لطالما استهواني عالم الرعب، خاصة أفلام هيتشكوك وقصص "آغاتا كريستي" الزاخرة بالتشويق، فكنت أجد لذة في جرعة "الساسبنس" الكامنة وراء السطور والمشاهد حيث تبقى هوية القاتل مجهولة حتى النهاية. صحيح أن مثل هذا النوع من الإثارة كان "يدبّ الذعر في داخلي" إلا أنني كنت أعيش نوعاً من الإدمان عليه: إدمان التشويق الذي يرفع من معدل ضربات القلب ويجعل وتيرتها تتسارع بجنون.
via GIPHY
لست الشخص الوحيد الذي يتلذذ بقصص الرعب ومشاهد الفزع، فهناك الكثير من الناس الذين يهوون تجربة ألعاب خطيرة تخطف الأنفاس وترفع معدل الإثارة إلى مستويات عالية جداً.
من الانجذاب نحو بيوت الأشباح وقصص الجرائم وصولاً إلى الألعاب الأكثر خطورةً في مدينة الملاهي، لماذا نتلذذ بالخوف؟ وما سرّ الضحك في المواقف المرعبة؟
كيمياء الدماغ
منذ القدم، عمد البشر إلى إخافة أنفسهم، وإخافة بعضهم بعضاً من خلال اللجوء إلى طرائق عديدةٍ، مثل رواية القصص المخيفة، القفز من المنحدرات واكتشاف الكهوف المظلمة... غير أن مفهوم الخوف قد تطور مع الزمن وبات تخويف أنفسنا من أجل المتعة والإثارة أمراً مرغوباً جداً. via GIPHY في العام 2015، تحديداً في شهر أكتوبر زار حوالى 28 مليون شخص أحد المنازل المسكونة في الولايات المتحدة الأميركية، وفي العام 2022 تعتزم السعودية افتتاح "القدية" لتكون "أكبر مدينة رياضية وثقافية وترفيهية في العالم". فما هو السبب الذي يجعل الأشخاص "يتعطشون" لإخافة أنفسهم؟ في إطار دراسة الأسباب البيولوجية والنفسية الكامنة وراء الاستمتاع بعالم الخوف، توضح الأخصائية في علم الاجتماع "مارجي كير" في مقابلة على موقع "أتلانتيك"، أن انجذاب الناس نحو الأمور المخيفة أمر محيّر يعود إلى عدة عوامل: بناء وحدة اجتماعية، إعداد الأطفال للعيش في عالم مخيف وبالطبع السيطرة على السلوك. وبخلاف ما يعتقد البعض، فإن الخوف ليس بالضرورة أمراً سيئاً، لكون التعرض لمواقف مخيفة يحث أجسادنا على مواجهة الخطر من خلال إطلاق مواد كيميائية تعمل على تعديل عمل دماغنا وأجسامنا، وهذه "الاستجابة الفورية والتلقائية" تشبه ما نختبره في "الإثارة الإيجابية" وتحديداً أثناء ممارسة الجنس. ولكن لماذا يميل البعض إلى الرعب في حين أن البعض الآخر يخشى الانخراط في مثل هذه التجارب؟ via GIPHY في الواقع، لا يختبر الناس الخوف بالطريقة نفسها، فصحيح أن البعض يحب خوض مغامرات مثيرة ومرعبة، غير أن هناك فئة أخرى تبتعد عن التجارب التي تجلب لها الشعور بالخوف، والسبب لا يتعلق فقط بالتفضيلات الشخصية بل هو مرتبط أيضاً بكيمياء الدماغ. فقد أظهر بحث جديد قاده "ديفيد زالد" أن الاستجابات الكيميائية للحالات المثيرة تختلف من شخصٍ إلى آخر. يعتبر "الدوبامين" أحد الهرمونات الرئيسية التي تلعب دوراً فاعلاً عقب ممارسة الأنشطة المخيفة، فصحيح أنه يعرف بـ"هرمون الإنجاز والسعادة"، إلا أنه مرتبط أيضاً بمشاعر الكراهية مثل الخوف والرعب، بحسب ما أكدته دراسة أجريت في جامعة ميتشيغان في العام 2008. via GIPHY وبعد أن توسع "زالد" في بحثه لمعرفة كيفية تفاعل هذا الهرمون مع عامل الخوف، وجد أن "الدوبامين" هو "كالبنزين الذي يدفع الناس إلى تجاوز الحدود"، مشيراً إلى أن الأشخاص الذين يستمتعون بالفزع لديهم خلايا دماغية غير قادرة على تنظيم عملية إطلاق الدومابين في الدماغ، مما يجعلهم يختبرون معدل دومابين أعلى من غيرهم، الأمر الذي يفسر استمتاعهم، أكثر من غيرهم، بالمواقف المثيرة والمحفوفة بالمخاطر.اللذة من وراء الخوف
فكروا في آخر مرة شاهدتم فيلم رعب أو تسلقتم قمة عالية أو أقدمتم على تجربة لعبة خطيرة في مدينة الملاهي...لا شك أنكم حين خرجتم من هذه التجارب المثيرة قلتم لأنفسكم: نعم فعلتها. لقد نجحت. via GIPHY في العادة، يحب الأشخاص تحدي أنفسهم وإظهار لنفسهم وللعالم أنهم بالفعل قادرون على مواجهة الخوف والانتصار عليه، مما يدفعهم مثلاً إلى تجربة ألعابٍ خطيرةٍ، خاصة أنه بعد أن يخرجوا من هذه الألعاب يمتلكهم الشعور بأنهم أبطال انتصروا في المعركة. في هذا الإطار، أوضحت "مارجي" أن انغماس الناس في المواقف المرعبة يزيد من ثقتهم بأنفسهم حتى لو كان عقلهم يدرك تماماً أن هذا الخوف "وهمي" وغير واقعي. وقد شرحت الباحثة أنه في المواقف المخيفة تقوم أجسامنا بفرز مواد كيميائية مختلفة تؤدي إلى الشعور بالراحة في ظل الظروف المناسبة، من هنا تؤكد أن المشاعر الإيجابية تولد نتيجة ناقلات عصبية وهرمونات مختلفة يتم إطلاقها عندما يشعر الجسم بالخوف. via GIPHY تشرح "مارجي" أنه بهدف الاستمتاع فعلاً بالمواقف المخيفة يجب أن يكون المرء على علمٍ مسبق بأنه في بيئة آمنة، وفي هذا الصدد تعطي مثالاً عن المنازل المسكونة التي تشغل حواسنا من خلال الأصوات وحتى الروائح، فترتبط الحواس مباشرةً باستجابة الخوف وتقوم بتفعيل التفاعل الجسدي، إلا أن عقولنا سرعان ما تدرك أن هذه التهديدات ليست "حقيقية"، مما يجعل خوفنا يتحول إلى لذة والتجربة إلى إنجاز ورضا. وبالتالي تنوه "كير" باختلاف الخوف وفق المواقف، فعندما نشعر بالخوف الحقيقي يكون تركيزنا منصباً على النجاة والبقاء على قيد الحياة وليس على الترفيه، ولكن حين نكون على علمٍ مسبق بأننا في "بيئة آمنة"، نستلذ بلحظات الذعر والخوف، وهذا ما يفسر انتقال الأشخاص على "رولر كوستر" من الصراخ إلى الضحك. وأكدت الباحثة أن الخوف قد يوّحد الناس، فالعواطف يمكن أن تنقل بينهم كالعدوى: عندما نرى أصدقاءنا يصرخون ويضحكون، نشعر تلقائياً بالحاجة إلى القيام بالمثل، وهذا يعود إلى رغبتنا في إعادة خلق التجربة بأنفسنا والتقرب من الآخرين ومشاركتهم مشاعرهم وخوفهم.الضحك عند الخوف
في العادة، يعتبر الضحك كنوع من الاستجابة على مواقف تتخللها التسلية والمتعة، ولكن لماذا يضحك البعض عند شعوره بالخوف؟ بالرغم من وجود تضارب في الآراء حول الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص إلى الضحك في المواقف المخيفة، فإن النظريات ركزت بشكل خاص على الطبيعة الاجتماعية للضحك: "عندما نضحك، نوجه رسالة إلى الأشخاص من حولنا". via GIPHY يعتبر العالم "سين بروشوفت" أن الضحك المصحوب بالخوف هو تعبير عن الخضوع ووسيلة للإعلان عن رغبتنا في تجنب المواجهة والقتال. ويوضح أليكس ليكرمان، في مقال على موقع "سيكولوجي توداي" أن القدرة على الضحك في لحظاتٍ صعبةٍ ومخيفةٍ هي رسالة نوجهها لأنفسنا ولغيرنا، مفادها أننا "نؤمنا بقدراتنا على التحمل والمواجهة"، معتبراً أن الضحك في هذه الحالة "آلية دفاع ناضجة". وقد شبه فريق آخر من العلماء الضحك في المواقف المفزعة بالبكاء من شدة السعادة، معتبراً أن مثل هذه الأفعال تساعدنا على تنظيم مشاعرنا وإقامة نوع من التوازن العاطفي، على حد قول الباحث "راي هيربيرت": "عندما نكون في خطر التعرض لإرهاق ناجم عن عواطفنا، سواء كانت إيجابية أم سلبية، فإن التعبير عن العاطفة المعاكسة قد يكون له تأثير مخفف ويساعدنا على استعادة التوازن العاطفي". أما فيما يتعلق مثلاً بأفلام الرعب، يعتبر بعض العلماء أننا نضحك على هذه المشاهد المفزعة، لأن لدى الرعب والفكاهة نفس الظواهر: التنافر والعدوان:" نضحك عندما يكون هناك شيء غير متوقع، خارج عن المألوف ومخالف للقوانين الاجتماعية"، وبالتالي نغرق في موجة ضحك هستيرية كردة فعل للتناقض بمستوى الخطر الذي يجسده أو للتأكيد لأنفسنا ولمن هم حولنا أننا غير خائفين أو ببساطة نضحك لأننا نحاول إقامة توازن عاطفي من خلال التصدي لمخاوفنا عبر ضحكات خافتة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون