بالرغم من حالة الفقر التي تسيطر عليها، وبالرغم من أن معظم سكانها هم من المزارعين الريفيين الذين اختبروا أقسى أنواع الجفاف وأشده دماراً في أبريل 2018، فإن قرية البو ناهض في محافظة الديوانية في جنوب العراق تحوّلت إلى قريةٍ "نموذجية" بفضل إرادة سكانها وحرصهم على إنشاء بعض القوانين الحياتية والبيئية والثقافية.
من منع التدخين والتشجيع على ركوب الدراجات والرياضة حتى تعميم الثقافة، إليكم قواعد العيش في قرية البو ناهض.
التمرد على الوضع المأسوي
من يزور محافظة الديوانية يلاحظ أنها من أكثر المناطق فقراً في البلاد، فهذه المحافظة التي تقع في جنوب العراق ترزح تحت عبء الفوضى، سواء كان ذلك نتيجة القمامة التي تغطي شوارع المدينة أو جرّاء أبواق السيارات التي لا تنتهي. وفي خضم هذا الوضع المأسوي، تحاول قرية البو ناهض التي تبعد حوالي 30 كلم عن محافظة الديوانية، الانتفاضة على هذا التلوث السمعي والبصري من خلال خلق فكرةٍ جديدةٍ لما يمكن أن يبدو عليه العراق. من هنا قام موقع Middle East Eye البريطاني بإعداد تقريرٍ عن هذه القرية "التقدمية" وسعي سكانها للالتزام بتطبيق قواعد معيّنة بغية الحفاظ على صحتهم الجسدية والنفسية والعيش بشكلٍ أفضلٍ.خطوط حمراء
عند مدخل القرية توجد لافتتان، واحدةٌ مكتوبةٌ باللغة الإنجليزية والأخرى بالعربية، تحددان عدداً من القواعد التي يجب مراعاتها في القرية:المركز الثقافي خصص يومين في الأسبوع للنساء فقط، إذ يمكنهن أن يأتين للترفيه وتطوير خططهن الثقافية والمبدعة، للحد من التمييز في المجتمع.
قرية البو ناهض تقدم مخططاً محتملاً لكيفية بدء العراق بإعادة بناء نفسه وإنشاء مجتمعاتٍ أكثر انفتاحاً وصحةً.بعد أن وصلت نسبة البدانة من الذكور في العراق إلى 30.4%، أقدمت قرية البوناهض على حظر المشروبات الغازية لكونها تحتوي على نسبةٍ كبيرةٍ من السكر، ومن أجل تشجيع السكان على الرياضة، قررت القرية استضافة مهرجان سنوي للركض يجذب آلاف المشاركين. واللافت أن البيئة تحظى باهتمامٍ كبيرٍ لدى سكان القرية، ففي بلد مثل العراق يشكل فيه النفط قلب الاقتصاد والسياسة، تحتفل قرية البو ناهض باليوم العالمي للبيئة في 5 يونيو، وتقوم باطلاق مبادراتٍ صديقةٍ للبيئة عن طريق التشجيع على جعل الدراجات الوسيلة المفضلة للتنقل عوضاً عن السيارات، بعد ارتفاع سعر النفط.
ماذا لو تم خرق القواعد؟
صحيح أن اللافتات التي تحظر استخدام أبواق السيارات والتدخين تنتشر في مختلف أنحاء القرية، إلا إنه لا يوجد أي تطبيق "استبدادي" للحظر، بل التزام روحي وإنساني لأن خرق القواعد قد يثير نقمة بقية سكان القرية الذين أيدوا التغييرات بحماسة. وفي هذا الشأن أعرب علي غانم، أحد سكان القرية البالغ عددهم 750 عن تأييده لمثل هذه المبادرات: "معجبٌ حقاً بالأشياء الجديدة التي تجري في هذه القرية... شعرنا أنّ الرياضة كانت جيدة لنا، فأقمنا بطولة للركض 200 متر. ثُمَّ غيَّرنا أشياء أخرى، ومنعنا المشروبات الغازية والتدخين".هوية صاحب المبادرات
إن العقل المدبّر الذي يقف وراء مبادرات قرية البو ناهض هو المهندس "كاظم حسون" (47 عاماً)، الذي، استلهم من سفره إلى أوروبا والشرق الأوسط، بعض الأفكار الجديدة بشأن الصحة والاتجاهات الاجتماعية والبيئية، وقرر تنفيذ عددٍ من المشاريع في قريته. فبعد مكوثه في دبي لـ18 عاماً، عاد "حسون" في العام 2014 وحاول الحفاظ على نظام لياقةٍ بدنيةٍ يركز فيه بشكلٍ خاص على الركض، الأمر الذي أثار ارتياب السكان الآخرين، على حدّ قوله: "كان الجميع ينظر إليّ وكأنني شخص غريب"، مضيفاً أن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في الرياضة. فقد واصل المهندس ارتداء الملابس الرياضية وحذاء الركض وممارسة روتينه اليومي الذي يرتكز على الركض حول المناظر الطبيعية الريفية. واللافت أن حماسة "حسون" للرياضة قد انسحبت على عددٍ كبيرٍ من الناس الذين إنضموا إليه:"بعد شهرٍ واحد، إنضم إليّ بعض الأشخاص. وبعد شهرين، راح 5 أشخاص يركضون معي. وبصراحة، بعد 6 أشهر كان معظم الناس هنا يركضون معي –خاصة المراهقين". وعندما ازداد عدد الأشخاص الذين يمارسون رياضة الركض، خرج المشاركون بفكرة إقامة "مهرجان" سنوي للركض، لا يقتصر فقط على أبناء البلدة، بل يقصده الناس من خارج القرية للمشاركة في الحدث. وأشار "حسون" إلى أن هناك 3 آلاف شخص يحضرون المهرجان بانتظام. والجدير بالذكر أن النجاح المفاجئ الذي حصده المهرجان، من خلال جذب إهتمام وسائل الإعلام، ألهم "حسون" لخلق المزيد من المشاريع التي تهدف إلى معالجة ما اعتبره عللاً إجتماعيةٍ مختلفةٍ تصيب قريته، والعراق كله.البيت الثقافي
في مبنى صغير قرب النهر، يوجد البيت الثقافي، وفي داخله رفوف من الكتب التي تتناول مجموعة واسعة من الموضوعات، بالإضافة إلى مواد إبداعية خاصة بالرسم وبالحرف اليدوية. وعن هذا المكان، قال حسون: "قمت بتأسيس البيت الثقافي ومن ثم أنشأت مكتبة، وقد ساعدني الكثير من الناس من داخل وخارج البلاد حتى من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية والسويد بإرسال الكتب، مضيفاً أن معظم البيوت الثقافية في بغداد أرسلت بدورها الكتب. واللافت أن البيت الثقافي يضم أيضاً أعمالاً فنية من صنع أطفال محليين، إذ قدم فنان من بغداد مؤخراً لمساعدة الأطفال على إنتاج لوحةٍ تحتفي بدور منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف". كما تزيّن الحائط صور تعود لبعض داعمي قرية البو ناهض، بما في ذلك الكاتبة البريطانية-العراقية إميلي بورتر، التي قدّمت الدعم المالي لمبادرات القرية.النساء والطائفية
هناك قضيتان يعتبرهما "كاظم حسون" رئيسيتين في بناء مجتمعه المثالي: الطائفية وتهميش النساء. وفي هذا الصدد قال: "في هذه المنطقة (الشرق الأوسط) أعتقد أنَّ القضايا الرئيسية التي نتقاتل عليها هي بسبب الدين"، موضحاً أن جميع المشاكل الكبرى التي تصيب المنطقة غالباً ما يتم تداولها من منظور ديني. وبالتالي فإن شغل "حسون" الشاغل هو كيفية فصل الدين عن الأمور الحياتية التي تجري في القرية:"بعض الناس يقولون لي إنَّني أتحدث ضد الدين، وأنا أقول لهم لا. فأنا لست ضد الدين، بل أحاول حماية دينكم... إن كنتم تريدون الحديث حول الدين، إذهبوا أولاً إلى البيت الثقافي، وخذوا أي كتابٍ يتمحور حول الدين واقرأوه. ثُمَّ تعالوا وناقشوا المسألة". أما في ما يتعلق بقضية المرأة، فقد كشف أن النضال كان أكثر صعوبةً، نظراً إلى "عقلية" الأشخاص الذين يعيشون في قرى جنوب العراق. وعن كيفية إشراك المرأة في الحياة الثقافية، يوضح المهندس العراقي أن المركز الثقافي خصص يومين في الأسبوع للنساء فقط، إذ يمكنهن أن يأتين للترفيه وتطوير خططهن الثقافية والمبدعة، للحد من التمييز في المجتمع. كما تحصل النساء في القرية على المحاضرات والزيارات المنتظمة من قبل العاملين في منظماتٍ غير حكومية، وغالباً ما تكون المسائل متعلقة بالقضايا الاجتماعية والطبية والنفسية. وبالمقارنة مع القرى الأخرى، فإنَّ الفصل الصارم بين الجنسين في الكثير من مجالات الحياة يتضاءل، إذ يوضح "حسون" أن النساء في قرية البو ناهض يدخلن إلى قاعة القرية، وهو أمر لا يمكن رؤيته في المجتمعات الأخرى، بحيث تكون هذه الأماكن حكراً على الرجال: "لكننا كسرنا هذه المسألة. وقلنا: لا يوجد فرق بينك وبينها. إنَّها تعيش تماماً كما تعيش أنت"، مضيفاً أن هذه المسألة لا تزال بحاجة إلى بعض الوقت. الجدير بالذكر أن نجاح وشهرة قرية البو ناهض قد شجعا القرى والمدن الأخرى على المجيء والتعلُّم من مبادراتها، خاصة أنه مع إنحسار الحرب والعنف، أصبحت العقول العراقية تلتفت إلى العديد من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي تصيب بلادها. ويعتبر "حسون" أن قرية البو ناهض تقدم مخططاً محتملاً لكيفية بدء العراق بإعادة بناء نفسه وإنشاء مجتمعاتٍ أكثر انفتاحاً وصحةً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...