شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كيف تمسكنا بالشهوة وتحايلنا على رافضيها؟

كيف تمسكنا بالشهوة وتحايلنا على رافضيها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 20 يونيو 201811:10 ص
النِفس هي لفظة عامية، تعني الروح. ولكن ليست الروح بالمعني الديني. فالنِفس يمكن اختصارها بأنها المشاعر، ولكنها أكثر تعقيدًا من ذلك. فعندما نقول: "نِفسَك حلوة"، قد نعني بها أن الشخص ذو روح مُنفتحة ومُتقبلة لما يُخالفها. وأحيانًا، تُستخدم نفس العبارة للتدليل على أن الشخص لا يتقزز من شيء قد يُسبب التقزز لآخرين. النِفس، نستخدمها بمفردها أحيانًا أخرى لنقول أن شيئًا ما متوفّرًا لكننا لا نرغبه، ببساطة لأن «نِفسنا» لا تتقبله. وبالعكس، قد نقول: "نفسي في كذا"، أي أشتهيه. ويمكننا المقارنة بين عبارة «نِفسي في كذا»، وعبارة «عاوزة كذا»، فالنِفس هنا تُضفي اشتهاءًا مقارنة ب«العَوز» الذي يعبّر عن الاحتياج أو الضرورة أو مجرد الرغبة. وبالكلام عن الشهوة والاشتهاء، لا يمكننا إغفال أن كلمة «شهوة» تم قصرها على الشهوة الجنسية، وربطها جُزافًا بالجسد كحقل للخطايا والذنوب، مثلًا: "لا تتبعوا الشهوات". فتأتي كلمة «نِفس» لتحل محل كلمة «شهوة»، وتستبدلها بلفظة مقبولة اجتماعيًا. كما أن كلمة «شهوة» بسبب هذا الربط بينها وبين الخطايا، ارتبطت في أذهاننا بالفشل في السيطرة على النَفس، أي الذات، أي الجسد. وكذلك، فإنه تم ربطها بالجسد كوجود مادي للإنسان الذي جرت صياغته تاريخيًا كمصدر للذنوب والأخطاء. أرجعت الكاتبة النسوية «سيلفيا فيدريتشي» هذا الانفصال بين ما هو جسدي وخاطئ، وما هو عقلاني وناضج إلى مفاهيم الحداثة التي صاحبت سيطرة الكنيسة ورأس المال على النظام الاجتماعي في أوروبا في القرن السادس عشر. وعبّر عنها الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» بأنها بداية هيمنة النظم السياسية والاجتماعية على أجسام البشر، وتقنين العلاقة بين الجسم والشهوة، وفقًا للقانون والأنظمة الاقتصادية.
أشارت الأديان الإبراهيمية للجسد باعتباره مجال المعاصي، وساهمت في انفصال الإنسان عن جسده بدعوى التحرر من دونية هذا الجسد
كلمة "شهوة" بسبب الربط بينها وبين الخطايا، ارتبطت في أذهاننا بالفشل في السيطرة على النَفس، أي الذات، أي الجسد
أما في المنطقة العربية، فلا يختلف الوضع كثيرًا. فقبل حقبات الاستعمار التي فرضت تلك المفاهيم المقتصرة على الحضارة وسمو العقل، مقابل التخلف ودونية الجسد، أشارت الأديان الإبراهيمية للجسد باعتباره مجال المعاصي، وساهمت في انفصال الإنسان عن جسده بدعوى التحرر من دونية هذا الجسد. حتى في قصة خروج آدم من الجنة، نجد أنه عوقب بالنزول إلى الأرض بعد إتباع شهوته في أكل التفاحة. تلك القصة التي رسخت دونية الجسد وربطته بالآثام والعقاب.

كيف تحايلنا على تلك الهيمنة؟

الحديث عن القبول والرفض، والرغبة والاشتهاء قد يكون جوهر كلمة «نِفسي». ويمكن أن نقول إن «النِفس» هي الإقبال على شيء أو الإعراض عنه، وهي مُركبة أكثر من كلمة مشاعر التي قد لا تعطي وصفًا دقيقًا. فالمشاعر هي كذلك لأنها مشاعر. لا أحد يُعقلنها، وقد تمت تنحيتها ووصمها تاريخيًا لصالح التعقُل، أو ما يُعرف بالعقلانية، كما تقول «فيدريتشي». في المقابل، نجد كلمة «نِفس»، لا تُعطينا أيضًا وصفًا دقيقًا للشعور، لكنها تربطه بالشهوة. فلو كانت كلمة مشاعر مُجردة، فكلمة نِفس قد تعوض عنها كبديل مُتحرر نسبيًا من وصمة العاطفة، ووصمة الذنوب. قد نقول: "نِفسي جيباني لكذا" ونعني بها شيء ما يروقنا. النِفس في هذه الحال هي شيء أقرب للتقديس. فأغلبنا يقول نِفسي، ولا يقول أشتهي. وكأننا بذلك نصنع سُلطة لرغباتنا وشهواتنا لقبول ذلك أو رفض تلك. سُلطة تُغلق التفاوض من بابه، وتتحدى –بوعي أو بدونه- ثنائية الجسد/العقل والدونية/السمو. فأصبحت اللُغة كمصدر لتشكيل الوعي، هي ذاتها مصدر التحايل عليه. فإن كنا نكتسب وعينا من اللغة والخطابات التي تعتمد عليها، مثل قصة آدم، فإن لهذا الوعي القدرة على خلق بدائل تُساعد في تفكيك سُلطة الخطاب واللغة التي أنتجته.

فجاجة وفانتازيا

وبِذكر كلمة «نِفسي»، ماذا حدث لفعل «أشتهي»؟ بعدما أصبحت الأولي دارجة بالأخص في اللغة العامية، فإن الثانية أصبحت أكثر فجاجة في استخدامها، حتى أنها حين تُذكر ترسم فانتازيا بين القائل والمُستمع. عندما نقول "أشتهيك"، فإننا نستخدم فجاجة لفظ شهوة، في خلق فانتازيا جنسية بين الأطراف. نقفز في خيال المُستمع ونقطع أشواطًا ونُقصِّر مسافات للتعبير عن الرغبة الجنسية، باستخدام نفس اللفظ الذي وصم الرغبات الجنسية من قرون. ولا تكون «نِفسي فيك» بنفس قوة «أشتهيك»، فالشهوة هنا أعلى، ومباشِرة، مقارنة بـ«نِفسي»، كنايةً عن الشهوة.

ما الذي قد تعنيه عبارة مثل "كسرة النِفس"؟

يسقط التقديس عن النِفس بالرفض. فإن تحدثنا عن موقفك كرافض، فماذا لو كنت مرفوضًا؟ إن نفوسنا تُكسَر، عندما لا تلقى التقديس الذي نراها به. نفوسنا تُكسَر لو شعرنا بعدم التقدير. إن تعرّينا وكشفنا عن أشياء لا نُفصح عنها في العادة، ثم نشعر أنها لم تلقَ التقدير المناسب، وأنها إن قيلت فكأنها لم تُقل. «نِفسي مكسورة» قد نقولها لنعبر عن حزن وأسى، أو عن إحباط وخيبة أمل. خِتامًا، نحن نُقدس شهواتنا، ونحترم نفوسنا. لا يهم إن استخدمنا «نِفسي» أو «أشتهي»، ففي الأخير لكل إنسان الحق في إشباع نِفسه، أو إرضاء شهواته، والتي نُذكّركم أنها لا تقتصر على الرغبات الجنسية، كما هو شائع.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image