يجلسون لاحتساء شاي أو قهوة أو مشروب بارد، في الطريق يرمقون "الرايح و الجاي"، و يجتمعون من أجل حديث يومي عن تفاصيل الحياة من الشغل إلى البيت إلى جزئيات قد تبدو تافهة.
في بعض الحالات قد يتقاسمون إبريق شاي "مْشَحَر"(شاي مائل للون البني أو الأسود) و يحومون حوله بالثلاثة أو الأربعة من أجل نقاش معتاد عن السياسة وأخبار الحروب بشكل قد يكون "سطحياً" دون معرفة بواطن الأمور.
في أغلب الحالات، قد ينفرون من السياسة ووجعها ومكرها إلى متابعة كرة القدم بشكل شبه يومي، مباراة تتبعها مباراة بدون كلل ولا ملل. هكذا تبدو جلسات معظم مقاهي المغرب الراهنة بعد تناسلها لتصل لأزيد من 200 ألف في المدن الكبرى وفي القرى و البلدات.
لكن ما يلاحظ في هذه الأماكن هو قلة حضور بروفايل "المثقف"، الذي -عملياً ونظرياً- يصعب تصنيفه أو قولبته أو تنميطه في شكل معين، إذ قد يكون جالساً هادئاً متأملاً على كرسيه يعانق بحواسه كتابه ويكتب على مفكرته عصارة أفكاره وأحياناً يجتمع مع أصدقائه أو رفاقه من أجل نقاش فكري أو ثقافي أو حتى عرض قصيدة أو مقالات.
وتارة أخرى يجلس على طبيعته ويذوب مع عشاق كرة القدم والنميمة السياسية والأحاديث اليومية، فهل غاب بروفايل "المثقف" عن مقاهي المغرب؟ هل ذاب وسط حشود مشجعي كرة القدم؟ وهل صارت مقاهي المغرب على كثرتها نمطية ومخصصة لفئة معينة دون غيرها؟
بحثاً عن التركيز والترويح
في ركن قَصِيٍّ في المقهى، يجلس كريم كعادته حاملاً كتاباً أو جريدة، يرشف القهوة السوداء "نص-نص"(سوداء)، هذه الأخيرة تمنحه جرعات من التركيز في الكتابة. أحياناً قد يشعر كريم بأن المقهى يضيق به من نظرات الناس الغريبة أو قد يختلسون السمع بسبب ما يناقشه مع أصدقائه عن الفكر والسياسة والثقافة وحتى التابوهات. "في معظم المقاهي، أجد نفسي وكأني مراقب بالسمع والنظر، وقد يكون هناك فضول من الآخرين مما أقوله"، يقول كريم لرصيف22."في معظم المقاهي، أجد نفسي وكأني مراقب بالسمع والنظر، وقد يكون هناك فضول من الآخرين مما أقوله"
"لأني إنسان قبل كل شيء، أقرأ، أكتب، أتأمل، أفكر، وأيضاً أستمتع بما يُرَوِّحُ نفسي، ومشاهدة كرة القدم هي كمتنفس لمشاركة الانفعالات المنفلتة"ويضيف: "لا آتي هنا لألقي المحاضرات، بل لأناقش أفكاري وألتقي بأصدقائي، والأهم من ذلك لأُرَوِّحَ عن نفسي". "المثقف يأتي للمقهى ليس من أجل إلقاء محاضرة أو ندوات" يقول مصطفى شكدالي، أستاذ علم النفس الاجتماعي. ويضيف: "المقهى هو مكان يسمح فقط للمثقف للالتقاء بأصدقائه لتبادل الآراء، ولا أعتقد بأن له دوراً تأطيرياً في هذا المكان، بمعنى لم تكن المقاهي التي تكتسح شوارع المغرب فضاء لتنزيل برامج أو مشاريع ثقافية، وهذا نراه محصوراً فقط في المقاهي الفئوية كالصالونات الثقافية والأدبية".
هل ذاب "المثقف" وسط مشجعي الكرة؟
قد تبدو جلسة كريم في نظر البعض لا تناسب ديكور المقهى وهو لا يأبه بمشاهدة كرة القدم ومشاداتها ونقاشاتها وحماستها، لكنه في الأخير يستمتع بالبصبصة التي قد تمنحه القدرة على تحليل سلوكيات وانفعالات المرتادين والتأمل في الشخوص التي تمضي أمامه وهو جالس من خلف. يقول: "جلستي في ركني القصي في المقهى تعطيني القدرة على تأمل كل شيء، التفاصيل، الانفعالات، الكلام و أشياءً أخرى. حتى إن غاب التركيز بسبب ضجيج مشجعي كرة القدم، فإني على الأقل أستمتع بمتابعتهم". ويقول شكدالي: "حينما نتحدث عن المثقف المشغول بقضايا الناس فإنه مفروض عليه أن يذهب إلى أي مكان وجد فيه هؤلاء الناس". ويكمل: "المثقف الذي يناقش الأفكار يناقشها انطلاقاً من انفعالات المثقف الذي يلتزم بقضايا الناس ربما كفضاء ليطلع على تفاصيل إنسانية". ويرى الكاتب والروائي عبد العزيز الراشيدي أن الاحساس بالعزلة كامن في المقهى رغم ضجيج مشجعي كرة القدم. ويقول الراشيدي :"إذا كُنتَ تجلس داخل مقهى، وفي الخارج تلفاز ومباراة كرة ومشجعون، فإن إحساسك بالعزلة رغم التوحّد مع الأصوات قائم ومُمكن ومطلوب. تأتيك الأصوات والهتافات وتعليق المذيع دون أن تكون مجبراً على الانخراط في أي شيء". ويسرد الراشيدي فكرة ما سماها بـ"الشكل الديمقراطي" الذي خلقه المقهى، وهو "أن تحفظ الخارج لأهل الكرة، وتحفظ الداخل للعُشّاق وأهل الكتاب. هكذا، يفيضُ صراخ المشجعين المبهورين بفتنة الكرة، بينما يُخبئ العشاق والقراء فِتنتهُم من العيون المتلصّصة. وبقفزة واحدة تفهم حال البلد وما يريد: إذا كنتَ من أصحاب الجوقة فعبّر عن مُرادك في الهواء الطلق دون حذر، أما إذا كنتَ عاشقاً أو قارئاً فترقب شرّ النظر إلى وجهك العزيز". وبخلاف كريم و الراشيدي، لا يجد سمير (مدرس وباحث) غضاضة في متابعة كرة القدم بحماسة وإن كانت طفولية، فهو يرى أن خلفيته الفكرية لن تمنعه من الذوبان وسط حشود كرة القدم. يقول: "لأني إنسان قبل كل شيء، أقرأ، أكتب، أتأمل، أفكر، وأيضاً أستمتع بما يريح و يُرَوِّحُ نفسي، ومشاهدة كرة القدم هي بمثابة متنفس لمشاركة الانفعالات المنفلتة والصاخبة". بالنسبة لأستاذ علم النفس الاجتماعي مصطفى شكدالي فإن ما يهمه ليس كرة القدم ، ولكن ماذا تحمله في خطابات الآخرين في المقهى. يقول: "الحديث الذي يكون حول كرة القدم هو حديث تعويضي بقدر ما هو حديث عن اخفاقات معينة حينما يتباهى فريق معين ويقوم بمماثلته ومساندته هو في الواقع يعبر عن أشياء يفتقدها لأنها افراز سيكولوجي لأشياء أخرى".المقهى كخشبة مسرح
يلاحظ بأن مقاهي المغرب تعج بمرتادين من فئات تمارس سلوكيات وممارسات نمطية كمتابعة كرة القدم، ومناقشة الأحاديث اليومية وتبادل الآراء في السياسة بشكل قد يراه البعض "سطحياً". فهل صارت مقاهي المغرب نمطية وفئوية؟ بالنسبة إلى شكدالي، فإن المقهى بمثابة خشبة مسرح "تحضر فيه أدواراً متعددة، فهو فضاء للقاء، للنقاش، للترويح والترفيه، وهو قبل كل شيء مكان للتفريغ، فمثلاً لا نلجأ للمقهى بحد ذاته بقدر ما نلجأ لمرحاضه بحكم نذرته وغيابه أحياناً في الأماكن العمومية". بيد أن مقاهي المغرب تمتاز بنوع من الفئوية كحضور مقاهٍ مخصصة للشباب، أو للعشاق بشكل غير علني، وأخرى مخصصة لفئات معينة كالموظفين الحكوميين أو المدرسين، أو قد تكون ملتقى للمهنيين والمزاولين للأعمال الحرة، وهناك أيضاً مقاهٍ ثقافية في كل مدينة. وما يلفت النظر في هذه النوعية من المقاهي هو الأسماء والتسميات وموقعها وديكورها وتفاصيلها الشكلية التي قد تختلف من مقهى لآخر وهي تعبر عن نوع من التراتبية والطبقية. في العاصمة الرباط، وعلى طول شارع محمد الخامس، تجدون مقاهي نخبوية، يلتقي فيها كتاب ومثقفون وصحفيون وإعلاميون، وأبرزها مقهى "باليما". الأجواء هنا تختلف عما هو موجود في المقاهي السائدة في البلد، نقاش فكري، سياسي وآخر أدبي وثقافي، لكن هذا لا يمنع من حضور حديث مثقل بالمشاكل الإنسانية المكررة. وكما أن هناك من يرتاد هذه النوعية من المقاهي بغية الانتماء للمكان، هناك أيضاً من يرتادها بغرض التباهي بالبذخ. في هذه النقطة يشرح شكدالي:،"هناك مقاهٍ فيها نوع من التراتبية الاجتماعية تعكسها من خلال التسميات مثلاً. حتى الغاية من الجلوس في مقهى محدد دون غيره من المقاهي يعبر عن التباهي واستعراض البذخ بشكل أو بآخر". وأضاف : "هناك مقاهٍ فيها نوع من التراتبية الاجتماعية وتعكسها من خلال التسميات مثلاً". وكمثال على ذلك فالمقاهي الباذخة توظف أسماء في معظمها مستوحاة من اللغات اللاتينية مثل "كاليبو"، "جويصانس" وحتى مفردات من اللغة العربية "أريج"، "سلوى"،"آوان". والتسميات تختلف حسب موقع المقهى، فإن كان بجوار الساحل مثلاً، فالتسمية في الأعم تكون مستوحاة من معجم بلدان الساحل الموجودة في أمريكا اللاتينية مثل "سامانتا "، "ديليسيا" "لاسيندا" وإن كان غرضها ربحياً فقد تلعب على التسميات السائدة البسيطة والمتداولة لدى العامة. ويرى شكدالي أن المقهى "أصبح يعرف نوعاً من الهجرة إليه بمعنى يهاجر المغاربة بيوتهم التي تضيق بهم، إذ طرأت تحولات على مستوى السكن وأصبحت المقاهي تقوم بدور ترفيهي ترويحي". "فحينما نلتقي بصديق لا نطلب عنوان بيته بل نطلب منه عنوان المقهى الذي يرتاده"، يختم شكدالي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...