كان صوت أحد الدعاة السلفيين يهدر على منبر المسجد متحدثاً عن كيف يرزق الله مَن يشاء بغير حساب. قال إن علينا، لننال هذا الرزق الكبير، أن نتقي الله فقط، مثل صحابة النبي الذين اغتنوا من بعد فقر، حتى بلغت ثرواتهم ملايين الدراهم والدنانير، وآلاف العبيد، والأراضي، والماشية... من أين جمعوا هذه الثروات؟ في الحقيقة، أتت من مصادر مادية بحتة لا علاقة لمفهوم الرزق بها، وهذا أمر لا يدين الصحابة بشيء، فقد كانوا أبناء عصرهم، إلا أنه أيضاً ينزع عنهم هالة القداسة التي أُسبغت عليهم بعد انتصار الإسلام. لقد كانوا بشراً منتصرين فقط.
من الجوع إلى امتلاك نصف العالم القديم
تنقل لنا المرويات صوراً من حياة فقيرة عاشها النبي محمد وأصحابه في مجتمع المدينة، وصلت حدّ ربط الأحجار على البطون الجائعة. وبالطبع لم تكن هذه الفاقة سائدة طول الوقت، فقد كان للنبي وصحبه مصادر متقطعة للثروة تأتت من العمل الحربي. وتطورت عمليات الغزو في زمن خلفاء النبي، وتوسعت في عهدي عمر وعثمان، ونتجت عنها موارد مادية بأرقام لم يسمع عنها العرب من قبل. وكانت العملات المستخدمة هي الدرهم والدينار، ووفق أرقام تقريبية يساوي الدرهم ثلاثة غرامات فضة، ويساوي الدينار 12 درهماً، ووُجد دينار من الذهب. يوصّف محمد عابد الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي" هذا الوضع الجديد بقوله: اختلفت غنائم العراق والشام وغيرها عن الغنيمة التي عرفتها قبائل العرب في ما بينها من إبل وشياه، فالأمر هذه المرة يتعلق بخزائن دول كبرى عريقة في الحضارة، ومدخرات مدن، وغلات حقول وبساتين، وأموال منقولة من ذهب وفضة، فضلاً عن الماشية. وكان نصيب المركز الخمس، وهو شيء ليس بالقليل، ففي معركة القادسية كان تقدير الخمس ما بين 12 مليون درهم إلى 60 مليون درهم. وبجانب الغنائم وُجد الخراج الذي أصبح مصدراً أساسياً ثابتاً للدخل في الدولة الإسلامية، والخراج هو ضريبة الأرض التي فُتحت عنوة ولم تُوزّع على المقاتلين بل بقيت ملكاً لبيت مال المسلمين، وبقي أهلها فيها لزراعتها. ويورد الجابري أرقاماً تقريبية عن دخل الخراج في عهد عمر بن الخطاب، فيذكر أن خراج أرض السواد (ما بين نهري دجلة والفرات) قُدر بـ80 مليون درهم، وتصالح أهل مصر على 140 مليون درهم. وتمتلئ الكتب التاريخية بأرقام مشابهة لأراضي الشام، وأفريقية، وفارس، وغيرها.اختلاف توزيع الثروة بين الخلفاء
حكم مفهوم الغنيمة توزيع الثروة المكتسبة بصفة مباشرة من التوسعات العسكرية، فكانت تُقسم الغنائم خمسة أسهم، أربعة منها للمقاتلين، وواحد منها للمركز في المدينة المنورة، وكان للمركز نصيب من الخراج. ويقول الباحث في التاريخ حسن حافظ لرصيف22: كانت سياسة أبي بكر توزيع ما يرد إليه من المال، إلا أنه لم يكن مالاً كبيراً مقارنة بما صار عليه الأمر بعده. وفي عهد عمر حين كثرت مداخيل بيت المال من الفتوح الكبيرة، أوجد الدواوين وفرض للناس أعطيات سنوية بدلاً من توزيع ما يرد إليه مباشرة. ويقدم الجابري توضيحاً لكيفية ترتيب أهل المدينة في الدواوين فيقول: كان مفهوم العدل في المجتمع العربي هو إنزال الناس منازلهم، وكانت المنازل تحدد بالقبيلة قبل الإسلام، ورأى عمر إنه إذا أاتبعت طريقة القرابة من النبي بصفته زعيم الأمة ومركزها، فسيؤدي ذلك لحصول أعداء الدعوة القدامى من أقربائه على نصيب أكبر من أغلب الصحابة غير ذوي القربى. ولحل هذه المشكلة، وضع عمر مقياس منازل الناس على أساس القرابة من الرسول (القبيلة)، وعلى أساس السابقة في الإسلام (العقيدة)، وفق الجابري. ويعلّق حسن حافظ على الأمر بقوله: وضع عمر أسس القبيلة الإسلامية بدلاً من القبيلة العربية، فجاءت المنازل الأعلى لكبار الصحابة وأهل بيت النبي، ثم نزولاً لباقي المسلمين حسب سنوات إسلامهم، وتضحياتهم في سبيل الدعوة، فترتب على ذلك وضع تميّز فيه الصحابة، وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة، فكان ذلك أحد عوامل تكوين ثروات ضخمة لعدد كبير منهم. وما أن وُلّي عثمان حتى تصرف في مال المسلمين كأنه ماله، وراح يخص أقاربه بالعطاء، وانتهج نهجاً يشجع على تنمية الثروات، وزاد في أعطيات البعض، حسبما يقول حافظ.الامتيازات وتكوين ثروات الصحابة
كوّن الصحابة ثرواتهم من عدة مصادر، أولها نصيب المقاتلين منهم من غنائم الحروب، ثم الأعطيات التي فُرضت لهم، والتي منحت امتيازات للصحابة على مَن سواهم. ويقول الجابري: إن ترتيب الناس في العطاء حسب القرابة من الرسول والسابقة في الإسلام كان لا بد أن يؤدي إلى تكديس الثروة في أيدي مجموعة معينة، وبالتالي كان لا بد أن يُورث فوارق كبيرة بين المسلمين في الثروة. وظهرت ثروات ضخمة للعديد من الصحابة. وتضخّمت ثروات مَن كانوا أغنياء بشكل كبير جداً، وكانت مصادر هذا التضخّم حصولهم على أماكن مميزة في أراضي الفتوح، ونسبة أكبر في الغنائم، وأسهم في بيت المال، يقول حسن حافظ. بجانب ذلك، أوجد عثمان نوعاً من الامتيازات عن طريق المنح والهبات والقروض لأشخاص بعينهم، منها منح 100 ألف درهم للصحابي زيد بن ثابت، ومثلها لأفراد أسرته، وفق كتاب هشام جعيط "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر". وتكوّنت ثروات ضخمة لا يمكن تفسير مصدرها إلا بقروض أو تسهيلات بيت المال، يوضح جعيط.تحفل المرويات التاريخية بذكر ثراء الصحابة، وحددت أرقام ثروات بعضهم ولم تحدد حجم ثروات أغلبهم، وكان لهذه الثروات دور سياسي في صدر الإسلام، خاصةً في فترة خلافة عثمان
لعبت ثروات الصحابة دوراً ضد علي بن أبي طالب، أكان من خلال مخاصمة الأثرياء له أو من خلال اعتزال آخرين الصراع حفاظاً على مكتسباتهمويشرح حافظ أن سياسة عثمان الاقتصادية أدت إلى تكديس الثروة في أيدي قلة قليلة، فقد منح حرية الخروج من المدينة للصحابة، وكان عمر قد منعهم من الإقامة الدائمة خارجها خشية أن يكوّنوا مراكز قوى، أو أن يستغلوا مكانتهم في الحصول على امتيازات اقتصادية، وهو ما حدث. وجاء إجراء السماح بتبديل الممتلكات، وهو أن يستبدل مَن له أرض بالعراق أو الشام نصيبه بأرض في الجزيرة العربية، وذلك بعد أن خشي الناس من الاضطرابات في المناطق الجديدة، ليؤدي إلى تكديس الثروات في يد شيوخ القبائل، واستفاد أشخاص مثل الزبير وطلحة من إجراءات عثمان، يتابع حافظ. مصدر آخر لثروات الصحابة هو تحقيقهم أموالاً طائلة جراء تكسبهم من المناصب التي تولوها. ويكشف إجراء كان متبعاً من قبل عمر بن الخطاب عن وجود شبهات تربّح كبرى قام بها بعض الصحابة. يقول الجابري: اتخذ عمر بن الخطاب إجراءات في حياته لمعالجة ظاهرة تكدس الثروات، منها منع كبار المهاجرين من مغادرة المدينة إلا بأجل، ومشاطرة عماله الذين يظهر عليهم الثراء الكبير، ممن هو غير معهود فيهم، مثل مشاطرته أموال سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن.
الدور السياسي لثروات الصحابة
يقول الباحث حسن حافظ: من المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي أن ثروات الصحابة كان لها دور سياسي في صدر الإسلام في فترة خلافة عثمان. وظهر أول دور لهذه الثروات في عمل مجلس الشورى الذي اختاره عمر، والذي ضم ستة صحابة هم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكلهم من قريش وأغنياء عدا علي. ويفسر الجابري في كتابه المذكور اختيار عثمان بعدة أسباب منها أن سياسة علي المتشددة تجاه تنمية الأموال والتقشف والمحاسبة الدقيقة جعلت هناك نفوراً منه في مجتمع الصحابة وقادة الجند الذين شاورهم بن عوف في أمر اختيار الخليفة. وحين تولى عثمان الحكم، انتعشت آمال الزبير وطلحة في الحكم، فاستخدموا ثراءهما كقوة. ويقول جعيط: لم تمض سنة من إمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالاً في الأمصار، وعلى رأسهم طلحة والزبير، وانقطع إليهم الناس، وثبتوا سبع سنين كل قوم يحبون أن يلي صاحبهم، فاستطالوا عمر عثمان. وكان هوى أهل البصرة مع طلحة، وأهل الكوفة مع الزبير، ولم يكن ذلك عن مبدأ أو عقيدة بل طمعاً في المال، ويؤكد ذلك أن نفراً من أصحاب طلحة حاصروا بيت عثمان، فوزع علي بن أبي طالب عليهم مالاً من بيت المال فتفرقوا عن طلحة، وفق مرجع جعيط. وبعد مقتل عثمان، فرض الثوار في المدينة علياً خليفة، وبايعه كل من طلحة والزبير. ويبيّن حسن حافظ أن طلحة والزبير احتفظا بمسافة عن علي، وطالبا بوجود سياسي لهم في الحكم، يمكّنهما من حماية مصالحهم الاقتصادية، ومكتسباتهما التي تحققت في عهد عثمان. ولم يقبل الأثرياء بخلافة علي، خشية سياسته المالية، ويقول الجابري: كان طبيعياً إذن أن يقوم ضده أصحاب الأموال وأن لا يتحمس لقضيته مَن كانت تدفعه الرغبة في الحصول على الغنيمة، وهكذا تذكر المصادر أن الذين قاموا بتمويل كل من الزبير وطلحة هما من أثرياء قريش، وعلى رأسهم الصحابي يعلى بن منية عامل عثمان على اليمن، وعبد الله بن عامر من أقارب عثمان وكان والي البصرة. وكانت حرب طلحة والزبير باسم دم عثمان مفارقة، إذ أنهما كانا محرضين على الثورة على عثمان، وفق الجابري. ولعب الثروات دوراً ضد علي بشكل آخر، وهو اعتزال الصراع حفاظاً على المكتسبات. يذكر حسن حافظ أن سعد بن أبي وقاص خذل علي باسم الاعتزال، وإن كان الأمر في حقيقته مراعاة لمصالحه الاقتصادية مع الارستقراطية القرشية التي تناوئ علياً. ولاحقاً لعبت أموال الصحابي عبد الله بن عباس دوراً في إنشاء دولة أحفادة العباسيين، وهي أموال تكوّنت من استيلائه على بيت المال، وهدايا معاوية، يقول حسن حافظ.نماذج من ثروات الصحابة
يورد هشام جعيط في كتابه أرقاماً توضح الاختلال الطبقي في مجتمع عصر الخلفاء الراشدين. يذكر أن الحد الأدنى للعطاء في الأمصار بلغ 200 درهم، والحد الأقصى 3000 درهم، مقابل تمركز الثروة في مركز الخلافة بالمدينة، وهو الوضع الذي سيساهم بشكل كبير في أحداث الحرب الأهلية الإسلامية التي بدأت بمقتل عثمان بن عفان. وفي ما يلي عرض لنماذج من أثرياء الصحابة وفق مرجع "كتاب الطبقات الكبير" لابن سعد، ومرجعي الجابري وجعيط اللذين اعتمدا على كتب متنوعة من التاريخ الإسلامي.عثمان بن عفان
يوضح الجابري مصدر ثراء عثمان قائلاً: ما أن ولي عثمان حتى تصرف في مال المسلمين كأنه ماله، وخص أقاربه بالعطاء.وترك عند وفاته نقوداً بلغت 150 ألف دينار، ومليون درهم، بالإضافة إلى أملاك في وادي القرى وحنين وغيرها بقيمة 100 ألف دينار، وغير ذلك من الدور والخيول والجمال.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياميخلقون الحاجة ثم يساعدون لتلبيتها فتبدأ دائرة التبعية
Line Itani -
منذ 6 أيامشو مهم نقرا هيك قصص تلغي قيادات المجتمع ـ وكأن فيه يفوت الأوان عالحب
jessika valentine -
منذ اسبوعينSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع