كان أحد الأصدقاء يلقّبني أيّام الجامعة ب"مامي". لم أعد أذكر بالتحديد السبب الذي أوحى له هذا اللقب −تعبير عن حنان فائض من قبلي على الأرجح- ولكنّني لم أكن فخورة به. وقد وجدت نفسي في الخمس عشرة سنة التالية، أحاول أن أبتعد أكثر المستطاع عنه. تطوّرت حياتي المهنية وكبرت سعادتي فيها، وازداد حسّي النسوي ولم تعد أنماط الزواج والأمومة التقليدية تشدّني كما كانت تشدّني في عمر أصغر.
ولمّا تزوّجت لم أشعر باستعجال كبير في موضوع الإنجاب. كنت أنا وزوجي نرى حياتنا ملأى كما هي، ونتشارك في القلق حول التغيّرات التي يحدثها الأولاد في طرق الحياة، وحول الأنماط الجندرية التي إن خفّت عند أصدقائنا فغالبًا ما رأيناها تعود مع مجيء الأولاد. ولكنّنا في الوقت عينه كنّا نجد نفسينا، كلّما ناقشنا الفكرة، نعود إلى النقطة نفسها وهي أنّنا، برغم الشكوك والهموم، نحب أن نبني عائلة معاً، لا لأنّها هدف كل زواج، بل لأننا كنا نحن نحبّها. بالنسبة لي، لم تكن فكرة الأمومة بحد ذاتها ما يجذبني بل فكرة العائلة هي التي أحبّها. فإنّني لم أجد نفسي يومًا أحلم برضيع أحمله بين يديّ. كانت من الصور التي أرسمها في ذهني صورة ولد يقوم بخطواته الأولى بيني وبين أبيه، أو صورة مائدة عشاء نجتمع حولها ونضحك من نكات تصبح جزءًا من تقاليد العائلة كما نفعل في عائلتي، وكما يفعلون في عائلة زوجي وفي كل العائلات السعيدة التي أعرفها.
كنت أريد منذ البدء أن يكون الطفل مشروعنا وليس مشروعي أنا وحدي، وعليه فقد استشرت زوجي بكل مسألة تتعلّق بالحمل.. لكنّ الجنين كان، شئت أم أبيت، في جسمي أنا
صرت أتخيّل فريزة حلوة صغيرة تنبض في بطني نبض القلب الأحمر في الرسوم المتحرّكة. وصرت أنا وزوجي نضحك من فريزتنا هذه التي كنّا نخاف عليها، وهي كان بمقدورها في الوقت عينه أنّ تتسبّب بجسمي كمًا مفاجئًا من الإرهاق ولعيان النفسإذن، وجدنا نفسينا أخيرًا، بعد سنة ونصف السنة على زواجنا، مستعدَّين للمباشرة بمشروع العائلة. وسرعان ما حملت، برغم أنّنا لم نتبّع أياً من التعليمات والنظريات الشائعة عن كيفية الحمل، وبرغم كلّ ما قيل لي منذ تزوّجت أنّني إن انتظرت، بسبب عمري الذي يعتبره البعض متقدّمًا فيما يتعلّق بموضوع الانجاب، فستضيع مني الفرصة أو لن تحصل متى أشاء. وكنت قد تشرّبت هذه الأفكار إلى حد أن ردّة فعلي الأولى بعد فحص الحمل، وجاءت النتيجة ايجابية، كانت أن اتصلت بزوجي وطلبت منه أن يمرّ بالصيدلية في طريقه إلى البيت ويشتري فحص حمل غالي الثمن لأنّ ثمّة مشكلة مع الفحص الرخيص الذي كنت قد استعملته. وقد بقينا في حالة من عدم التصديق، استمرّت بشكل أو بآخر الأشهر الأولى كلّها. وبرغم عدم التصديق، وجدتُني في اليوم الأوّل بعد الفحص (الغالي)، مبتسمة ابتسامة العاشقة أوّل الحب، وأنا أمشي في شوارع لندن. وقد لمت نفسي مباشرة على هذا الفخر لخشيتي أن يصبح مفرطًا، وأنّه يعني أنّني سأصبح مثل هؤلاء الأمهات المهووسات بأولادهن، واللواتي كنت أنتقدهنّ. ولم تكن هذه المرّة الأخيرة التي تضاربت فيها مواقفي بشأن الأمومة قبل الحمل وتصرّفاتي خلاله. فقد وجدت نفسي حذرة في موضوع المأكولات والمشروبات المسموحة أكثر مما كنت مصمّمة على أن أكون، برغم أنّنا، أنا وزوجي، قرأنا بتمعّن كتاب الاقتصادية إميلي أوستر التي تلخّص فيه الدراسات العلمية المتاحة حول الحمل وتظهر بوضوح أنّ لا براهين علمية لعدد من التعليمات الشائعة، بما فيها تلك التي يشدّد عليها الأطباء. تمهّد هذه الاتجاهات الشائعة للإحساس بالذنب الذي أراه سائداً لدى النساء، والذي يبدأ مع فكرة أنّ حياة الطفل كلّها ستتأثّر بما تقوم به المرأة وقت حملها. لكن الحقيقة في آخر المطاف هي أنّ المشاكل التي قد تحصل هي في غالبيّتها ذات سبب مجهول أو على الأقل خارج عن السيطرة، كالمشاكل الصحية والحوادث التي تحصل في الحياة إجمالاً، والتي يلعب فيها الحظ دوراً كبيراً. وكنت كلّما سمعت عن مشكلة ما قد تطرأ خلال الحمل، أقرأ عن احتمال حدوثها وأقارنها باحتمال حدوث حادث سيّارة. ولكن معرفتي المقارنة الواسعة هذه لكل احتمالات الحوادث المخيفة في الحياة، والتي هي ضئيلة وخارجة عن السيطرة، لم تنجح في تحريري من القلق غير العقلاني اتجاه ما قد يمس هذا الكائن الذي ينمو داخلي. هذا الكائن الذي قرأت في شهري الثالث أنّ حجمه بحجم حبّة الفريز، فكانت هذه لحظة الحب الثانية. صرت أتخيّل فريزة حلوة صغيرة تنبض في بطني نبض القلب الأحمر في الرسوم المتحرّكة. وصرت أنا وزوجي نضحك من فريزتنا هذه التي كنّا نخاف عليها، وهي كان بمقدورها في الوقت عينه أنّ تتسبّب بجسمي كمًا مفاجئًا من الإرهاق ولعيان النفس. أخشى أن يستمرّ قلقي بعد الإنجاب، فأصبح الأم الفائضة الاهتمام التي لا أريد أن أكونها. ثمّ أعود وأذكّر نفسي أنّ زوجي سيتحمّل وقتذاك نصف المسؤولية لأن الطفل لن يعود، ولا أريده أن يبقى، مرتبطًا بي بشكل خاص ومختلف عن ارتباطه بأبيه. كنت أريد منذ البدء أن يكون الطفل مشروعنا وليس مشروعي أنا وحدي، وعليه فقد استشرت زوجي بكل مسألة تتعلّق بالحمل. لكنّ الجنين كان، شئت أم أبيت، في جسمي أنا. فصرت أرى مثلاً أن لا ضرورة أن يرافقني زوجي الى كل المواعيد الطبيّة وأفضّل أن أنتظر الوقت الذي سيكون له دور ليس رمزيًا محضاً مع مجيء الطفل. ولكنه رافقني بالطبع الى المواعيد المهمة. وكانت لحظة الحماسة الكبرى آواخر الشهر الثالث عندما تسنّى لنا رؤية الجنين على شاشة غرفة الطبيب، فرحنا نضحك من دون توقف ونتخيّل أنّ الجنين، فريزتنا، يطلق البوالين الهوائية من فمه، مستلقياً على ظهره وهو يحلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...