منذ أن أخذ الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والملحن بليغ حمدي على عاتقهما تغيير شكل الأغنية الشعبية، بإعادة تراثها في قالب موسيقي جديد بالاستعانة بالمطرب محمد رشدي، من خلال أغنية «عدوية»، التي هزت عرش عبد الحليم حافظ نفسه، وعلى الدرب عينها سار محمد العزبي، صاحب «بهية».
واستمرت المسيرة «الشعبية» على هذا الشكل الذي يروق للبعض توصيفه بالـ«الراقي»، حتى ظهر أحمد عدوية في سبعينيات القرن الماضي، ليقدم كلمات تعبر عن الطبقة البسيطة، لكنها مطعّمة بالإفيه، يكتبها شعراء كبار مثل حسين السيد وسمير محبوب، فيغني: «زحمة يا دنيا زحمة»، و«سلامتها أم حسن»، و«السح الدح إمبو».
بالطبع قوبِل عدوية في البداية بالرفض، واعتبر فنه هابطًا، وبمرور الوقت أصبح أيقونة، ومرجعًا للغناء الشعبي، حتى أن مهاجميه أصبحوا يترحمون على أيامه، قبل أن يقع الفن الشعبي برمته في دوامة الكآبة والحزن، ولعن الحياة بأسرها، وهو ما راق للمستمعين عندما رأوا أنه خير معبّر عما يعيشونه، وقد ساهم هذا في استمراريته من ثمانينيات القرن الماضي على يد حسن الأسمر ورفاقه، حتى اليوم.
«كتاب حزين كله مآسي»: دستور العذاب في قاع جهنم!
بالرغم من بداية حسن الأسمر كمطرب في الأفراح، فإنه يحظى بالشهرة الطاغية بأغنية تتنافى تمامًا مع لفظة الفرح، وهي «كتاب حياتي» الصادرة في ألبوم «مش هسيبك»، للشاعر يوسف طه، والملحن حسن عبد العزيز إذ لم يخلُ ميكروباص في مصر من هذه الأغنية، وفي مشهد مهيب، يميل السائق يمينًا ويسارًا، يتبعه الركاب، عندما يشعرون بأن كلماتها تلامس حياتهم الملأى بالحزن: «كتاب حزين كله مآسي.. تأليف زمان غدار قاسي.. الفرح سطر غلط مكتوب.. لما الزمان كان يوم ناسي.. مكتوب فى أول صفحاته: واحد غريب وآدي حياته.. هيعيش حزين ويسيبها حزين.. إمضاء زمن وتحياته». &pbjreload=10 ذلك النجاح الذي لاقته «كتاب حياتي» للأسمر، تم استثماره في العديد من أغنياته، مثل: «الله يسامحك يا زمان»، و«يا خوفي من سُكات زمني»، و«سألوني أنا مين»، وغيرها، كل هذه الأغنيات التي تُلقي بالعتاب المُر على الزمن، في شعور متنامِ بقسوة الحياة، لاقت انتشارًا واسعًا خارج دائرة حسن، فظهر مطربون آخرون ينتهجون النهج ذاته: رمضان البرنس، وعبد الباسط حمودة، ومجدي طلعت، وطارق الشيخ، وغيرهم، ممن يصفهم المؤرخ الموسيقي مؤمن المحمدي في كتابه «كل العواطف.. حكايات 100 غنوة» الذي كتبه بالعامية المصرية، كما هو ديدنه، فيقول: «من الصعب الكلام عن كافة أشكال العذاب في الأغنية المصرية، بس خلينا ناخد سلخة كده، بطلها الحاج حنفي محمود، والمقدس عبد المسيح محروس وولده نصر، ويمكن شوية سيد نصر، ودول أصحاب شركات إنتاج أغاني نشطت في التمانينات والتسعينات (...) وتخصصت في إنتاج الأغنية الشعبية لنجوم العذاب». ويضيف: «كانت آخر أغنية في ألبوماتهم، حاجة بيسموها الموال، مع أنها من الناحية الفنية مش موال، الموال ليه شكل في نظم الكلمات مش متوفر في الأغاني دي. بس يمكن لأنه لازم يدوها اسم معين، وكان الموال أقرب حاجة ليها. الأغنية دي كانت لازم تبقى حتة من قاع جهنم شخصيًا».أمل الطائر ومصطفى كامل: الحزن له شعرائه
لعل أقرب وصف يليق بالشاعر أمل الطائر، هو ما قاله عن نفسه في حواره لمجلة «روز اليوسف»: «أنا الصندوق الأسود للأغنية الشعبية في مصر»، فالرجل لم يمر من تحت يده مطرب شعبي واحد، إلا وغنى كلماته، حتى غير الشعبيين أمثال محرم فؤاد، وهاني شاكر، وسامو زين تعامل معهم، فالرجل يزيد رصيده الشعري على خمسمئة أغنية، إلا أن إسهامه في الأغنيات الشعبية الغارقة كلماتها في الشجن له مكانته الخاصة في ذاكرة مستمعيه. ويرجع الشاعر محمود رضوان السبب في حالة الحزن المسيطرة على الأغنية الشعبية في العقود الثلاثة الأخيرة، بأن هناك فئة في الشعب المصري تميل لـ«النكد»، ويشعر أفرادها بأن تلك الأغنيات خير معبر عنهم، ومنهم سائقو الميكروباص، وعمال الوِرش، الذين يعشقون دور المجروح، بحسب وصفه. ويضيف رضوان لرصيف22: «في المقابل التقط المنتجون تلك الفكرة، واستغلوا الشعراء أمل الطاهر وإخوته إنسان، وسمير، وسمرا، وبعدهم ظهر مصطفى كامل الذي لُقب بأمير الأحزان». ويشير شاعر «بننجرح» لمحمد منير إلى أن تردي الأوضاع الاقتصادية في السنوات الأخيرة ساهم في رواج هذا اللون، ولجوء مستمعيه للتنفيس عن ضيقهم بسماع تلك الكلمات، مُضيفًًا: «أوضح مثال على وصول هذه الأغنيات إلى قلوب الشعب المصري، خاصة الفئة التي تكابد الحياة، هو المشهد الشهير للفنان خالد الصاوي في فيلم الفرح، عندما أقام العرس خصيصًا لجمع النقود، المعروفة شعبيًا بالنقطة، ليشتري بها الميكروباص، ويرقص على أنغام عبد الباسط حمودة، وكلمات أمل الطائر: أنا تُهت مني أنا مش أنا.. أبُص لروحي فجأة لقيتني كبرت فجأة.. تعبت من المفاجأة ونزلت دمعتي». وعن رأيه في جودة الكلمات من عدمها، يقول: «غالبية هذه الكلمات جيدة جدًا، بل أفضل مما يكتبه شعراء كبار ومشهورون، ويكفي دخولها قلب مستمعها بسلاسة». الحديث عن الحزن في الأغاني لا يمكن أن يمر من دون التعريج على تجربة الشاعر مصطفى كامل، الذي كتب لغالبية مطربي الوطن العربي تقريبًا، واكتشف العديد من المواهب، فأصبحوا نجومًا فيما بعد، مثل بهاء سلطان، وجواهر، وحمادة هلال، وأعاد إحياء الفنان الراحل محمد رشدي، لكن على طريقته هو، وليس على طريقة الأبنودي. فالرجل بعد أن كان يغني في الستينيات: «تحت الشجر يا وهيبة ياما كَلنا برتقال»، صدح بأعلى صوته مع مصطفى: «على فين؟ ما تقولي يا قطر رايح فين؟ هترجعلي شبابي ولا هتزيد عذابي؟ نفسي أفرحلي يومين»، وفي عام 2001 قرر الشاعر أن يطرق مجال الغناء، فأصدر أول ألبوماته «رحلة عمري»، وتوالت الألبومات، ولم يخلُُ أي منها من الشجن، فلُقب بأمير الأحزان.الدنيا ماشية بضهرها!
قبل انتهاء العقد الأول من الألفية الجديدة، اختفى سوق الكاسيت الذي ساهم في انتشار ذلك اللون الشعبي على مدار ثلاثين عامًا، وانتشرت الأغنيات بجميع ألوانها على كل المواقع المتخصصة، وأصبح إنتاجها وتحميلها وسماعها أسرع وأسهل، وبالطبع أرخص، وتغير رواد الحزن، وظهر أيقونة العصر الحديث أحمد شيبة، الذي نافست أغنياته السنجل، أغاني كبار مطربي الألبومات العاطفية ذوي الشعبية الطاغية، منذ بدأ اكتساحه بـ«اللي مني مزعليني»، و«علشان معاييش». وكما كانت السينما قديمًا سببًا في انتشار أغلب المطربين الشعبيين، حدث الأمر نفسه مع شيبة، عندما التقطه المنتج محمد السبكي، وأخرجه من النطاق المحلي ووسط الطبقات البسيطة، إلى الشهرة في الوطن العربي كله، حين قدم له أغنيته «آه لو لعبت يا زهر» في فيلم «أوشن 14»، قبل عامين، وحققت 222 مليون مشاهدة على يوتيوب. ويرى الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، أن انتشار «آه لو لعبت يا زهر»، طبيعي، لأنها تخاطب الفئة الأكثر فقرًا في المجتمع، كالعمال والحرفيين، وعمال التراحيل، المعرضين لخسارة أعمالهم في أي وقت، لذلك نجحت جدًا. ويضيف صادق لرصيف22: «قسم كبير من المجتمع المصري دون مستوى الفقر، لذلك يشعرون بصعوبة ظروفهم، وأغنية شيبة بحديثها عن الديون، وعدم وقوف أحد بجانب الآخر في محنته المادية، لمست فيهم هذا الجزء المستتر خلف سعيهم الدائم للضحك وإلقاء النكات». وأشار سعيد إلى أن أي منتج دعائي أو فني يقدم للناس، يخاطب فئة بعينها، فالطبقة الوسطى التي تحب عمرو دياب، وإيهاب توفيق، وغيرهما من مشاهير الغناء العاطفي، تميل إلى أغنيات الهجر، والفراق، لأنها تعبر عن فقدانهم للحبيبة التي خطفها شاب أكثر ثراءً، ويرون فيها عزاء لأنفسهم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...