لا يخل موسم رمضاني في مصر من الدراما الصعيدية، وربما ينافس في العام الواحد أكثر من مسلسل يتحدث عن الصعيد وصلت في هذا العام إلى 4 أعمال.
لكن تواجه تلك الدراما اتهامات كثيرة بعضها يتعلق باختزال معنى الصعيد في القتل وأخذ الثأر والمطاردات وتهريب السلاح والمخدرات، وخلافه من الأعمال الإجرامية وكأن الصعيد المصري هو بؤرة فاسدة في قلب مصر.
وبعضها ينتقد عدم فهم التركيبة الصعيدية ودراسة مكنوناتها وقولبتها في زيّ محدد ولهجة معينة وتقديم صورة نمطية للشخص الصعيدي.
"طايع".. الثأر من فتاة والقتل الاعتيادي
يخرج طايع من السجن، في هذه الدراما، فتهرب الأم من رؤيته بعد فترة طويلة من الغياب وتغلق دونه الباب في جمود واضح، لرفضه الثأر لوالده، وحتى ترفض أن تعانقه، وحين يتعاتبان، يدور هذا الحوار بينهما:- اعمل ايه بس علشان ارضيكي
= لا، ترضي ربنا .. رضى الأم من رضا الرب - واللي يرضي ربنا إني أقتل واتقتل .. ايه دخل اللي بتقوليه ده في الدين = عندنا هِنِه في الصعيد التنين (الاثنين) واحد" يرسخ هذا الحوار والذي يدور في الحلقة الأولى من مسلسل طايع والذي يعرض حالياً من بطولة عمرو يوسف وعمرو عبدالجليل وصبا مبارك، الصورة النمطية عن "المرأة الصعيدية ـ في عين المؤلف ـ جامدة المشاعر متطرفة التفكير". فهي التي تحرض ابنها على سفك الدماء دون إبداء أي عاطفة إنسانية تجاهه. كما أنها تمهّد لما يأتي بعد ذلك خلال العمل من سفك للدماء وجرائم بالجملة يرتكبها الصعايدة حتى وصل الأمر لتقديم صورة جديدة لم يسمع عنها المجتمع المصري من قبل وهي الثأر من الفتيات. https://youtu.be/l0OJIi6a9ys والمشهد آنف الذكر ليس من ابتكار مؤلفي المسلسل "الإخوة دياب" (محمد وخالد دياب وشيرين)، ولا هو الأول من نوعه، بل إنه من كليشيهات السينما والدراما المصرية المكررة، فدائماً أم البطل الصعيدية هي الحاضرة في إذكاء نار الحروب وسفك الدماء والتحريض على العنف. ومع توالي الأحداث يتطوع البطل وأخوه الطفل الصغير للعمل مع تشكيل عصابي كي يحميهما من التورط في الثأر، فيتورطان في تجارة الآثار وتهريبها، بل يلجأ الطفل الصغير لتصفية أحد فلول التنظيم العصابي بإطلاق النار الحي عليه. وتدور باقي الأحداث ضمن التشويق الدرامي الدسم بكافة أنواع الجرائم من قتل وتهريب وإجبار الفتيات على الزواج دون رغبتهن وقتلهن أيضاً.نسر الصعيد.. قانون "القناوي" يحكم لا قانون الدولة
وفي مسلسل "نسر الصعيد" الذي يعرض حالياً، ويؤدي بطولته محمد رمضان، صاحب أعلى نسب مشاهدة في مصر، يقوم البطل ضابط شرطي "صعيدي" بمطاردة أسرة صعيدية أخرى من البلد ذاته، تشتهر بالسرقة والقتل والتجارة الممنوعة. تدور الأحداث بين الكرّ والفرّ. لكن الملفت في المسلسل هو أنه يقدم الأمر بشكل فيه مبالغة كبيرة فالضابط ومن قبله والده يسيطران على الوضع في البلد الصغير بعلم من الشرطة التي تترك لهما سلطة الحكم بين الأهالي وإنهاء المشاكل دون أدنى تدخل منها، ويؤكد على ذلك صالح القناوي (شخصية الأب) الذي يقول لأحد المتضررين من السرقة أمام ضابط قسم الشرطة، عندما سأل عن القانون الذي يحكم القرية: "البلد دي فيها قانون واحد وهو قانون "القناوي" (يقصد عائلته). ثم يردف بعدها، بقوله للغريب: "لو حد داس لك على طرف (أي: ظلمك) محدش هيجيبلك حقك غيري، ولو حد داس على طرف لسعادة المأمور (ضابط قسم الشرطة) محدش هيجيب له حقه غيري برضو". لكن ثمة تناقض كبير وقع فيه كاتب سيناريو المسلسل، فبعد موت صالح القناوي (الأب) الذي كانت كل مقاليد السلطة والقوة في القرية بيده لا بيد الدولة، خلفه ابنه "زين" الذي عمل كضاط شرطة، فمالت كل مقاليد القوة والسيطرة في القرية لقسم الشرطة والذي يمثله "زين". إشكالية المسلسل أنه يقدم الصعيدي بنظرة أحادية الجانب، فهو إما إنسان خيّر وصالح وإما إنسان فاسد وظالم وقاتل. فالخير ممثل في زين وأبيه صالح، وقالب الشر ممثل في "المعلم هتلر" وابنه "مسعد". https://youtu.be/zUtBjkcqkcA فيما يستمر للعام الخامس على التوالي، عرض مسلسل "سلسال الدم" والذي يتحدث أيضاً عن قضايا الثأر والقتل الوحشي مع وضع رتوش مناسبة من الفساد والتهريب والحياة الجبلية وقسوة القلوب.محمود عبد الشكور: صانعو الدراما يجهلون الثقافة الصعيدية
استطلعنا رأي الناقد المصري محمود عبد الشكور، حول أمرين في هذا السياق وهما أسباب الانتشار الكبير للدراما الصعيدية وهل حقاً تمس الواقع الصعيدي أم أنها تبتكر نوعاً جديداً من الصعيد يناسب التشويق الدرامي ومتطلبات العمل التلفزيوني. يرى عبد الشكور أن صانعي الدراما الصعيدية في مصر في السنوات الماضية يعانون من جهل كبير بالثقافة الصعيدية. ويقول إن الصعيد لا ينحصر فقط في لبس الجلباب والعمة و"عوج" اللسان ببعض الكلمات، بل يرى أن الصعيد ثقافة متشابكة وعلى الكاتب والمخرج والمنتج أن يدرسوا ويعايشوا تلك الثقافة إن كانوا ينوون تقديم عمل حقيقي يمس "الصعايدة". الناقد الذي ينحدر من أصول صعيدية بالأساس، يضيف أن هناك جاذبية كبيرة للدراما الصعيدية بين المشاهدين، فلقد استطاع صانعو الدراما خلق "عالم من الكاوبوي" في الدراما الصعيدية ، فمن السهل أن تصنع 30 حلقة كلها تشويق وبها أعمال قتل وثأر وخلافه وهو أمر يثير انجذاب المشاهد. لكن تبقى لدى "عبدالشكور" أزمة مع تلك الأعمال . يقول إن الإكثار من تقديم قصص القتل والثأر والتهريب ليس هو المشكلة لكن كيف يقدمونها؟ ما هي المعالجة؟ وهل درس هؤلاء الكتاب/ المنتجين/المخرجين طبيعة الثقافة الصعيدية؟ هذا بالأساس ما يجب طرحه. يضيف: كثير من الكتاب والمخرجين لا يريدون التعب والعمل على دراسة الشخصية الصعيدية، فيلجأون للكليشيهات الجاهزة، ويصنعون مسلسلاً مأخوذة أفكاره من مسلسل آخر يتحدث عن الصعيد، ووصل الأمر إلى الحوار ذاته، يؤخذ من دراما سابقة وحتى بعض المشاهد تصبح مكررة ومستهلكة.كيف اختزل صانعو الدراما ثقافة الصعيد في عالم "الكاوبوي" كله تشويق قائم على القتل والثأر والتهريب والمطارداتلكن العمل الأهم الذي تناول حياة الصعيديين وكان رائداً في هذا المجال ـ في نظر عبدالشكور ـ كان مسلسل "ذئاب الجبل". يقول إن محمد صفاء عامر (كاتب العمل) درس الشخصية الصعيدية بتشابكاتها، فقدم إنساناً حقيقيا يكره ويحب وتدمع عينيه ـ كما هي طبيعة البشر ـ، يكون شريراً أحياناً وخيّراً أحياناً أخرى. يؤكد: هناك أعمال سبقت ذئاب الجبل سواء في السينما أو التلفزيون وتتحدث عن الصعيد كالطوق والإسورة والمومياء وصراع في الوادي ومارد الجبل ـ صنعت جميعها كلاسيكيات خالدة عن الصعيد ـ لكن كان ذئاب الجبل أهمها على الإطلاق. يلاحظ الناقد الفني أنه خلال هذا العام ظهرت في المسلسلات قضايا دخيلة على الواقع الصعيدي كقضية الثأر من النساء والتي ظهرت في مسلسل "طايع". يقول إنه ربما حدثت تلك الحادثة في مكان ما، لكنها ليست من طبيعة وعادات المجتمع الصعيدي. وكذلك تقديم الصعيدي بنظرة أحادية الجانب كأن يكون إما إنسانا صالحا بشكل مطلق أو شريراً بشكل مطلق وهو تبسيط مهين للمشاهدين قبل أهل الصعيد.
ماجدة خير الله: للصعيدي هموم أخرى وعنده الريف والحضر
الناقدة الفنية والسيناريست ماجدة خير الله تقول إن هناك تصور عند كثير من الكتّاب أن في الصعيد مادة ثرية ومشوّقة بسبب المطارادات والقتل. وتضيف بأن ذلك الشعور تزايد مع النجاح الجماهيري لبعض الأعمال. تؤكد خير الله لرصيف22، أن الصعيد هو شيء آخر غير الذي تقدمه تلك الدراما، فالصعيد به جامعات والفتيات فيه تتعلم بجانب الشباب، وكثير من النساء يعملن بالوظائف. لكن قليل من صناع الدراما من يدرك طبيعة المجتمع الصعيدي، فهناك صعيد الحضر وهناك صعيد الريف، فلماذا يصرون دائماً على تقديم صعيد الريف بعاداته ويتجاهلون الآخر. تعتقد الناقدة التي كتبت عدداً كبيراً من الأفلام، أن الدراما المصرية تعاني من المشاكل الخاصة بالنمطية، فهناك ـ بحسب تعبيرها ـ "منظومة كاملة من الاستسهال والتكرار". فمثلا، دائما ما تقدم الأم الصعيدية في قالب السيدة التي تشعل الصراعات القبلية وسفك الدماء انتصاراً لعادات القبيلة أو أخذاً بالثأر. تشير ماجدة خير الله إلى أن صناع الدراما الصعيدية يعتبرون أنه بما أن الصعيد هو نصف مصر جغرافياً فهم بهذه الطريقة قد ضمنوا جمهوراً عريضاً، إلا أنها ترى أن هذا الجمهور أصبح يرى أن تلك الأعمال تسيء إليه. وإذا ما نظرنا لتاريخ أهم المسلسلات الدرامية التي تناولت حياة الصعيديين، فنجد أن منها ما عالج الأمر بشكل إنساني جيد، ولكن بعضها الآخر هو من مهد للوضع الحالي نظراً للنجاح الكبير الذي حظى عليه.مارد الجبل .. الرحايا: دراما إنسانية تجسد التناقضات البشرية
مسلسلان من بطولة الراحل نور الشريف، تكمن أهميتهما أنهما من ضمن المحاولات الحقيقية القليلة التي جسدت الصعيد بحسه الإنساني الذي يظهر عمق التناقضات. "مارد الجبل" يعتبر المحاولة الأولى والرائدة في الدراما الصعيدية ويتحدث عن شخصية أحمد بن شبيب، الشاب الذي يتعلق بحب فتاة تدعى زينة لكن ينافسه عليها أحد أصدقائه ويدعى "رواس". تتطور الأحداث بأن يدخل المماليك القرية فيقتلون أم أحمد بن شبيب فيقرر الانتقام من كل المماليك ثم يتورط أحمد في خطف محبوبته القديمة والتي كانت تتجهز للزواج من صديقه رواس وينتهي الأمر بمقتل بن شبيب. أما مسلسل "الرحايا" فتدور أحداثه حول شخصية أحمد أبو دياب الرجل الثري الذي يتزوج 4 مرات وينجب 5 أبناء وعدد كبير من الأحفاد. ولكن كل شخص من أبنائه بشخصية تختلف عن باقي أقرانه. ويتعرض أبو دياب إلى مؤامرات ودسائس في قريته، على الرغم من أنه رجل محبوب للغاية إلا أنه شخصية من الصعب تفكيكها وفهمها فهي مليئة بالتناقضات. وفي حوار قديم لنور الشريف قال عن ذلك المسلسل ومؤلفه "عبد الرحيم كمال": عندما انتهى من كتابة أول خمس حلقات وقعت عقد المسلسل لأنه يتحدث عن شخصيات واقعية وأحداث حقيقية عاشها المؤلف، وكنت أجد الشخصيات تتحرك على الورق، وكأنها من لحم ودم، بعيداً عن القضايا التقليدية المعروفة عن الصعيد".ذئاب الجبل.. رمزية خلع الزي الصعيدي
هو أشهر عمل درامي صعيدي على الإطلاق ونال جماهيرية غفيرة في مصر لم يحظ بها أي عمل درامي لا من قبل ولا من بعد. تدور أحداثه حول فتاة صعيدية تريد التحرر من بعض القيود الاجتماعية فتقرر الهرب إلى الإسكندرية بينما يظل أخوها "البدري" يبحث عنها ليقتلها، وفي إطار البحث عنها تتغير أفكاره ويخرج عن عباءة الصعيدية وشاله وجلبابه "فيتمدن" حين يخالط الناس في بحري (المحافظات المطلة على البحر المتوسط في مصر). وقدم "محمد صفاء عامر" كاتب العمل، رمزية هامة لخلع الزي الصعيدي وكأنها لحظة التحرر من المفاهيم المتطرفة للحياة، فيقرر أخيراً العفو عن اخته. وجسد ذلك بمشهد طويل وقف فيه "البدري" أمام مرآة وخلع زيه التقليدي وارتدى بذلة وفي الخلفية يغنى علي الحجار أغنية "خايف يا بدلة تنسيني". الإشكالية التي لم يتقصدها العمل بالضرورة، تكمن في اعتبار الجلباب دمغة للهوية الصعيدية، وربطها بشكل وثيق بالتحجر والتعصب، وكأن التنوع في المواقف، وتغير الأفكار لا يمكن أن يتحقق إلا بخلعه. ومن بعد ذلك، رحب المنتجون وعلى مدى أكثر من 20 عاماً، بأي عمل درامي يتحدث عن الصعيد حيث يدّر المشاهدات الكبيرة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون