الممنوعة من النشر بمصر، فطُبعت بدار «الآداب» اللبنانية، ومؤخرًا مُنعت من التداول بالأردن، وفيها العديد من الشخصيات التي تتماس كثيرًا مع شخصيات في الواقع، يختلفون فقط في الأسماء التي اختارها الروائي لأبطاله. واحدة من هذه الشخصيات التي تكاد تتطابق مع حياة بيير سيوفي، هي شخصية أشرف ويصا، التي استهل بها الأسواني ثاني فصول روايته، بعد أن خلق لها أبعادًا درامية، وخلفية تاريخية زادتها ثراء، فيقول في أحد أجزائها: «إن حياته مع ماجدة ليست إلا سلسلة من الخلافات والمشاجرات، تتخللها فترات طويلة من الصمت العدواني والتعليقات المسمومة والتجاهل المتغطرس. ألّحت عليه حتى يبيع عمارة جده في شارع طلعت حرب حيث يسكنون، ويشتري فيلا في أكتوبر أو التجمع، لأن وسط البلد تحول في رأيها إلى منطقة شعبية لا تليق بهم. يا لها من فكرة غبية». وعن التمثيل الذي تشترك فيه الشخصيتان «بيير/ويصا»، يقول الأسواني في أحد مقاطع روايته بحوار دار بين أشرف وخادمته إكرام: «يا خبر أبيض.. ده حضرتك بتمثل في الفيلم (...) حضرتك تمثيلك جميل جدًا.. ليه ما تعملش دور البطولة وتبقى ممثل مشهور؟!». الشخصيتان اشتركتا أيضًا في قربهما من أحداث الثورة، وهنا يقول مؤلف «جمهورية كأن» بلسان الراوي: «اجتاز الردهة بسرعة إلى المكتب، وفتح الشرفة، وراح يتابع ما يحدث في الميدان.. رفعت الصحون من على المائدة وغسلتها في المطبخ. وبينما هي تصلح زينتها أمام المرآة الكبيرة في الصالة، تردد صوت أشرف فجأة في الردهة كالعويل: الحقي يا إكرام، دول بيقتلوهم.. بيقتلوهم بالرصاص». ثم تأتي اللحظة الفارقة التي يقرر فيها «أشرف ويصا» كما في أحداث الرواية مساعدة الثورة، فيسردها علاء قائلًا: «والتقى هناك رئيس اللجنة التنسيقية، المسؤول الأول عن الميدان، الدكتور عبد الصمد (...) عرفه أشرف بنفسه، ثم قال ببساطة: أنا عاوز أساعد الثورة». وفيما يخص عمارته التي شهدت الأحداث، وأصبحت غرفة العمليات، يأتي هذا المقطع ليوضح تشابه أشرف ويصا في «جمهورية كأن»، مع بيير سيوفي، وفيه يقول الأسواني: «في اليوم التالي، اتفق أشرف مع إكرام وقام، بمساعدة مجموعة من شباب الميدان، بفتح شقة الدور الأرضي في عمارته وتنظيفها، وأصبحت مقرًا للثورة».هزيمة بيير على يد أعداء الثورة بـ«حكم قضائي»
كان بيير قد حصل على حكم من محكمة أول درجة بتغريم الإعلامي أحمد موسى 10 آلاف جنيه، في قضية سب وقذف، حين وصفه بأنه إحدى دعائم ما أسماها «نكسة يناير»، وصاحب «غرفة عمليات الخونة»، وذلك عبر برنامجه «على مسؤوليتي» المذاع على فضائية «صدى البلد»؛ لكن في الحادي والعشرين من فبراير لعام 2016، برأت محكمة جنح مستأنف مدينة نصر الإعلامي الشهير من التهمة. واستندت المحكمة في حيثيات حكمها إلى: «انتفاء الجريمة؛ لأن الإعلامي أحمد موسى لم يفعل أكثر من النقد الحر البناء، ومثل هذا النقد لا يصح أن يُفهم على انطواء الإساءة للغير». وأضافت المحكمة: «كما أن حرية التعبير والكشف عن الحقائق لا يمكن أن تُقيد بأغلال تعوق ممارستها، بل لا بد من طرح تلك الأمور على الرأي العام بجميع الوسائل». اتهام بيير ورفاقه بأنهم «نكسجية» وسبب الخراب الذي حلّ بالبلاد، ثم خسارته القضية، لم تكن أول الاتهامات التي أهيلت عليه بالأخص، وعلى شباب الثورة بوجه العموم، فقد سبقه مقال لاذع كتبه الصحفي دندراوي الهواري، بجريدة «اليوم السابع»، يشكك في كون سيوفي مصريًا بالأساس، والتلميح بالعمالة لجهات أجنبية، بحجة سماحه للوكالات العالمية بتصوير ما يجري بميدان التحرير عبر شقته المطلة عليه. يقول الهواري: «الممثل المغمور، لا نعرف جنسيته بالضبط، هل هو تركي، أم خليط ما بين التركي والقبرصي، لكن المعلومات المتناثرة وغير المؤكدة، تشير إلى أنه تركي، ولعب دورًا بارزًا ومحوريًا في ثورة 25 يناير. بل يراه البعض أنه المفجر الحقيقي للثورة، وبطل غرفة العمليات التي تدير الأحداث، والتواصل مع الخارج عبر الإنترنت، ورفع الفيديوهات والصور المزورة لتشويه الجيش، وتضخيم الأحداث، وإشعالها بإضفاء المزيج من الشائعات والأكاذيب، بداية من موقعة الجمل، وحريق المتحف وأحداث مجلس الوزراء، وأحداث محمد محمود الأولى، والثانية، وغيرها من الأحداث، كما أنها لعبت دورًا محوريًا يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، وباعتراف كل الذين دخلوا الشقة وأقاموا فيها فترة الثورة، يؤكدون أن مطبخها يضم كل ما لذ وطاب من المأكولات، والعصائر وأنواع الخمور». ويتساءل دندراوي في نهاية مقاله: «نحن نريد أن نعرف من هو بيير سيوفي، وعمله الذي يدر عليه كل هذه الأموال الغزيرة، ودوره الكبير في الثورة، وكراهيته للجيش المصري للدرجة التي دفعته إلى ارتداء تيشرتات مكتوب عليها: (الجيش والشعب إيد واحدة مبتصقفش»)، و(أنا بلطجي)».رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.