لطالما شكّلت آلام الشعوب وتقلّبات الحكم والسياسة مادة خصبة لفن النكتة السياسية والاجتماعية الذي لا يموت. وسواء تناقلها الناس همساً أو قيلت على مسرح، تلعب النكتة في كثير من الأحيان دور الدواء المهدئ للشعوب، وتلعب أحياناً أخرى دوراً نضالياً ضد السلطة أو دوراً دعائياً يصبّ في خدمتها.
النكتة السياسية... مقاومة ثقافية
يعتبر الدكتور عمار يزلي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة وهران الجزائرية، في دراسة بعنوان "النكتة السياسية في العالم العربي وفي الجزائر" أن "النكتة تُعتبر أحد أهم أشكال المقاومة الثقافية في مجتمع يعاني من الاحتقان والضغط بكل أشكاله".
ويشير إلى أن النكتة هي الشكل الفني للسخرية وهي "البناء المعماري للنقد الساخر" في المجتمع.
ويوضح أن النكتة وليدة أشكال سوسيولوجية محددة تاريخياً واجتماعياً، وأن المجموعات الاجتماعية تبدع وتنتج النكات الخاصة بها من مواقع انتماءاتها ومن مواقع مواقفها، وتقوم بتسويقها وترويجها. ولذلك، لا غرابة في أن تجد للمعلمين نكتهم الخاصة وللطلبة نكتهم، وكذا للأطباء وللموظفين في القطاعات المختلفة، "لتعبّر عن خصوصية عملهم وانشغالاتهم".
ولكنه يلفت إلى أن "النكتة لا تبقى حبيسة الوسط السوسيو-وظيفي الذي ابتدعها، بل تنساب وتتسلل" ليشكّل تداولها عاملاً أساسياً في حياتها أو موتها في المهد، وهذا "يتوقف على مدى مشروعيتها وسلطتها على المتلقي وأيضاً على مدى حبكتها الفنية وقالبها الرمزي والدلالي المؤدي إلى الإضحاك".
ويعتبر يزلي أن النكتة هي أحد أشكال المقاومة ويقول إن المجتمعات التي ينعدم فيها وجود منابر ديمقراطية وتسود فيها شمولية ممارسة الدولة لسلطتها، باسم الشعب أحياناً وباسم رموز تاريخية أحياناً أخرى، تنزع إلى "إنتاج أشكال وأساليب مقاومة لكسر المحظور، وتفتيت التابوهات"، فتظهر النكتة السياسية.
ويلفت إلى أن هذا "يحدث حتى في المجتمعات العريقة في الديمقراطية والحريات الفردية"، مع فارق أنه هناك "نلاحظ ندرة إنتاج النكتة السياسية وسيطرة النكتة الاجتماعية الأخلاقية".
وأشار أستاذ التاريخ عاصم دسوقي إلى أن التنكيت يزداد حين تشتد الأزمات وفي حالات القلق والتوتر، سواء أكانت أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وقال لرصيف22: "تنتشر لعجز الرأي العام عن التعبير عن رفضه من خلال القنوات الرسمية أو من خلال المؤسسات السياسية".
ويذكر عادل حمودة في كتابه "النكتة السياسية" أن النكات "كثيراً ما ذكرت الحكام بالاسم أحياناً وصوّرتهم في أوضاع غير لائقة... فقد أراد الناس أن يؤكدوا لأنفسهم أن هؤلاء الأقوياء ليسوا آلهة ولا أنصاف آلهة وأنهم مثلهم يتعرّون وينهزمون ويتوجعون".
فضاءات تسويق النكتة
تختلف أماكن تسويق النكات، ولكن "الفضاءات الأكثر مساهمة في إعادة إنتاج ونشر وتوزيع النكات الاجتماعية هي الفضاءات المفتوحة كالمقهى والشارع وأماكن العمل"، بحسب أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية في القاهرة سعيد صادق.
ويشرح صادق أن "مؤسسة العائلة هي الفضاء الذي تُعالج فيه وتكرر النكات السياسية، فقد أثبتت الأبحاث حول النكتة أن الفضاء الذي قيلت فيه النكات السياسية بنسبة أكبر هو البيت والأسرة تليها المؤسسات التعليمية ثم المجالس العامة كالمقاهي والتجمعات في المناسبات الاجتماعية".
وتعبّر النكتة السياسية عن واقع العلاقة بين الناس وبين الحكام، وبالتالي يمكن أن تظهر في إطار ديمقراطي كما يمكن أن تظهر في عالم مستبد. ولكن، بحسب صادق، فإن "نكتة الاستبداد مكانها هو الدهاليز والبيوت المغلقة والمشي بجانب الحائط، إذ يصاحبها الخوف والتوجس".
النظام السياسي وطبيعة النكتة
في العصر الحديث، عرفت النكات السياسية طريقها إلى تقارير أجهزة الاستخبارات ووسائل قياس الرأي العام. وتأكد أن أجهزة الاستخبارات تهتم بجمع النكات السياسية وتحليلها وصياغتها في تقارير.
وتخشى بعض الأنظمة السياسية من استخدام "أعدائها" للنكتة في صراعهم معها، إلى الحد الذي جعل الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر يطلب من الشعب، في خطبة ألقاها في الذكرى الـ15 للاحتفال بثورة 1952، التوقف عن ترديد بعض النكات باعتبارها سلاحاً للعدو لا يجوز استعماله، وباعتبارها تحمل توجيهاً سياسياً هدفه كسر معنويات القوات المسلحة، ملمحاً إلى وقوف إسرائيل خلفها.
ومما قاله عبد الناصر في خطابه المذكور: "موجة النكت اللي طلعت إحنا انجرينا فيها وما فهمناش بتسبّب إيه النكت اللي طلعت... النكت اللي طلعت تجرح كرامة ناس هم أولادنا وإخواننا، وأنا نفسي كنت بسمع النكت برضه... الشعب المصري... شعب له فلسفة بتاعته، وطبيعته... شعب يحب النكتة، وأنا بعتبر إن دي ميزة لأنه بيفلسف بيها الأمور، لكن إذا جا أعداؤنا استغلوا فينا هذه الطبيعة علشان يحققوا هدفهم، لازم نكون ناصحين... كل فرد فينا مسؤول، بيقول إيه الهدف من كذا؟ الهدف من كذا هو كذا، تثبيط العزيمة، فقدان الثقة، بالنسبة للقوات المسلحة تيئيس القوات المسلحة، الله!... طب إذا احنا شاركنا في دا يعنىي إيه؟ يعني بنحقق أهداف العدو".
تبنّي "نظرية المؤامرة" القائلة بإنتاج العدو للنكات نجده أيضاً في كتاب "الحرب النفسية معركة الكلمة والمعتقد" لصلاح نصر، رئيس جهاز المخابرات العامة وقت عبد الناصر.
يكتب نصر: "إنه من الغريب والمخزي وجود سفارة أجنبية في القاهرة تستخدم النكات كوسيلة من وسائل الحرب النفسية وكأن بها قسماً خاصاً وظيفته خلق الشائعات وترويجها في شكل نكات، ويساعدها في ذلك شرذمة من الخونة والمأجورين".
ويرجّح حمودة في كتابه "النكتة السياسية" أنه يقصد السفارة الأمريكية، إذ اشتد في ذلك الوقت الصراع بين جمال عبد الناصر والولايات المتحدة وسخر الرئيس المصري الأسبق في خطاب علني من الأمريكيين وقال: "اللي سلوكنا مش عاجبه يشرب من البحر".
وشاعت وقتها نكتة مفادها أن عبد الناصر تخفى ليتفقد أحوال الناس، فسمع موظفاً يقول لزميله إن راتبه ينفذ بعد اليوم العاشر من الشهر، فسأله زميله: وكيف تعيش باقي أيام الشهر؟ فأجابه: على الستر، فأصدر عبد الناصر قراراً في اليوم التالي بتأميم الستر.
ومن النكات المتداولة عن عبد الناصر واحدة ظهرت بمناسبة أزمة التموين: "واحد صياد عايش في البحر اصطاد سمكة وقال لمراته عايز السمكة مقلي فقالت: ما فيش زيت، قالها اشويهم: قالتله ما فيش ردة فرمى السمك في البحر، فقال السمك: يعيش جمال عبد الناصر".
اهتمام النظام المصري بالنكات لم يتوقف بعد وفاة عبد الناصر. فقد اعترف وزير الداخلية المصري الأسبق اللواء حسن أبو باشا لمجلة روز اليوسف في عدد 3 مارس 1998 أن أجهزة الأمن كانت تجمع النكات في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات.
وروى أن "جهاز أمن الدولة يقوم بجمع النكات... وهو أسلوب أمني متّبع منذ سنوات طويلة ومن خلاله كانت تتجمع لدى الجهاز كثير من النكات السياسية المتداولة بين الناس وكنت وأنا مدير الجهاز أقوم بعرض تقرير أسبوعي على مجلس الوزراء عن اهتمامات الرأي العام من خلال تحليل النكات ومدلولاتها، وكان من الممكن تفادي الانتفاضة الشعبية في مصر في 18 و19 يناير سنة 1977 لو أخذوا بالنكتة".
للنكات السياسية وظائف كثيرة ولكن "الشعوب كثيراً ما تضحك دون أن تعلم... أو كثيراً ما تضحك على طريقة ‘الأطرش في الزفة’"...
"النكات الاجتماعية" التي تسخر من أبناء مناطق بعينها، كالمعسكريين في الجزائر والصعايدة في مصر والحماصنة في سوريا، حققت فوائد للسلطات القمعية من خلال خلق انقسامات وهمية تبعد الناس عن التركيز على ما يتعرضون له من ظلموقال وزير الثقافة المصري الأسبق شاكر عبد الحميد لرصيف22 إن "الحكام في العالم العربي استخدموا النكتة السياسية وروجوها لتحقيق أهداف بعينها، منها إلهاء الناس عن مشاكلها الاجتماعية ومنها تحقيق غرض التنفيس وأحيانا لتحجيم المعارضة". وفي هذا السياق، روى صادق أن "الحكومات تروّج نكاتاً عن المعارضين لكي تفقدهم أوزانهم السياسية ولتنال من هيبتهم كما حدث في مصر مؤخراً مع شخصيات مثل محمد البرادعي وحمدين صباحي". استخدام النكتة لتصفية حسابات في كواليس الحكم يروي عادل حمودة في كتابه "النكتة السياسية" أن "النكتة قد تأتي من أعلى لتصفية حسابات وصراعات في كواليس الحكم وعندما تصل إلى أسفل يضحك الناس عليها دون أن يعرفوا أصابت مَن؟ فالشعوب كثيراً ما تضحك دون أن تعلم... أو كثيراً ما تضحك على طريقة ‘الأطرش في الزفة’، ففي الصراع الخفي بين جماعتي جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر استخدمت النكتة، وكانت كقبضة ملاكم يوجه ضرباته تحت الحزام ومن ثم نزعت ما يستر عورة الحكم وعبثت بالمحرمات وتجاوزت الحدود وراح كل طرف يقذف بها الطرف الآخر ليشوه صورته لتصبح صورة مهرج في سيرك". ومن أمثلة النكت الموجهة ضد عبد الحكيم عامر: قال عبد الحكيم عامر لشمس بدران: مدير مكتبي ده شخص غبي. فسأله: إزاي؟ فقال له: انتظر. واستدعى عامر مدير مكتبه وقال له "روح بيتي شفني إذ هناك أو لا". فخرج الضابط وغادر المبنى وبعد فترة عاد ليقول للمشير: للأسف يا أفندم سيادتك مش في البيت ثم أدى التحية وانصرف. فالتفت المشير إلى شمس بدران قائلاً: "مش قلت لك إنه غبي؟ كان ممكن يوفر المشوار ويسأل عني في البيت بالتليفون". النكتة السياسية... خارقة للحدود هل من الممكن أن ينتج الظرف السياسي نكاتاً متشابهة في أكثر من بلد؟ يجيب عمار يزلي في دراسته المذكورة قائلاً: "ما تتميز به النكتة السياسية هو كونها نكتة خارقة للمجال السياسي والحدود الجغرافية. فهي تنتقل من بلد إلى بلد ومن نظام إلى نظام ومن شعب إلى شعب آخر" حين تتشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ويضيف: "بإمكاننا أن نلاحظ أن كثيراً من النكات السياسية التي قيلت في الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قيل منها البعض في شخصية الرئيس (الجزائري) هواري بومدين، وتدور مواضيعها بشكل عام حول قلة حرية التعبير والقسوة السياسية". وبعد وفاة عبد الناصر، سرعان ما تحوّلت النكات إلى السخرية من جهل وأمية أنور السادات (العلم نور... والجهل أنور). كذلك جرى في الجزائر مع صعود الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد لخلافة بومدين، إذ بدأت النكات تسخر من جهل وأمية الرئيس الجديد (يضرب ابنه لأنه قال له: أنت أمي! معتقداً أن ابنه لا يفرق بينه وبين أمه). النكتة سلاح بيد الاستعمار يرى يزلي أن سلاح النكتة استخدمه أيضاً الاستعمار الذى سعى إلى خلق عداوات بين الشاوي والقبائلي، لسبب بسيط هو أن الشاوي الذي يتمركز حول جبال الأوراس، شرقي الجزائر، كان عصياً على الاستعمار وقاوم الاحتلال، ومقرباً من العرب والثقافة العربية لأسباب تاريخية تتعلق بنمط الإنتاج الرعوي المتناغم مع القبائل العربية. وظهرت نكت مثل: قبائلي يمرّ على مقبرة، ممتطياً حماره فيتوقف وعوض أن يقول: رحمكم الله يا أهل المقبرة، يقول لهم: إذا كنتم قبائل، يقبلكم آربي، وإذا كنتم شاوية، يشويكم آربي وإذا كنتم عرباً..أرَا..أرَا..(يلكز حماره بما معناه: دعنا ننصرف لأن ما سوف أقوله في حقهم، لا ينتهي". وسعى المستعمر الفرنسي إلى ضرب العرب بالأمازيغ تطبيقاً لنظريته القائلة "لكي نسيطر علينا أن نبربر"، فظهرت النكات التي تسخر من العربي الخشن والجاهل والتي يظهر فيها البربري كشخص متحضّر وشجاع. ولكن بالتوازي مع ذلك، ظهرت أيضاً نكات تصوّر البربري كشخص غير متديّن وبلا أخلاق. هذا النوع من النكات سينعدم تقريباً بعد استقلال الجزائر، ما عدا بعض النكات التي كانت فرنسا تروِّجها لضرب الجزائري بالمصري مثلاً أو المغربي أو التونسي أو العكس، والسبب: مصر الناصرية. ومن النكات التي تتأسس على الترويج لفكرة أن الجزائريين دمويون ويكرهون الآخر: جاء رجل سياسي مصري ليلتقي ببعض القيادات العسكرية في جيش التحرير سابقاً، الجيش الوطني الشعبي حالياً، لكنه وصل متخلفاً عن موعد الأكل، فسأله أحدهم إن كان قد أكل، فَرَدَّ عليه بأنه لم يأكل بعد، فطلب الضابط من أحد العناصر أن يذهب بالرجل إلى المطعم القريب، ويدفع له ثمن غدائه، وقال له باللهجة الجزائرية: "روح خلّص عليه" ("خلّص عليه" معناها الغداء يكون على حسابك)، فرد الرجل مرعوباً: "يا بيه... وأنا عملت إيييه؟"، معتقداً أنهم ذاهبون به للذبح. ويبدي يزلي اعتقاده بأن جهاز الاستخبارات الجزائري روَّجَ لنوع من النكات الموجودة بكثرة في البلدان العربية قديماً وحديثاً، والتي تختزل الصراع السياسي الاجتماعي في عنصرين اثنين: البدوي، والمديني (البدو والحضر على رأي ابن خلدون). وهذا النوع من "النكات الاجتماعية" التي تسخر من أبناء مناطق بعينها كالمعسكريين (أبناء مدينة معسكر في غرب الجزائر، وهي مدينة الأمير عبد القادر الجزائري) والصعايدة في مصر والحماصنة في سوريا، حقق فوائد للسلطات القمعية من خلال خلق انقسامات شعبية وهمية تبعد الناس عن التركيز المشترك على مظالم الأنظمة والفساد والعنف. وهناك أيضاً النكات التي تتزامن مع صراعات الدول. تروي الدكتورة حميدة سميسم فى كتابها "الحرب النفسية" أن النكتة استُخدمت كسلاح بين الأنظمة وتقول: "الحرب العراقية الإيرانية شهدت استعمالاً يصح أن نطلق عليه ‘حرب النكتة’ بحيث كان لم يكد يخلو البرنامج اليومي لإذاعة طهران باللغة العربية من محاولات لإثارة الفكاهة والنكتة السياسية بوسائل وأساليب متعددة، ويبدو أن الإيرانيين استفادوا من خبرتهم أيام المعارضة ضد الشاه في استعمال هذا السلاح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...