هناك مشهد يكاد يتكرر في عدد من المسلسلات العربية القديمة وأفلام الأبيض والأسود: تقبيل يد الوالد من باب الاحترام والتقدير، ووضع قبلة ناعمة على يد امرأة، وحتى أصحاب السلطة ورجال الدين يكون التقرب منهم عن طريق تقبيل أيديهم من باب الخضوع وتسليم الذات.
من الاحترام إلى الشهامة مروراً بالخضوع والإذلال، لطالما رافقت حركة تقبيل الأيدي الناس، غير أن هذه العادة باتت "تنقرض" شيئاً فشيئاً.
عادات مكتسبة
لا نعرف تحديداً كيف دخلت عادة تقبيل اليد إلى مجتمعاتنا العربية، إذ يرجّح أنها غريبة عن ثقافاتنا، لكن بإمكاننا العودة إلى بعض العادات التي اتسم بها الحكم العثماني، عندما كان الناس يعمدون إلى تقبيل يد السلطان والحاكم، "الآمر الناهي" بهدف إظهار خضوعهم له ولتسليمه أمرهم. هذه العادة ما زالت منتشرة بكثرةٍ بين العائلات التركية المحافظة، حيث نجد الأولاد يقبلون أيادي أهلهم وأجدادهم كنوع من التقدير والاحترام. ممارسة تظهر بشكلٍ واضحٍ في الدراما اللبنانية والسورية، على غرار باب الحارة مثلاً وغيره من المسلسلات الشعبية التي تعكس حقيقة تعامل الأولاد مع أهلهم ومع كبار السن، بحيث أنهم يقومون بالانحناء أمامهم، ويمسكون أيديهم يقبلونها ويضعونها فوق رؤوسهم لأخذ البركة. أما في أوروبا، فقد برزت عادة تقبيل الأيادي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر خاصة في الكومنولث البولندي الليتواني وفي إسبانيا، ممارسة لا تزال موجودة في وسط وشرق أوروبا، خاصة في أوساط الطبقة الأرستقراطية، حيث ما زال الرجل النبيل يعتمدها لإلقاء التحية على السيدة بهدف إظهار أقصى درجات الاحترام لها، والمفارقة أن المرأة هي التي في العادة تقدم على مدّ يدها للرجل ساعية لأن يبادرها هذا الأخير بقبلةٍ صادقة.قبلة مهددة بالانقراض؟
تحدث "فريديريك روفيلوا" في كتابه Histoire de la politesse de 1789 a nos jours عن العادات النبيلة التي كان يمارسها الناس لإلقاء التحية على الطرف الآخر، واللافت أن هذه الطقوس تعكس حقيقة التسلسل الهرمي الاجتماعي.لا تلمسوا يد المرأة بشفاهكم عند تقبيل يدها وتجنبوا اتصال العين أو التحدث أثناء الاحناء.
في بعض البلدان مثل تركيا والفليبين وماليزيا، يتم الترحيب واستقبال المسنين، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، بالانحناء أمامهم وتقبيل يدهم ووضعها فيما بعد على الجبين كنوع من التماس البركة من كبار السن.فقد أوضح الكاتب أنه في الحقبة الزمنية القديمة، عندما كان من الصعب على المرء أن يخرج من دون وضع غطاءٍ على رأسه، فإن المسافة بين اليد والقبعة هي التي تحدد معنى الإخلاص، ومع التقدم في السلم الاجتماعي يكتسب فعل إلقاء التحية "ليونة" و"شياكة"، خاصة حين يقدم الرجل على تقبيل يد إمرأة، فحينها يتعيّن عليه أن ينتبه جيداً إلى الطريقة الأنسب للتقبيل: برقة دون سرعة مبالغ بها أو تباطؤ مشبوه. غير أنه مع مرور الوقت، غابت هذه العادة عن المجتمعات كافة، وبات ينظر إلى الرجل الذي يقوم بتقبيل يد حبيبته على أنه قديم الطراز، حتى أن قبلة اليد باتت موضع شك بالنسبة إلى الكثيرين الذين يؤمنون بالمثل القائل: "الإيد إللي ما بتقدر عليها بوسها وإدعي عليها بالكسر"، في إشارة إلى التظاهر بالخضوع ومحاولة التمسكن بهدف التمكن. وإنطلاقاً من رفض فكرة الخضوع واستعباد الناس، كان الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، قد أعلن في العام 2005 وبشكل رسمي إلغاء عادة تقبيل اليد في المملكة، قائلاً: "تقبيل اليد عادة دخيلة على قيمنا وأخلاقنا. وفعل تعرض عنه كل نفس أبية. وأنا أعلن الرفض من جانبي لعادة تقبيل اليد، وأحثكم على ألا تقبلوا إلا للوالدين، من باب التقدير لهم". وبدوره انتشر في السابق فيديو يظهر الأمير المغربي "مولاي الحسن" وهو يسحب يده رافضاً أن تقوم الشخصيات الدبلوماسية بتقبيلها، الأمر الذي يخالف البروتوكول الملكي. via GIPHY وعن حكم تقبيل اليد، يقول الشيخ أحمد الشرباصي، أستاذ سابق بجامعة الأزهر: "فأنت ترى من هذا أن تقبيل اليد إذا أريد به غرضٌ كريم كان كريمًا، وهذا هو الأصل فيه، وإذا أُسيءَ استغلاله صار مرذولاً، شأن كل مقبول يُساء استعماله. وعلى هذا فما أجمل أن يُقَبِّلَ الإنسان يد والديه، أو أستاذه، أو مُرشده الروحي، أو الوليِّ الصالح، أو الرجل العظيم النافع، ولست أدري كيف يُفتتن أناسٌ بحضارة الغرب، التي ترى من الأدب أن يُقبِّل الرجل يد المرأة، سواء أكانت حليلة أم خليلة، ثم نحمل حملةً عمياءَ على تقبيل اليد بيننا، دون تفريق بين ما أُريد به الرياء، وما أريد به الوفاء".
مدرسة لتعليم السجناء فن التقبيل
في حين أن عادة تقبيل الأيدي هي على طريق الانقراض في المجتمعات العربية، فإن بعض المجتمعات الغربية لا تزال متمسكة بها لا بل تحرص على الحفاظ عليها بطرقٍ مبتكرة. فقد كشفت صحيفة التلغراف البريطانية عن وجود مدرسة خاصة في سجون النمسا تقوم بتعليم أطفال الطبقة المتوسطة "إتيكيت" تقبيل اليد، بهدف مساعدة هؤلاء على العودة إلى "المجتمع المهذب". وتشمل الدروس التي تعطى للتلاميذ السجناء الذين تراوح أعمارهم بين 14 والـ21 عاماً، آداب المائدة والطريقة الصحيحة لتقبيل يد النساء. واللافت أن هذه المدرسة الخاصة التي أنشأها في العام 1919 الضابط السابق في الجيش الأمبراطوري النمساوي "ويلي إلمايار فون فستنبرغ" قامت بتدريس أجيال من المجتمع النمساوي الراقي لأكثر من 80 عاماً، واليوم حفيده "توماس إلمايار" يأخذ المهمة على عاتقه ويحاول تدريب 80 تلميذاً في سجون مختلفة في فيينا. وعن فن تقبيل يد النساء يقول "توماس": "هناك الكثير من الأمور المتعلقة بطريقة تقبيل أيدي النساء ويجهلها معظم الناس"، مؤكداً أن المهم هو أن نتذكر دوماً أنه يجب عدم تقبيل يد السيدة ما لم تعمد هي إلى مدها". وقد تحدث "إلماير" عن "إتيكيت" تقبيل يد السيدة قائلاً:" "في حال كنتم تضعون القبعة، فإنه يتعيّن عليكم رفعها وإمساكها برفق على مقربة من ساقكم، وبعدها يجب أن تتقدموا نحو السيدة لكي تأخذوا يدها الممدودة برفق إلى الأسفل بواسطة طرف أصابعكم، وعندها يجب الانحناء عند الخصر حتى تصبح الشفاه على بعد سنتيمترات فوق يدها". وأضاف "توماس":"لا تلمسوا يدها بشفاهكم، وتجنبوا اتصال العين أو التحدث أثناء الاحناء".قبلة واحدة ودلالات مختلف
إن الطريقة السلسة التي تعطي فيها المرأة يدها للرجل وطريقة استجابته لهذه الحركة بخفة عن طريق أخذ قبضة يدها برفق وطبع قبلة خفيفة عليها، هو فنّ قائم بحدّ ذاته. ففي الواقع يكفي أن تشاهدوا أي فيلم عربي أو أجنبي قديم أو مسرحية تعكس حقبة زمنية محددة، حتى تفهموا كيف بامكان هذه القبلة البسيطة التي يتم طبعها بخفة على يد الآخر أن تترجم معاني الحب والغزل والاحترام. إلا أنه كما أشرنا في السابق فإن القبلة على اليد تحمل الكثير من المعاني والدلالات، إليكم أبرزها: الحب المقنع: في ظل الانفتاح على الآخر والتقدم الاجتماعي، تغيّر العديد من العادات وأصبحت بعض الممارسات التقليدية في طيّ النسيان، فنادراً ما نرى الحبيب وهو يقوم بتقبيل يد حبيبته أو حتى فتح باب السيارة لها كما كان يحصل في السابق، ولكن للعادات الماضية أسبابها أيضاً: ففي "الزمن الجميل" كان يفرض على العشاق العديد من القيود الاجتماعية، كالحفاظ على مسافةٍ معيّنةٍ بين الطرفين، وبالتالي لم يكن باستطاعة العاشق التعبير عن حبه وإخلاصه إلا من خلال تقبيل يد حبيبته بطريقةٍ راقيةٍ، كما أن تقبيل يد المرأة في ذلك الوقت كان للتعبير عن الإعجاب والتقدير تجاه السيدة خاصة في حال كانت متقدمة في السن. من هنا يعتبر موقع "social mettle" أن الرجل الذي لا يزال في عصرنا الراهن يقوم بتقبيل يد حبيبته هو عاشق تقليدي يعبّر عن إعجابه بطريقة سلسة وبعيداً عن التسرع إذ يحب أن يأخذ الأمور بروية وهدوء. https://youtu.be/fDJe3o9BD_s?t=51 الدبلوماسية: باتت عادة تقبيل اليد محصورة بنخبة من الدبلوماسيين وأصحاب السلطة والنفوذ، وكما تعكس السلسلة الشعبية "العراب" كيف بامكان قبلة اليد أن تكون رمزاً للإخلاص والولاء للشخص القوي، فمثل هذه القبلة قد تعكس الخضوع الكامل لشخص جدير بالثقة كالكاهن أو الشيخ أو الملك، أو زعيم سياسي بكل بساطة. احترام الأعمار: في بعض الثقافات، ترمز القبلة على اليد إلى احترام كبار السن، ففي بعض البلدان مثل تركيا والفليبين وماليزيا، يتم الترحيب واستقبال المسنين، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، بالانحناء أمامهم وتقبيل يدهم ووضعها فيما بعد على الجبين كنوع من التماس البركة من كبار السن.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت