محطّة الذكريات، الغربة، العمل، الأهل، الجامعة، الحبّ، الجيش، الوجوه التي تراها مرة واحدة، الصداقة التي لا يتعدّى عمرها ساعات قليلة، حكايات الناس… شهدت النهضة الحديثة لمصر، 4 ثورات، النكسة، الحرب، ولا تزال ثابتة في مكانها لا تحرّك ساكناً. إنها "محطة مصر" (محطة رمسيس حالياً)، ثاني خطّ حديدي في العالم والأول في الشرق الأوسط.
بدأت قصّة المحطّة حين فرغ الإنجليز من مدّ الخطّ الحديدي بين "ليفربول" و"مانشستر". ثم قرروا نقل التجربة إلى مصر، فاستعانوا بالمهندس الاسكتلندي توماس جفرسون جالواي، وكان مهندس محمد علي الخاص، ليعرض عليه فكرة مشروع إنشاء طريق حديدي يبدأ من عين شمس ثم يخترق الصحراء إلى السويس.
وافق محمد علي في مطلع عام 1834، على اقتراح جالواي ومنحه الإذن لفحص المشروع وتفويضاً بحق الامتياز. قدم جالواي تقريره إلى الوالي ذاكراً فيه التكاليف التي قدرها بثلاثمئة ألف جنيه إنجليزي من أجل إنشاء خطّ طوله 80 ميلاً بين القبة والسويس، إلا أن فرنسا أوعزت إلى قنصلها العام بارو أن يضع عقبات في سبيل تنفيذ المشروع، حتى لا تعرقل نيتها المبيتة حفر قناة تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر. وبالفعل عدل محمد علي عن قراره إنشاء خط سكة الحديد كما رفض اقتراح بارو في شأن حفر قناة السويس.
وصلت المعدّات التي يقتضيها إنشاء السكة، بناء على طلب محمد علي، قبل رفضه من إنجلترا، إلى الإسكندرية. وظلت متروكة على الشاطئ خمسة عشر عاماً إلى أن علاها الصدأ، واستُخدم جزءٌ من هذه القضبان والفلنكات في إنشاء خط يصل بين محاجر الدخيلة وميناء المكس، وهو أول خط حديدي أنشىء في مصر.
سارعت إنجلترا بعد وفاة محمد علي في أغسطس عام 1849، عن طريق قنصلها والم، إلى توطيد علاقتها بالوالي الجديد، فتقدّمت المحادثات بين القنصل البريطاني وعباس الأول، وانتهت بوضع المشروع في صيغته النهائية، ثم أوفد الإنجليز روبرت ستيفنسن، نجل مخترع القطار، إلى مصر عام 1850. طلب هذا الأخير من عباس الأول أن يكون بدء الخطّ من الإسكندرية إلى القاهرة فإلى السويس، فوافق.
وقف ستيفنسن، في أول سبتمبر 1851، ومعه مجموعة من المهندسين الإنجليز، تحيط بهم جموع العمّال والفلاحين، وضرب بيده المعول الأول، فابتدأ العمل في الحال، وما إن أتى شهر إبريل 1853 حتى كان الخط من الإسكندرية إلى بلدة كفر العيس، قبالة كفر الزيات، قد أُنجز.
كانت فرنسا تتوقّع الفشل للمشروع، وخصوصاً حين توفّى عباس الأول عام 1854، وتولّى "سعيد" العرش، فتحولت الأنظار إلى مشروع حفر القناة، وكانت النتيجة أن تأخّر العمل في مدّ الخطوط الحديدية، ومع ذلك استطاع المقاولون أن يحصلوا على مدد من البيوت المالية في لندن، وأكملوا عملهم بهذه المساعدات.
شيّدت محطة مصر عام 1855 خارج أسوار المدينة عند بوابة الحديد في طريق شبرا، وجاء بناؤها عربي الطراز، صممها وأشرف على بنائها المهندس أدوين بانس. افتُتِح الخط «القاهرة - الاسكندرية» في يناير 1856 باحتفال رسمي حضره كبار رجال الدولة والقناصل الأوروبيون، وبذلك تم اختزال الرحلة من الإسكندرية إلى القاهرة في سبع ساعات بعد أن كانت تقطع بنحو 42 ساعة بالزوارق في ترعة المحمودية أو بالبواخر في النيل.
واكبت المحطة تطوّر القطارات في مصر وتاريخها، إذ استخدمت بها القاطرة الأولى التي وصلت إلى مصر عام 1852، وهي من صنع ستيفنسن وشركاه، وبقيت مقصورة على استعمال الركاب. ثم جرى استيراد بضع قاطرات صنعها مهندسون من إنجلترا، وفرنسا، وبلجيكا، وألمانيا. وظلت إنجلترا محتكرة استيراد القاطرات حتى عام 1858، عندما اشتُرِيت قاطرات فرنسية بواسطة فرديناند ديليسبس.
أول ثورة مصرية في التاريخ الحديث، وهي الثورة العرابية، كانت محطة مصر طرفاً فيها، إذ لحقت بها الخسائر وغزاها التلف بعد أن انتقلت إلى الموظفين العسكريين وأُبعد الفنّيون الأجانب عنها، وأخضع زعماء الثورة السكك الحديدية لأوامرهم العسكرية. مع تفاقم الأحداث، احترق مبنى المحطة عام 1882 ونُهبت محتوياتها.
عادت المحطّة إلى سابق عهدها في أكتوبر 1883، وأُعيد بناؤها على الطريقة القديمة نفسها، وبدأ الإنجليز بالعمل وفق برنامج إصلاحي للمحطّة وللسكك الحديدية.
عام 1919، انطلقت الثورة الثانية التي مرّت أيضاً بمحطة مصر، وكان عمّالها مضربين. اضطرّت السلطات البريطانية إلى إرسال عدد كبير من الجنود كي يتدرّبوا في ورش العنابر في بولاق، ثم يحلّوا محل العمال المصريين إذا استمروا في الإضراب. إلا أن العمال أتلفوا محوّلات حركة القطارات وقطعوا خطوط السكك الحديدية، فأدّى ذلك إلى انتشار فكرة قطع السكك الحديدية في مصر، ودفع بريطانيا لأن تصدر أحكاماً بالإعدام لكل من يتوّرط في عمل كهذا. علماً أن المحطة بقيت صامدة، فلم يلحق بها الأذى مثلما حصل خلال الثورة العرابية.
في ثورة يوليو 1952 كانت المحطة قد شاخت. فقرر جمال عبد الناصر توسعة المبنى عام 1955 وتطويره. وفي عام 1961 طوّرت المحطة تطويراً كبيراً، لا سيما واجهتها الأمامية، لكنها ظلت تتسم بالطراز الإسلامي على الطريقة الأندلسية.
مضى نحو نصف قرن والمحطة على حالها حتى عام 2008 عندما نفّذت الحكومة المصرية مشروع تطويرها وقد فرغت منه عام 2011.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...