السؤال لا ينبغي أن ينطلق من تحليل ما ورد في الموضوع الذي نشرته صحيفة "الأخبار" اللبنانية عما قالت إنه وثيقة مسرّبة صادرة عن السفارة الإماراتية في بيروت، فالمسألة ليست تحليل نص في صف دراسي. السؤال ينبغي أن ينطلق مما أثاره هذا الموضوع ومن كيفية تلقي "الجمهور" له وكيفية تفاعله معه، فهذا الذي يحدّد رسالته والهدف من نشره.
أثر الموضوع كان واضحاً. سرعان ما أعد أحدهم صورة انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتتضمّن صوراً صغيرة لـ28 شخصاً وردت أسماؤهم في موضوع "الأخبار" بهدف التشهير بهم والترويج لفكرة أنهم متعاونون مع السفارة الإماراتية ويتقاضون الأمول منها، رغم أن الموضوع نفسه ينسب إلى البرقية قولها إن ما يرد فيها هو "قائمة بأسماء الشخصيات الشيعية المعارضة لثنائية حزب الله وحركة أمل" أعدها دبلوماسي في السفارة، دون ذكر أية معلومة عن أي تواصل أو تنسيق تم بين الطرفين.
وفي الحقيقة، لم تذكر الصحيفة، في موضوعها، أن هناك تنسيقاً بين الطرفين، وصاغته بأسلوب "مهني" شكلاً، لكنها عرفت كيف تلعب لعبة الإيحاء لتشويه صورة هؤلاء الأشخاص ولتخلق، بالضبط، "الأثر" الذي خلقه الموضوع. إنه ببساطة "التذاكي".
في البرقية، على ذمة "الأخبار"، ورد أن القائمة المطلوبة يجب أن تتضمن رصداً لشخصيات شيعية معارضة للثنائية الشيعية "بما فيها المرشحة للانتخابات النيابية في لبنان على لوائح معارضة لتلك الثنائية والتي تحتاج إلى تمويل في حملاتها الانتخابية".
تلقفت "الأخبار" كلمة "تمويل" (الكلمة التي تحوّلت إلى رسم لصرّة من الدولارات في الصورة المذكورة) واستخدمتها ثلاث مرات في ثلاثة عناوين مختلفة للموضوع: العنوان الرئيسي على الصفحة الأولى وهو "الإمارات ليكس/ نظرة أبوظبي إلى ‘المعارضين الشيعة’/ كيف نموّل حملاتهم الانتخابية؟"؛ عنوان فرعي على صدر صفحتها الثامنة، حيث نشرت الموضوع وهو "’المعارضون الشيعة’ و’المرشحون المحتاجون إلى التمويل الانتخابي’!"؛ العنوان الرئيسي للموضوع على الصفحة الثامنة أيضاً وهو "الإمارات تدرس تمويل مرشحي ‘المعارضين الشيعة’".
قامت الصحيفة بدورها ونجحت في فعل ما أرادت فعله بطريقة تسهّل عليها التنصل من نواياها المبيّتة. ثغرة وحيدة "مهنية" خلفتها وراءها هي علامة التعجّب الواردة في أحد العناوين والتي تؤكد قصدها خلق إيحاءات معيّنة.
تحليل النوايا
في اليوم التالي على نشر الموضوع، كتب رئيس تحرير "الأخبار" إبراهيم الأمين مقالاً بعنوان "الإمارات-ليكس: مستمرون"، يساعد كثيراً في كشف نوايا الصحيفة من نشرها موضوعها. أقحم الأمين في مقاله تعبيرات "المسؤولية المهنية والأخلاقية"، "مهنياً"، "عملاً مهنياً"، "خط مهني"، و"المعايير المهنية". ولكن هذا لم يمنع ورود تناقض فاقع يكشف لامهنية الصحيفة بين قوله إن "التعامل مع الوثائق المسربة لا يتم باستنسابية"، وقوله بعد عدة كلمات من ذلك إن عمل صحيفته "لا يتم بحيادية. بمعنى أن ‘الأخبار’ لا تنشر كل ما يأتيها، بل تنشر ما لا يتعارض مع سياستها". لنضع هنا علامة تعجّب كبيرة فهذا التناقض يحتاج فعلاً إلى مثل تلك العلامة.صحيفة "الأخبار" و"الإمارات ليكس": قيادة زفّة تشويه صورة بعض المعارضين لحزب الله، وإطلاق الرصاصة الأولى عليهم، مجازاً، لتكمل الرقصة عشرات المواقع الصغيرة المقرّبة من حزب الله وكتائبه المنتشرة على السوشال ميديا
حزب الله يقرر مَن هم خصومه، ثم يأتي دور صحيفة "الأخبار" وباقي أذرع الحزب الإعلامية لتشويه صورتهم وشيطنتهم، وبعدها يتبرأ الطرفان من أية مسؤولية عن أي اعتداء قد يطال هؤلاء الأشخاصدور الأخبار كان واضحاً: قيادة زفّة تشويه صورة بعض المعارضين لحزب الله، وإطلاق الرصاصة الأولى عليهم، مجازاً، لتكمل الرقصة عشرات المواقع الصغيرة المقرّبة من حزب الله وكتائبه المنتشرة على السوشال ميديا. وأدت الصحيفة الدور المنوط بها ببراعة فطال التشويه مَن وردت أسماؤهم في "البرقية الإماراتية" وكل الشيعة المرشحين ضد لوائح حزب الله وحركة أمل والذين كان حزب الله قد بدأ بتشويه صورتهم مسبقاً، في تصريحات علنية، بزعم أنهم مرتبطون بسفارات ومتآمرين على "المقاومة". حزب الله يقرر مَن هم خصومه، ثم يأتي دور صحيفة "الأخبار" وباقي أذرع الحزب الإعلامية لتشويه صورتهم وشيطنتهم، وبعدها يتبرأ الطرفان من أية مسؤولية عن أي اعتداء قد يطال هؤلاء الأشخاص على يد ما يسمّى بـ"الأهالي" (الغوغاء المتأثرة بدعايتهما). هي خطة متكاملة لكل طرف دور محدد فيها وتُطبَّق منذ سنوات ولا مَن يحاسب ولا مَن يحزنون. في خاتمة مقاله الذي ترد فيه مشتقات "المهنية" خمس مرّات، والذي يسوّق لأن الصحيفة لا تتهم أحداً ممن وردت أسماؤهم بأي شيء وتقوم فقط بـ"عملها المهني"، والذي يعترف بأن ما بحوزة الصحيفة لا يكفي لاتهام أي شخص بأي شيء، يكتب الأمين: "كل أنواع التهويل لن تنفع في منع ‘الأخبار’ من نشر كل الوثائق التي تفضح العاملين على تخريب بلادنا والنيل من مقاومتنا وإثارة الفتنة بين أهلنا". كتب كتب ثم نسف ما كتبه. هذه ضرورات "المهنية" كي لا يزول الأثر التحريضي الذي أحدثه موضوع اليوم السابق.
ردود الفعل
ردود فعل الأشخاص الواردة أسماؤهم في موضوع الأخبار، وبينهم مثقفون ومناضلون، وبينهم أشخاص هامشيون ووصوليون، كانت متنوعة وتراوحت بين حد السخرية من الموضوع وسؤال إبراهيم الأمين عن مصدر "ملايينه" ورد التهمة عليه واتهام صحيفته بأنها "مخابراتية" و"نشرة لترويج الشائعات" وبين حد إضراب أحدهم، الصحافي حسان الزين، عن الطعام حتى تعتذر منه الصحيفة. نجحت حركة الزين في الضغط على الأمين ليكتب في موضوعه المذكور أنه "حتماً ليس من صنف المرتشين وبائعي ضميرهم الوطني" وليقدّم له اعتذاراً فأوقف اعتصامه. كان هدفه ردّ الأذى الشخصي الذي تعرّض له وكان له ما أراد. ولكن لم يظهر أي شكل من أشكال الاعتراض العام الهادف إلى تغيير مسارات الأمور ووقف حالة استسهال تشويه سمعة الناس وضعف تطبيق قانون القدح والذم بحجة "الحريات الإعلامية" التي يتمتع بها النافذون دون معارضيهم. صارت مواجهة ثقافة التخوين ضرورة ملحّة لأنها باتت تؤثر بجدية على ما تبقى من ديمقراطية لبنانية، خاصةً أنها ستتنامى كلما شعر حزب الله بتراجع شعبيته. فمن دوافع نشر "الأخبار" لموضوعها ما قاله الأستاذ الجامعي سعود المولى، وهو ممّن وردت أسماؤهم في موضوع الصحيفة من أن: "سر حملات جريدة الأخبار المتجددة ضد المعارضين الشيعة وتشويه صورتهم هي اهتزاز صورة حزب الله عند جمهوره قبيل الانتخابات... زبانية الحزب جعلوا (التقرير الإماراتي) قميص عثمان للتشهير بالشيعة المعارضين بأنهم عملاء السعودية والإمارات وقطر وتركيا".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...