شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"الألم من عند الله"... قصة مريرة ترويها قابلة قانونية ساعدت نساء "داعش" في الرقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 27 أبريل 201804:56 م
لم تفقد الروايات الآتية من كواليس حياة مقاتلي "داعش" وزوجاتهم ومن اضطر للتعامل معهم قدرتها على إثارة الاهتمام والسعي للغوص أكثر في تفاصيلها، بينما تستمر الشهادات والوثائق بالظهور لتوثق جوانب ذلك العالم المظلم المليء بمشاعر الرعب والقهر والغرابة. آخر تلك الشهادات كان ما نقلته "واشنطن بوست" عن القابلة السورية سميرة النسر التي ساعدت زوجات مقاتلي "داعش" على ولادة أطفالهن على مدى حوالي ثلاثة أعوام، خلال مرحلة سيطرة التنظيم على مدينة الرقة السورية.   سميرة، التي ساهمت في ولادة آلاف الأطفال على مدى أربعة عقود في الرقة، تستذكر تلك الفترة مع عائلات التنظيم بمرارة. "إنهم ليسوا بشراً… هم نوع آخر من المخلوقات"، تقول في شهادتها، في الوقت الذي تروي فيه ذلك الجانب "الحميم" الذي شهدته من التشدّد، وهي تدخل عمق الحياة الخاصة لهؤلاء. 

مولود بزيّ عسكري

كانت أكثر اللحظات التي علقت في ذاكرة سميرة من تلك المرحلة الهمجية، برأيها، تلك التي شاركت فيها في ولادة زوجة أحد المقاتلين، والاثنان قادمان من تركيا. حسب روايتها، في البداية كانت الأمور تجري بشكل طبيعي، قبل أن تُفاجأ، عقب الولادة، بأن الوالدين حاولا إلباسه زياً عسكرياً. كان والده فخوراً بطفله "الذي سيكبر ليصبح مقاتلاً"، وهو ما أغضب القابلة التي حاولت إقناعه بعدم استخدام الزي، فالأخير مصنوع من مادة شديدة الخشونة لن تناسب جلد الكائن حديث الولادة. بعد وقت قصير من سيطرة "داعش" على الرقة عام 2014، بدأت تستقبل المكالمات الهاتفية على مدار اليوم. في البداية، كما تقول، حاولت رفض العمل غير أنها وجدت نفسها أمام خيار صعب، لأن رفضها يعني آلياً اتهامها بعدم التعاون ما قد يودي بها إلى السجن أو ميدان الإعدام. وخلال السنوات الثلاث تقريباً، كانت سميرة تُنقل مع المسلحين بسيارات الأجرة أو مشياً على الأقدام إلى منازل عائلات التنظيم (ومعظمهم من الأجانب)، تخبر سميرة وهي تحكي كيف تنوعت مشاعرها بين الخوف والغضب والعجز، فضلاً عن اختفاء مشاعر الفخر والفرح التي كانت تنتابها في وقت سابق على سيطرة "داعش" على المدينة. وعبّرت القابلة عن استيائها من مسلحي "داعش" الذين لم يحترموا مهنتها، بل كانوا يعاملونها كمساعدة لا مسؤولة عن عملية الولادة كما اعتادت هي، وتقول إنهم كانوا يخرجونها من المنزل بعد انتهاء المهمة مباشرةً.
بعد وقت قصير من سيطرة "داعش" على الرقة عام 2014، بدأت سميرة تستقبل المكالمات الهاتفية على مدار اليوم. في البداية حاولت رفض العمل غير أنها وجدت نفسها أمام خيار صعب...
ما زالت سميرة تذكر بقوة آخر عملية ولادة شاركت فيها. كان ذلك في الأيام الأخيرة لمعركة طرد مقاتلي داعش من الرقة في أكتوبر. تحكي كيف استدعاها إلى منزله مقاتل صومالي لتوليد زوجته اليمنية التي كانت تعاني من إصابة في الرأس...
وبحسب "واشنطن بوست"، فإن أطفال "داعش" أنفسهم كانوا يُعامَلون كمساعدين إذ كانت وظيفتهم أن يكونوا شخصيات محورية في مقاطع الفيديو الدعائية لدولة الخلافة المزعومة. وتركز تلك الفيديوهات على الأطفال من مختلف الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية أثناء دراستهم لعقيدة التنظيم، أو التدريب واللعب بالأسلحة، فيما أظهرت أخرى مراهقين يعدمون ضحايا بتهمة التجسس أو التعاون مع الأعداء أو الارتداد عن الدين.

"الألم من عند الله"

كان الأزواج الداعشيون يفرضون قواعد قاسية على كل النساء الحوامل، تقول سميرة التي تكشف كيف أمروها بعدم إعطاء زوجاتهم الحوامل، كما زوجات غير الداعشيين، المسكنات أو أي أدوية أثناء المخاض. كانت بعض النساء يقضين 10 ساعات في آلام المخاض من دون استخدام أدوية مسكنة أو مخففة للآلام كانت تحرص سميرة على تقديمها للنساء، وذلك لأن "الأدوية تنتهك تقاليد الإسلام وإرادة الله… فالألم من عند الله". ثم كان المقاتلون يقدمون تفسيرات لذلك، باعتبار أن الأدوية تمنع النساء من الفوز بالثواب مقابل معاناتهن، وفي حال بقين دون دواء فسيفزن بمكافآت من الله أكبر، بينما لم يكن أمام الزوجات سوى الرضوخ.   مع ذلك، برأي سميرة، كانت تلك مجرد أعذار بسبب خوفهم من أن تعمد إلى تسميم زوجاتهم، شارحة بالقول "لا يثقون بالدواء الذي أقدمه للزوجات، إذ لم يكونوا يسمحون لي حتى بتقديم كوب ماء لهن، إلا في حال سكب الزوج الكوب بنفسه".   

"بيت الأرملة" الكينيّ

مع سيطرة "داعش" على الرقة أواخر عام 2014، أخبر جار سميرة الكردي أنه تم إجلاؤه ليقيم في منزله رجل كيني يُدعى "أبو وليد" مع زوجته وثلاثة أبناء وابنة زوجته الألمانية. سريعاً، اتضح أن "أبو وليد" قد أصبح مسؤولاً في التنظيم عن شؤون الأرامل اللواتي قُتل أزواجهن في الحرب. وحين لاحظ الجار الكيني الجديد اللافتة التي تعلن عن الخدمات التي تقدمها سميرة، دعاها لمقابلته في مقرّ عمله الذي أسماه "بيت الأرملة".
كانت بعض النساء يقضين 10 ساعات في آلام المخاض من دون استخدام أدوية مسكنة كانت تحرص سميرة عادة على تقديمها للنساء، وذلك لأن "الأدوية تنتهك تقاليد الإسلام وإرادة الله… فالألم من عند الله".
رفضت سميرة العرض بحجة أنها أصبحت مسنة (66 عاماً) وضعيفة، لكنه أصرّ على اصطحابها "بيت الأرملة"، هناك حيث وجدت نساء حوامل من دول كثيرة منها تونس والسعودية والمغرب واليمن والصومال وإيرلندا وفرنسا وروسيا وتركيا وألمانيا... تروي سميرة كذلك أنها فوجئت بسوريا تتراوح أعمارهن بين الثالثة عشر والخامسة عشر. وفي كلّ مرة كانت تُدعى فيها لتوليد واحدة من النساء، كانت تتمنى أن تكون الأخيرة، إذ تقول مجدداً "إنهم ليسوا بشراً… هم نوع آخر من المخلوقات".

3 رصاصات ومولود صومالي... وجرح غائر

على الجدار أمام منزلها، الذي نجا من دمار الحرب والضربات الجوية، تضع سميرة لافتة - تشوهها ثلاث رصاصات من آثار حرب شنتها العام الماضي القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة لطرد "داعش" من المدينة- تعلن عن خدماتها وتحمل الاسم الذي تشتهر به: أم علاء، نسبةً إلى ابنها الأول الذي يرغب في أن يصبح مستقبلاً طبيباً في الرقة. وبحسب سميرة، كانت الحكومة السورية تعرض خدمات مجانية لعمليات الولادة، ولكن قيادات داعش فرضت رسوماً من أجل تلك الخدمات سعياً لرفع إيرادات "دولتهم" من خلال ما يعادل 20 دولاراً للولادة الطبيعية و50 دولاراً للولادة القيصرية. ولكن رغم فرض تلك الرسوم، بقيت مشكلة مقاتلي "داعش" في عدم الثقة في الأطباء والممرضين السوريين الذين سيتولون مهمة توليد زوجاتهم، وذلك خوفاً من تسميم المواليد والأمهات من قبل طاقم المستشفى المعارض لحكم التنظيم، وفق ما روت سميرة. كانت سميرة خياراً جيداً لهؤلاء، ولم تعد تذكر عدد المواليد الذين أسهمت بخروجهم إلى العالم، إلى حين حانت لحظة تحررها، مما اعتبرته تجربة مريرة، مع تحرر المدينة. ما زالت سميرة تذكر بقوة آخر عملية ولادة شاركت فيها. كان ذلك في الأيام الأخيرة لمعركة طرد مقاتلي داعش من الرقة في أكتوبر، وتحكي كيف استدعاها إلى منزله مقاتل صومالي لتوليد زوجته اليمنية التي كانت تعاني من إصابة في الرأس، جراء لسقوطها من دراجة كان يقودها هو بسرعة كبيرة ليتفادى ضربات التحالف الدولي الجوية. رفض الزوج علاج رأس زوجته الذي ينزف، قبل أن تقوم سميرة بتوليدها. وقد تعرضت القابلة لضغط نفسي كبير، حيث أصرّت على رفضها القيام بذلك. الآن تجلس سميرة في منزلها متخبطة بين مشاعر متناقضة و"معايير أخلاقية" متضاربة، فيما ترى أنها كانت مجبرة على ذاك النوع من العمل كما كانت تساعد أطفال أبرياء لا يتحملون المسؤولية. لكن وجعها الغائر في العمق لا ينبع من هنا بشكل أساسي، فابنها علاء الذي كان يحلم بأن يصبح طبيباً قد قُتل وهو يساعد جرحى الحرب قبل أن يبلغ عامه الأربعين بقليل. "قلبي أسود من الظلم، والوجع عميق عميق"، هكذا تختم سميرة قصتها.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image