كانوا ما بين 25 و30 ألفاً، يعيشون في الموصل قبل عقد من الزمن، لكن لن يبقى منهم أحدٌ. ترك مسيحيّو المدينة كل شيء خلفهم، هرباً من إملاءات دولة الخلافة الإسلامية. فضّلوا على الاحتفاظ بمنازلهم ومدينتهم، إيمانهم. منفى آخر، لا عودة بعده لغالبية النازحين المسيحيين الذين لجأوا إلى إقليم كردستان العراق، منذ سيطرة الدولة الإسلامية في العراق والشام على مدينة الموصل، في 10 يونيو الماضي.
"ما واجهوه كان مرعباً، ولكن أغلبهم لن يتلفظ بكلمة. البعض يعجزون ببساطة عن الحديث عما عاشوه"، يقول المطران بشّار وردة، رئيس أساقفة الأبرشية الكلدانية في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق. "الحالة كارثية، ليس فقط للمسحيين، بل لكل العراقيين، وهي لن تنتهي قريباً" يضيف. حالة كارثية، مأسوية، مخيفة، كلمات يردّدها ممثلو المسيحيين العراقيين مراراً وتكرراً، لوصف الوضع الراهن.
المنفى الأخير
برغم كونهم هدفاً للاضهاد منذ عشر سنوات (اختطف رئيس أساقفة الموصل ثم قتل عام 2008) لم يكن مسيحيو الموصل ليتوقعوا ما حصل. "لم نتخيل أن يحدث كلّ هذا يوماً" يقول زيد (33 عاماً)، مدرّس موسيقى كان يعيش في الموصل. في 10 يونيو الماضي، هرب زيد و٩ من أفراد عائلته، شأنه شأن ما يقارب مليون عراقي، بينهم 10 آلاف مسيحي، بحسب بطريرك الكنيسة الكلدانية. وجد زيد وعائلته، المعدمة الآن، ملجأً في الطابق السفلي من الكنيسة السريانية الأرثوذكسية "أم النور"، الواقعة على مشارف عينكاوا، مدينة مسيحية صغيرة متاخمة لأربيل. استقبلت الكنيسة منذ شهر نحو 250 هارباً من الموصل، قرّر بعضهم العودة إلى قراهم. أما بالنسبة لغالبية مسيحيي الموصل، فالعودة لم تعد خياراً مطروحاً.
"تركنا كل شيء وراءنا" يقول زيد. الأخبار الوحيدة عن منزله، يحصل عليها من الصور التي يرسلها له بعض المعارف هناك: بوابة مقفلة، وضعت عليها السلطات الجديدة في المدينة حرف "ن"، الذي يختصر كلمة "نصارى" (مسيحيون)، بالإضافة إلى نقش "عقارات الدولة الإسلامية". هل سيعود؟
يجيب زيد: "مستحيل. وإنْ تحسن الوضع، لن أعود. إنها المرة الرابعة التي نضطر فيها للهرب من الموصل. كيف نعيش من جديد في مدينة تعاون جزء من سكانها مع مقاتلي الدولة الإسلامية؟". ويتابع: "من الصعب أن تنتمي إلى مجتمع يظل ينظر إليك كغريب. لذا لا أعرف ما أفعله اليوم، أبقى في كردستان أم أهاجر؟".
السؤال ذاته، طرحه عدنان، المقيم في كنيسة أم النور، على نفسه ألف مرة. بعد أن قضى أربع سنوات في لبنان مع عائلته، عاد عدنان إلى الموصل بعد سقوط نظام صدام حسين، آملاً في أيام أفضل للمسيحيين. كان وهماً، حاول بعده الحصول على تأشيرة للهجرة إلى أستراليا، لكن من دون جدوى. "في العاشر من يونيو الماضي، كانت المرة الثامنة، والأخيرة، التي نهاجر فيها من الموصل. لن نعود، حتى ولو تفككت الدولة الإسلامية".
برغم نكبتهما، كان عدنان وزيد محظوظين لعدم التقائهما بميليشيات دولة الخلافة الإسلامية. في 16 يوليو الماضي، جالت شاحنات مع مكبّرات صوت شوارعَ مدينة الموصل. أُبلغ المسيحيون بالتدابير الجديدة التي اتخذت في إطار الخلافة الإسلامية المعلنة في 29 يونيو. الإنذار واضح: اعتناق الإسلام، دفع الجزية، المنفى أو الموت.
مئات الأسر المعدومة
"ترك ما يقارب ألف عائلة مدينة الموصل بين 16 و18 يوليو" يقول غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، بطريرك بابل للكلدان. فعند أول حاجز قابلوه لمقاتلين من دولة الخلافة الإسلامية، تعرض النازحون للإذلال، والنهب. السيارات، المجوهرات، المال، الهويات وحتى الثياب، صودر منهم كل شيء. استقبلت السلطات الكردية النازحين بأذرع مفتوحة، وفق التزامها حماية الأقليات.
في قراقوش، مدينة مسيحية تبعد 32 كلم عن الموصل، أوقفت قواتُ البشمركة (المقاتلون الأكراد) تقدّم دولة الخلافة الإسلامية. وعدت الحكومة في بغداد بدفع مليون دينار عراقي (860 دولاراً) لكل عائلة مهجرة، وبتخصيص 3 مليارات دينار لإدارة مشكلة اللاجئين. لا يكفي كل ذلك ليشعر ممثلو المسيحيين بالثقة في ما يخفيه المستقبل، فالحاجات كبيرة، لا سيما أن السلطات الكردية تواجه مشاكل أساسية في ميزانيتها، مع توقف التمويل من الحكومة المركزية في العراق منذ شهرين، جرّاء الصراع الدائر بين أربيل وبغداد حول النفط.
يقول البطريرك: "الوضع السيّىء سيستمر، ولا أملك حلاً سحرياً. لا بدّ من تحديد الأولويات: توفير المال اللازم، وإيجاد مأوى للعائلات، لأن الكثيرين يعيشون في المدارس التي ستفتح أبوابها في بداية الموسم المدرسي".
عبّر وفد من الأساقفة الفرنسيين، جاء إلى أربيل أواخر شهر يوليو، في زيارة تضامنية مع مسيحيي العراق، عن إعجابه بروح الأخوّة لدى الشعب العراقي، وبشجاعته. استقبلت قرية بنداوا مثلاً عشرين عائلة مسيحية، 28 عائلة سنية، و48 عائلة شيعية.
كذلك أبدى الكاردينال فيليب بارباران، رئيس أساقفة مدينة ليون، إعجابه بمسيحيي العراق "مثابرة كبيرة من دون استسلام. إنها مدهشة فعلاً. فضلوا جميعهم المخاطرة بحياتهم عوضاً عن الارتداد عن دينهم". أما في ما يتعلق ببقائهم أو برحيلهم، فيقول بطريرك الكلدان: "مهما حصل، لا يجب فقدان الأمل، بل المقاومة. المسيحيون منذورون للبقاء في هذه المنطقة. نحن في هذه الأرض منذ أواخر القرن الأول بعد المسيح. ستكون خسارة جسيمة لو وضعنا حدّاً لتاريخ عمره ألفا سنة. نعيش اليوم في المجهول، نخاف من أن يفرغ الشرق الأوسط من مسيحييه. في عشر سنوات، خسرنا أكثر من نصف مؤمنينا".
بعدما كانوا يُعدّون ما بين مليون ومليون ونصف مليون نسمة قبل سقوط نظام صدام حسين، لا يتخطى عدد مسيحيي العراق اليوم الـ400 ألف، يعيش 150 ألف منهم في إقليم كردستان، وسهل نينوى، بحسب ممثلي الكنيسة الكلدانية. يختم المطران بشار وردة: "لطلما عاش المسيحيون في العراق. وسيستمرون في العيش هنا، لكن يبقى أن نعرف في ظلّ أي ظروف".
تم نشر هذا المقال على الموقع بتاريخ 03/08/2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...