شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
السان سيمونيون... حالمون لفظتهم فرنسا فاتجهوا إلى تحديث مصر في زمن الباشا

السان سيمونيون... حالمون لفظتهم فرنسا فاتجهوا إلى تحديث مصر في زمن الباشا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 27 يونيو 201802:19 م
بينما كانت الحرك السان سيمونية تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة في فرنسا، قرر الأب بارتيليمي بروسبير أنفونتان الرحيل مع عدد من أتباع فكرته إلى مصر لتحقيق حلمهم بحفر قناة السويس وبإرساء أفكار كثيرة. وتُنسَب السان سيمونية، وهي حركة سياسية واجتماعية واقتصادية، إلى كلود هنري دو روفروا (1670 – 1825) الذي لُقّب بسان سيمون نسبة إلى مقاطعة سان سيمون التي كان يعيش فيها. ويذكر أستاذ التاريخ الحديث في جامعة حلوان حمادة جمال ناجي لرصيف22 أن دو روفروا كان من النبلاء، إلا أنه شارك في الثورة الفرنسية (1789 – 1799) وتخلى عن نبالته، وفي ما بعد تحوّل إلى مفكر ومناضل، بعد أن رأى أن مكتسبات الثورة في طريقها إلى الاندثار. وبحسب ناجي، كان سان سيمون يرى أن الصناعة هي أساس بناء المجتمع، وكان ينادي بتحقيق المساواة بين المرأة والرجل ودفع عجلة التعليم. جذبت أفكار سان سيمون عدداً كبيراً من المهندسين والأطباء والصُناع والعمال والفلاحين إضافة إلى الكتاب الذين راحوا ينشرونها على صفحات الجرائد، ما ساهم في استقطاب الكثيرين من المريدين الذين سُمّوا بـ"السان سيمونيين"، يروي ناجي.

السان سيمونيون إلى مصر

فشل السان سيمونيون في تحقيق أهدافهم في بلدهم فاتجهوا إلى مصر. ويذكر أستاذ التاريخ الحديث محمد عفيفي لرصيف22 أن هؤلاء الفرنسيين جاءوا مدفوعين برغبتهم في فعل شيء يساهمون به في تجربة التحديث الجذابة التي كانت تمر بها مصر آنذاك، خاصة أن محمد علي باشا كان يرحب بأي شخص يمكنه خدمة بلده. ومثّل ارتباط مصر، في العقلية الأوروبية والفرنسية على وجه الخصوص، بالتاريخ الفرعوني العريق، في تلك الفترة، عامل جذب للسان سيمونيين لا يمكن إغفاله، بحسب عفيفي. ويذكر جان ماري كاريه في كتابه "رحالة وأدباء فرنسيون في مصر" (ترجمة سونيا نجا ورشا صالح) أن السان سيمونيين ارتحلوا بقيادة أنفونتان، حامل راية سان سيمون بعد وفاة الأخير، إلى الشرق يحدوهم أمل لا حدود له، مرتدين زياً موحّداً مكوّناً من سروال أبيض بلون الحب، وصديرية حمراء بلون العمل، وقميص ذي ياقة مرتفعة من اللون الأزرق المائل إلى البنفسجي، وهو لون الإيمان. "وبدون أن يضيع وقتاً، وفور وصوله إلى الإسكندرية في 23 أكتوبر 1833، اتجه الأب أنفونتان إلى القاهرة مع أفضل مهندسيه شارل لومبير وهنري فورنيل وقدمهم القنصل العام الفرنسي جان فرانسوا ميمو إلى محمد علي باشا"، يروي كاريه. ويذكر مدير المركز القومي للترجمة وأحد المشاركين في ترجمة كتاب "السان سيمونيون في مصر" الدكتور أنور مغيث لرصيف22 أن الفرنسيين عرضوا على الوالي ثلاثة مشاريع: الأول مد خط سكة حديد بين القاهرة وأسوان وآخر بين القاهرة والإسكندرية؛ والثاني إقامة القناطر الخيرية على النيل؛ والثالث شق قناة السويس. اقتنع محمد علي بمشروع القناطر الخيرية وأمر بالبدء فيه فوراً، بينما رفض مشروع قناة السويس حتى لا يثير شهوة الدول الاستعمارية وتتحول مصر إلى مطمع للدول الكبرى، ووافق على مشروع خطي السكك الحديدية لكنه عهد به إلى مهندسين إنكليز حتى لا يستأثر الفرنسيون بكل المشاريع الكبرى، بحسب مغيث. حاول السان سيمونيون إقناع الباشا بالبدء بحفر قناة السويس باعتبارها حلماً من أحلامهم لكن دون جدوى. ويفسر مغيث هذا الإصرار السان سيموني بأن فلسفتهم تقوم على أن العداوات بين الدول سببها سوء الفهم بين الشعوب وعدم الاتصال في ما بينها، وأن حل هذه المشاكل لن يتحقق إلا بشيئين هما الإنتاج الصناعي ووسائل المواصلات. ومن ثم كانوا يعتبرون أن قناة السويس ستصل بين شرق العالم وغربه وستقضي على جزء كبير من الخلافات الدولية. ومن الواضح أن محمد على كان متوجساً من السان سيمونيين في البداية. يذكر ناجي أن المقربين منه ألمحوا له بأن هؤلاء الفرنسيين جاءوا لنشر أفكارهم بين المصريين وتحقيق سيطرتهم على الدولة، ودلل على توجّس الباشا منهم بأنه لم يعيّنهم في المصالح والدواوين الحكومية كموظفين، وإنما استفاد منهم في مشروعات مقابل أجور كانوا يتحصلون عليها.

بطن البقرة

رغم ذلك، استقدم أنفونتان من فرنسا مهندسين آخرين. وفي 18 مايو 1834 بدأ العمل في سد النيل في مكان يطلق عليه "بطن البقرة"، أي منطقة تقاطع فرعي النهر. "عسكر السان سيمونيون في خيمة بالموقع نفسه وأجروا تعديلاً على زيهم ليصبح أقرب إلى اللباس الشرقي، وباشر أنفونتان عمله في كل الأركان محدداً لكل فرد موقعه، وبدأت آثار خيبة الأمل في التلاشي"، ذكر كاريه. سليمان باشا ولتقريب المهندسين الفرنسيين من الواقع المحيط بهم، وبمساعدة من سليمان باشا الفرنساوي الذي استعان به محمد علي لتطوير الجيش المصري، أقام أنفونتان في موقع السد مدرسة للهندسة المدنية. "وبناء على طلب سليمان باشا الذي كان قد أصبح عام 1834 مفتشاً عاماً على المدارس المصرية، اشترك أنفونتان مع لومبير في وضع مشروع لإنشاء مجلس أعلى للمعارف العامة تبناه محمد علي، ولجنة استشارية للعلوم والفنون كانت همزة وصل بين معهد مصر القديم الذي أنشأه الفرنسيون أثناء حملتهم على مصر عام 1799 والمعهد المصري الحديث الذي أنشئ لاحقاً"، ذكر كاريه.

أقاويل وريبة وطاعون

ولكن شيئاً فشيئاً، لاحظ أتباع أنفونتان فتور حماس مَن يقومون بحمايتهم رسمياً كمحمد علي والقنصل الفرنسي. وبحسب كاريه، "كانت حياتهم في موقع السد مثاراً للأقاويل والفضائح، فقد جلبوا معهم بين الراهبات السان سيمونيات فتاة ليل من ليون تدعى أوغاريت كوسيدار كانت تجوب الخيام واحدة بعد أخرى ويتبادلها الرجال، ما جعلهم عرضة للانتقاد".
أتى السان سيمونيون إلى مصر في القرن التاسع عشر لتحقيق حلم كبير فشلوا في تحقيقه في فرنسا... ورغم عودتهم إلى بلادهم في ما بعد، إلا أنهم تركوا خلفهم مصريين تأثروا بأفكارهم، مثل رفاعة الطهطاوي
السان سيمونيون في مصر... قدموا من فرنسا حاملين معهم فلسفتهم وعرضوا على محمد علي باشا ثلاثة مشاريع: مد سكة حديد بين القاهرة وأسوان وبين القاهرة والإسكندرية؛ إقامة القناطر الخيرية على النيل؛ وشق قناة السويس
وكان أتباع سان سيمون يرون أن زعيمهم يؤسس لـ"المسيحية الجديدة" لذا احتفظوا ببعض الألقاب الدينية مثل "الأب" و"الأم" وكانوا يطلقون على العضوات لقب الراهبات، باعتبار أنهن وهبن أنفسهن لنشر الفكر السان سيموني. غير أن ناجي يضيف سبباً آخر لهذا الفتور هو تصاعد خوف محمد علي من السان سيمونيين بعد أن بدأ الناس ينسبون أي إنجاز لهم وليس له. وفي نفس الوقت بدأوا يتدخلون في كل شيء ويعرضون وجهات نظرهم في شؤون الإدارة، فتوجس منهم الباشا، خشية أن يكون ذلك ستاراً لتدخل أجنبي في حكمه. بيد أن الفتور أيضاً كان قد أصاب السان سيمونيين أنفسهم. بحسب مغيث، شعروا بأن تعاملهم محدود بالوالي فقط، ولا يصل إلى الشعب الذي جاءوا من أجل النهوض به، فقد كانوا يتمنون إنشاء مسرح، وعرض أفكارهم على الناس في الشوارع وتبادل وجهات النظر معهم. ولسوء الحظ، انتشر الطاعون في يناير 1835، وطال بشدة من كانوا يَعملون في السد، وكذلك أتباع أنفونتان الذين توزعوا في القاهرة. توفي المهندس الزراعي أميدي بوسكو دو دومباسل والمعماري جول لامي والكيميائي شارل غوندريه والنحات فريديريك إلريك والأطباء جوزيف فوركارد وديلون والأديب مارشال والمهندس بيير دوني هورات واحداً بعد الآخر. في تلك الأثناء، انفصل عن أنفونتان أصدقاء كانوا من أوائل مؤيديه، فاعتنق توماس أوربان وجوزيف ماشوروه الإسلام والتزما بتعاليمه وارتديا زيه ما دعا محمد علي إلى القول: "غريب هذا الأمر، حضر السان سيمونيون لصرف المسلمين عن دينهم، وهاهم يعتنقون الإسلام". أصبح ماشوروه "محمد أفندي"، وتزوج سيدة عربية وأنجب منها أربع بنات.

رحيل وبقاء

هذه الأسباب مجتمعةً أدت إلى توقف العمل في السد، ولم يعد ممكناً أن يأمل أحد بشيء، فتفرقت مجموعة أخرى من المريدين. وبحسب كاريه، "أدرك أنفونتان أنه من غير المجدي أن يستمر في المقاومة، ما دعاه للاستجابة إلى طلب صديقة له دعته للسفر إلى فرنسا للراحة، فغادر إلى مرسيليا في 30 أكتوبر 1836". مع ذلك، لم تنقطع صلة السان سيمونيين بمصر بعد عودتهم إلى فرنسا. بحسب ناجي، كتبوا كثيراً في الصحف الفرنسية عن تجربتهم ودعوا رجال المال والأعمال إلى إقامة مشاريع في مصر، وطالبوا بتكوين اتحاد أوروبي لتنفيذ مشروع قناة السويس. أما بعض السيمونيين الذين بقوا في القاهرة فاتفقوا على دعم مكانتهم في مختلف المجالات التي يمارسون فيها أنشطتهم. بقي العلامة شارل لومبير الذي أصبح بك ومديراً لمدرسة الهندسة في بولاق حتى عام 1850، وأكمل مع لينان دي بلفون وموجل بناء سد الدلتا، بينما أحيا لينان دي بلفون ولاحقاً فريناند دي لسبس مشروع قناة السويس حتى افتُتحت عام 1869.

أتباع مصريون

رغم رحيل أنفونتان وأتباعه إلى فرنسا، إلا أنهم تركوا خلفهم مصريين تأثروا بأفكارهم، مثل رفاعة الطهطاوي الذي تكلم عن السان سيمونيين في كتابه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية"، ووصف أعمالهم ومشروعاتهم بـ"العجب العُجاب"، كما ذكرهم أيضاً في كتاب "أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل"، بحسب ناجي. كذلك أشاد علي مبارك بهم وكتب عنهم في "الخطط التوفيقية" واستعرض مشاريعهم. ويذكر فيليب رينييه في كتابه "السان سيمونيون في مصر" (ترجمة أمل الصبان وأنور مغيث وداليا الطوخي) أن لومبير وثّق علاقاته بمَن يمثلون النخب الجديدة من قيادات الدولة آنذاك، والذين كانوا في الغالب من أصل تركي شركسي، أرسلهم محمد علي في بعثات تعليمية إلى الخارج، ولا سيما فرنسا، ليصنع منهم إطاراً لدولته، وعادوا إلى بلدهم في نفس الفترة التي تواجد فيها السان سيمونيون في مصر. ومن بين هؤلاء القائد التركي للبعثة التعليمية الأولى التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا، عام 1826، مصطفى مختار، الذي عُين رئيساً للمجلس الأعلى للتعليم العام بدءاً من ديسمبر عام 1835، ثم أصبح ناظراً لديوان الجهادية في يناير عام 1837. وبحسب رينييه، دعم مختار تجربة التعليم الطبي النسائي الذي اقترحه كلوت بك (الفرنسي الذى استعان به محمد علي لتطوير الطب في مصر)، وعيّن لومبير ناظراً لمدرسة المهندسخانة. وبعد وفاة مختار المبكرة، حمل إبراهيم أدهم بك الراية، وخلفه في رئاسة التعليم العالي في نهاية 1838. "كان أدهم قد أعلن انضمامه منذ عام 1835 للسان سيمونية، وكان شديد القرب والتعلق بالأب أنفونتان، ووصفه بأنه داعية، وقام بتكييف المبادئ السان سيمونية مع الثقافة الإسلامية. ونظراً لعلاقاته الوثيقة بالسان سيمونيين، فقد رحب بجميع أعمالهم الإصلاحية في البلاد، كما أسهم مع رفاعة الطهطاوي في مشروع إصلاح ديوان المدارس الذي توقف وكان يهدف إلى تأسيس مدارس أهلية بدلاً من الأميرية وكذلك إنشاء مكتب الترجمة، واحتفظ حتى عام 1850 بنفوذه القوي في اختيار رجال الدولة وكذلك في التوجيه العام للأشغال العمومية". لكن عباس باشا الأول اتجه فور توليه الحكم عام 1848 إلى تفكيك الفريق الذي كان يعمل مع أدهم، فنحى لومبير عن منصبه، ونفى الطهطاوي إلى السودان، وقلص عدد المدارس، وقصر عمل أدهم على إدارة تسليح الجيش وديوان الأوقاف في أرض الحجاز. وبناء على توصية من أدهم، استعان لومبير قبل تنحيته بثلاثة مصريين للعمل معه في مدرسة المهندسخانة، هم محمد بيومي ومحمد مظهر ومصطفى المراغي، وهؤلاء درسوا في فرنسا وكانوا تلاميذ أوغست كونت، عالم الاجتماع الفرنسي الشهير والذي كان متأثراً بسان سيمون. وبحسب رينييه، أشرف مظهر على إنشاء قناطر النيل بعد إعادة العمل بها عام 1834 وعلى إتمام الإنشاء في عام 1853، وتولى نظارة الأشغال العمومية. أما بيومي الذي كان عضواً في بعثة 1826 التعليمية وشارك في تنفيذ مشروعات عامة كبرى هناك، فقد عُين أستاذاً للهندسة في مدرسة المهندسخانة ببولاق ثم ناظراً لها عام 1840. ويذكر رينييه أن بيومي كان قريباً من جماعة السان سيمونيين لا سيما الإصلاحيين المناضلين بقيادة أدهم بك. وبسبب أفكاره السياسية أصدر عباس باشا عام 1859 مرسوماً بنفيه إلى السودان. وكان عبد الرحمن رشدي أيضاً من بين المصريين الذين تأثروا بالسان سيمونية. بحسب رينييه كان صديقاً حميماً للومبير، وعُين مدرساً بمدرسة بولاق ثم أصبح بعد ذلك نائباً لمدير المدرسة، وكان يتقن العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية، وانضم إلى مجموعة السان سيمونيين الصغيرة التي اختارت أن تعيش في مصر (شارل لومبير وميشيل برونو ونيكولا بيرون وجوزيف ماشوروه). وبحسب مغيث، تأثر الشيخ حسين المرصفي الذي كان مختصاً بوضع مناهج التعليم بالسان سيمونيين بعد أن زاملهم في مجلس التعليم العالي. وفي كتابه "الكلم الثمان في علم الاجتماع"، ظهر تأثره بأفكارهم حول النهضة والصناعة والدولة القومية.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image