أخذ المختار ادجابة، 48 عاماً، الجلد المدبوغ وبدأ يضعه في الماء كي يصير قابلاً للشدّ على برميل من أجل صناعة طبل. أما زميله، فراح يبحث عن عصي صغيرة. ثم جاءت فرقة النساء التي ستغني وتصفق. هذه مقدّمات لرقصة يشتهر فيها الموريتانيون المتحدرون من أبناء "العبيد" السابقين، وهي أكثر من مجرد رقصة. "عندما أدخل داخل ساحة الرقص، أشعر بأنني انتقلت إلى عالم آخر"، يقول المختار قبل أن يأخذ العصي ويدخل ساحة الرقص التي تُسمّى بـ"المرجع"، وهي مساحة ليست بالكبيرة، يتحلّق حولها الجمهور والراقصون والنساء ضاربات الطبل.
يُعتبر المختار واحداً من عشرات الرجال الذين يتحدرون من شريحة العبيد السابقين التي تُعرف في موريتانيا بـ"الحراطين" والذين يتقنون هذه الرقصة التي تتطلب خبرة وخفة وسرعة وإتقاناً.
والحراطون هم إحدى الشرائح الموريتانية التي تتحدث العربية باللهجة الحسانية، ولديها تراث يميّزها مثل "المدح الشعبي" الذي تمدح فيه النبي محمد باللهجة الحسانية، وكذلك رقصة "لعب الدبوس".
"بدأت لعب الدبوس وأنا بعمر ثماني سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أرقصها حتى اللحظة"، يقول المختار لرصيف22.
داخل "المرجع"
فور انتهاء المختار وأصدقائه من العمل على إعداد الطبل، جلست فرقة من النساء حوله، ورُميت العصي داخل ساحة الرقص. صار كل شيء جاهزاً للعب الدبوس، والجمهور يترقب بشغف. &feature=youtu.be بدأت النساء في الضرب على الطبل وترداد عبارات حماسية. رحن ينادين اللاعبين بأسمائهم لحثهم على دخول ساحة الرقص. لم يكن المختار أول الداخلين. كان في الساحة رجال يصيحون ويتبارزون بالعصي بسرعة كبيرة. امتزج صوت العصي مع صوت الطبل مع أصوات النساء والزغاريد، وكان التراب يتطاير تحت أرجل الرجال الراقصين. ثم دخل المختار. أخذ "الدبوس"، أي العصا، وبدأ بالرقص في انتظار راقص آخر. عندما يلتقي راقصان في المرجع، تبدأ المبارزة بالعصا، وبعد انتهاء دورهما يخرجان، وتأتي مجموعة أخرى وهكذا، وقد تكون المبارزة بين أكثر من شخصين. &feature=youtu.beظهور لعب الدبوس
ارتبط ظهور رقصة لعب الدبوس بالعبودية التي مورست في موريتانيا منذ قرون ولم تنتهِ إلا قريباً، ولا زالت بعض صورها قائمة.يمتزج صوت العصي مع صوت الطبل مع أصوات زغاريد النساء، والتراب يتطاير تحت أرجل الرجال الراقصين-الفرسان... "لعب الدبوس" في موريتانيا
انتشرت في المنطقة التي تحدث فيها مشاكل على الماء، حين كانت العصا هي الآلة القتالية المتوفرة لدى مربّي الحيوانات، وغايتها إظهار رشاقة وقوة الراقصين... "لعب الدبوس" في موريتانياوظهرت الرقصة في منطقة الجنوب الموريتاني، في وسط ولاية اترارزة في منطقة "ابيتلميت والمذرذرة وواد الناقة". يقول الناشط الحقوقي والمهتم بالتراث إبرهيم ولد رمظان لرصيف22 إن "لعب الدبوس قديم قدم الاستعباد في هذه الأرض، فهو من خصوصيات الأرقاء الذين يستخدمون الدبوس (العصا) في أمور كثيرة، فهي سلاحهم ووسيلتهم للدفاع عن أنفسهم، وهي رقصة تشبه المبارزة عند العرب". و"الدبوس" التي تستخدم في الرقص، هي عصا صغيرة، تُصنع من أغصان الأشجار، ولا تفارق أيدي المنمين (مربّي الحيوانات) وأهل البادية. بالنسبة إلى المختار، هذه الرقصة جزء من حياته، فقد ولد في ابيتلميت، إحدى مدن ولاية اترارزة، مكان ظهور الرقصة، وتربى على مشاهدتها. "بالنسبة إلي، أي مهرجان أو احتفال شعبي لا نرقص فيه لعب الدبوس يبقى ناقصاً، ولا يكون ممتعاً ولا جميلاً". يعتبر الباحث يعقوب ولد السالك أن ظهور رقصة لعب الدبوس كان له علاقة بالماء والتنمية الحيوانية. "انتشرت الرقصة في المنطقة التي تحدث فيها مشاكل على الماء، وكانت العصا هي الآلة المتوفرة عند المنمين، وبعد ذلك تطورت لتكون رقصة"، يقول لرصيف22. من مرحلة استخدام العصا في القتال، جرى تحوّل إلى استخدامها في الرقص، وهو رقص لإظهار الرشاقة والقوة وصفات الفروسية التي نراها عند الفرسان أثناء المبارزة، فيخلق المتبارون جواً حماسياً مبهراً. "في ساحة الرقص أخرج من هذا العالم إلى عالم آخر، أشعر بفرحة عارمة"، يقول المختار.
و"في ساحة الرقص تختلف أنواع لعب الدبوس، وتتنوع أساليبه"، يشرح ولد السالك، ويضيف: "هناك نوعان من لعب الدبوس، لون اسمه ‘اشوطيرة’ وهو سريع وقتالي بامتياز، ولون اسمه ‘آمشيد’ وهو أقل قتالية وأكثر هدوءً، يضرب فيه الراقص عصا زميله ويحجم عنه".
داخل "المرجع"، كان الراقصون يدخلون مثنى وثلاث، يتبارزون بالعصي بسرعة فائقة، على وقع زغاريد النساء وتفاعل الجمهور في فضاء من التنوع الثقافي في نواكشوط.
فرصة مثل هذه لا تتكرر كثيراً، فهذا الفن لم يعد يُمارَس إلا قليلاً، خاصة في المدن.
تخوّف من الاندثار
مع تسارع الحياة في موريتانيا وهجرة الناس من البادية إلى المدينة، في ظل التطور الكبير الذي يشهده العالم، أصبحت رقصة "لعب الدبوس" من الأشياء المهددة بالاندثار. لم تعد تُشاهَد كثيراً مثلها مثل كثير من الفنون التقليدية التي ارتبطت بالمجتمع في زمن البادية والحياة البسيطة. محمد عالي ولد بلال شاب يتحدر من شريحة الحراطين. لكي يحافظ على هذا التراث قام بتأسيس جمعية "ترانيم للفنون الشعبية" التي تعمل على الحفاظ على هذا التراث في المجتمع الموريتاني رغم التحديات. يقول ولد بلال لرصيف22: "نسعى للمساهمة في حفظ واستدامة الفنون الشعبية والتعريف بها داخل موريتانيا وخارجها، من خلال تنظيم نشاطات وسهرات تقليدية وأمسيات فنية". يتملّك الراقص المختار خوف كبير من اندثار هذا النوع من التراث، فالناس التي تمارسه أصبحت تكبر في العمر شيئاً فشيئاً، والشباب يبتعدون عنه بسرعة فائقة. يقول بخيبة أمل: "الشباب لا يهتمون بهذا، إنهم يهتمون بما هو جديد فقط"، ويضيف: "أنا سأواصل الرقص ما دمت قادراً على الحركة، لن أتخلى عنه".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...