حين تنظر له من بعيد بعين محايدة ودون تحليل ولا تخيل، تقول هذه مجرد جدران صفراء سميكة منتصبة في منطقة هادئة من عاصمة غير صاخبة، جدران كجدران القلاع المحصنة ضد الاختراق والغزو، يحرسها بعض الحرس، تلك هي الصورة البعيدة للسجن المدني في لكصر.
سجن لكصر هو مرتع للحكايات والقصص، مكان يحتضن التناقض بشدة، يحاكي الواقع ويعيد تشكيله، لكل نزيل فيه قصة تشد الانتباه ولكل مكان فيه إسهام في دورة الحياة فيه وتأثير في شخوصه.
يقول المصطفى مولود وهو يستذكر تجربته في السجن: "عند دخولي للسجن كنت في حالة من الانتظار، كنت مع رفاقي لكنهم فرقونا، أنا سلمني الحرس الوطني لسيد العنبر رقم اثنين وهو أحد السجناء، استقبلني وسألني عن مشكلتي".
قضى المصطفى وهو ناشط شبابي في السجن المدني بلكصر أربعة أشهر على خلفية قيامه بالاحتجاج على حكم بالسجن لثلاثة سنوات، صدر 14يوليو/تموز في حق الشيخ باي وهو ناشط من حركة 25 فبراير المعارضة، وقد حكم على المصطفى ورفقين له بالسجن سنتين نافذتين وعلى اثنين آخرين بالسجن سنتين غير نافذيتن، وأطلق سراح المصطفى ورفاقه بعد استئناف حكمهم.
أحاديث العنابر
يتكون السجن المدني في لكصر من مجموعة من العنابر المزدحمة بالأنفاس والزفرات والأفكار والخلفيات، بها بيوت تفصل بينها ردهات وفيها حمامات، وأكبر هذه العنابر هو العنبر رقم اثنين، وطاقة السجن الاستيعابية مائة سجين لكن عدد نزلائه أكثر من ذلك بكثير. "السجن مخصص في الأساس للسلفيين، لكنه يضم نزلاء من سجناء الحق العام وسجناء الرأي مثل حالتي، ورغم ذلك وُضعنا مع المجرمين"، يقول جمال أحد رفاق مصطفى الذين دخلوا معه لنفس السبب، ويضيف مستغرباً "يضم السجن كذلك مجموعة من القاصرين". "عند مقدمنا وضعنا في عنبر رقم أثنين، كان ينزل فيه عشرون سجيناً، لكن، بعد أيام ضموا إلينا سجناء العنبر رقم ثلاثة، فزاد الاكتظاظ، إذ عددهم يزيد على العشرين، مثلاً البيت (الزنزانة) الذي كنت أنزل فيه لا يتجاوز طوله أربعة أمتار وكذلك عرضه، وقد بلغ عدد نزلائه سبعة أشخاص"، يقول جمال وعيناه تطلقان نظرات الاستهجان. الاهمال وعدم الصيانة أمران يتحالفان في العنابر لينغصا حياة السجناء، وحكى لنا مصطفى ملمحاً من تلك المأساة المفزعة: "أول ما لفت انتباهي عند دخولي لغرفتي في السجن، وجود روائح غير جيدة بل كريهة، فالحمامات أبوابها مهشمة كأنها من مخلفات حرب ما". في الأيام الأولى كان معي ثلاثة لكن تم تحويلي لعنبر آخر، وكان البيت الواحد يضم بين ثمانية واثني عشر، ومساحته أربعة في أربعة". في هذا العنبر توجد مجاري المراحيض من دون حاجب، ولا سقف لها وتنبعث منها الروائح الكريهة، وأحياناً تقضي خمسة ساعات في انتظار دورك في الحمام"، يؤكد المصطفى. تتعد الانتهاكات والآلام التي تمر على نزلاء العنابر، فأنت كسجين مستجد معرض للكثير من التعدي بالضرب من طرف الحرس، خاصة حين تكون من مدمني المخدرات أو إن ضُبط معك هاتف، وأحياناً يرمى بك في السجن الانفرادي. وهناك انتهاك شبه روتيني وهو أن يكون السجناء في حالة نوم فيأتي الحرس ويضربونهم بأحذيتهم الخشنة ليستيقظوا، "هذا روتيني وشاهدته بشكل يومي" يقول مصطفى ويضيف: "لكن هناك أمراً آخر حكاه لي سجناء كانوا معي وهو أنه يحدث تفتيش ويؤخذ بعض السجناء وتوضع في أيديهم قيود ويذهب بهم لقاعة في السجن مخصصة أصلاً لتكون قاعة رياضية، ويتعرضون للضرب والتعذيب بشكل وحشي، وذلك من أجل أن يخرجوا بعض الأشياء، بعد اتهامهم بحيازتها، وقد حكى لي بعض السجناء أن السجن قبل أن يتحول لسجن للسلفيين ويسطروا عليه، كانت تحدث فيه عمليات اغتصاب للسجناء، لكنها لم تعد موجودة وهي الآن منتشرة بشكل كبير في سجن دار النعيم بل تكاد تكون روتينية، وكان يعاقب عليها السلفيين، لكن المخدرات متوفرة في السجن المدني في لكصر والسجناء يتعاطونها، ولقد رأيت ذلك بأم عيني". اكتظاظ العنابر يفرز واقعاً شديد المرارة، ويرى المحامي والحقوقي محمد المامي ولد مولاي أعل أنه: "بفعل الاكتظاظ تحول السجن من مؤسسة يراد منها التأهيل وإصلاح المجرم إلى مدرسة يدخلها المجرم المبتدئ ليتخرج منها مجرماً خطيراً". العنابر غير متشابهة وتعكس الفوارق الطبقية بين الشعب الموريتاني، فهناك تفرقة في المعاملة بين العنابر، مثلاً، معاملة نزلاء العنبر رقم ثمانية، تختلف عن معاملة نزلاء العنبر رقم اثنين، إذ يقطنه في العادة المسؤولون المتورطون في قضايا فساد ويطلق عليه السجناء اسم "تفرغ زينة"، وهو اسم مقاطعة في نواكشوط يقطنها في العادة أثرياء موريتانيا. ويتميز هذا العنبر بأنه نظيف ومريح وكل نزيل له غرفة وعنده تلفزيون بلازما، وحتى أن نزلاءه لا يأكلون من طعام السجن بل يأتيهم الطعام من خارجه، وتأتيهم الزيارات في مكتب العقيد الذي يشرف على السجن عكس بقية نزلاء السجن الذين يكون بينهم حاجز مع من يزورهم، ونزلاء هذا العنبر يأتيهم أطباؤهم حينما يشاؤون، يقول باي يوسف وهو أحد رفاق مصطفى الذين اعتقلوا معه.لا حق للمريض
مستشفى السجن يماثل بقية مرافقه ولا يحاول التميز عنهم بشيء، وسرد لنا الناشط باي يوسف بعض آلامه: "حين وصلنا السجن قمت بسرعة باطلاع مسير السجن على وضعيتي الصحية، فأنا كنت أعاني حمى شديدة، وأخبرته بأنني بحاجة لتلقى العلاج والدواء لكنه لم يكترث ولم يهتم بطلبي، بعدها قمت بالاستعانة بنزلاء السجن ليقدموا لي العلاج على الطريقة التقليدية ومرت الأيام والمسير لم يسأل، وهو ما فاقم الوضع، إذ داهمتني آلام حادة إلى أن أصبحت عاجزا عن الجلوس بسبب آلام البواسير، وكان الألم مصحوباً بالنزيف، وفي أحد الأيام اشتد الألم عند الثانية فجراً، فرحت أصرخ، فقام النزلاء بإخبار الحرس. وبعد ثلاثين دقيقة تم حملي إلى مستشفى السجن، لكن، لم يكن طبيب السجن موجوداً". وتابع: "ثم استعانوا بأحد السجناء له معرفة سابقة بالطب، ومع الفجر حملوني إلى غرفتي، وكنت أظن أن الأمر قد يتحسن ويأتي الطبيب، لكن الحال طل على ما هو عليه رغم أن الألم والنزيف بقيا طوال إقامتي في السجن، أي 25 يوماً". وسرد جمال حمود قصة شيخ مسن يعاني من مرض في القلب ويحتاج لعملية تكلفتها مليون أوقية (3000 دولار) لكن الحرس والمشرفين على السجن، يرفضون إجراء العملية أو إخراجه من السجن لتجرى له. وهناك رجل آخر يعاني مرض السكري وتسبب له في بتر أصابعه، لكنه يعاني الآن الاهمال ولا يتلقى أي علاج. السجن المدني في لكصر عبارة عن مجموعة من الجزر المنفصلة، كل عنبر مغلق على أصحابه، لا فرصة للرياضة، ولا ورش لإعادة التأهيل أو التدريب على بعض المهن والحرف. ورغم أن به مكتبة فهي غير متاحة في هذه الأيام أمام السجناء. فليس أمام السجين سوى غرفته وزملائه، وهناك رقابة شديدة على دخول الكتب للسجن، فالحرس يرفض بشكل قاطع دخول أي كتب ذات خلفيات يسارية أو أن فيها فكراً مغايراً للسائد في موريتانيا أو أي كتب لا يعرفونها، ويتحججون أنهم لم يفهموها أو يصفونها بأنها كتب تشيّع أو كتب مخربة. وقال جمال حمود: "مرة منعوا دخول كتاب بؤس الفلسفة لماركس، كان قد جلبه لي أحد الأصدقاء، ويقولون إنهم يفعلون ذلك حماية لنا".فئران السلور
في السجن أماكن لعقاب السجناء، أبرزها السجن الانفرادي، وهو ما يطلق عليه اسم السلور، وهو زنزانة انفرادية عرضها متر وطولها متر، قذرة ومليئة بالناموس والفئران وأنواع أخرى من الحشرات. وحكي مصطفى تجربة دخوله السلور لأول مرة على خلفية مشاجرة مع سجين أتى للسجن بسبب تجارة المخدرات، فتدخل العسكر وضربوا الاثنين ضرباً مبرحاً ووضعوهما في السلور. الداخل إلى عالم سجن لكصر، يجتاحه الترقب والانبهار والحيرة، يشعر بالغرابة مع كل خطوة تخطوها قدماه، ويتساوى في ذلك السجين والزائر العابر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 16 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...