"تونس والجزائر شعب واحد" مقولة ثابتة لدى وصف العلاقات العميقة بين البلدين. ربما كتابتها في هذا المقال لا تمثل إضافة، ولكن من المفيد أن نتحدث اليوم في شأن مقولة أخرى، هي "قد صار للجزائر وتونس سوق واحدة".
كيف حدث هذا؟ ولماذا؟
في ظل اقتصاد صعب، سماته تدهور المقدرة الشرائية وارتفاع نسبة التضخم إلى أكثر من 7%، ومعطيات اجتماعية هشة، أبرزها وصول نسب البطالة إلى 15.5%، يسعى المواطنون التونسيون إلى التأقلم مع معطياتهم المعيشية الجديدة وإيجاد البدائل الملائمة لمجابهة سياسة التقشف الوطنية والتحايل على غلاء الأسعار وتدهور قيمة الدينار من خلال سياحة التسوق في الجارة الجزائر، التي تحولت إلى ملاذ للتبضع وابتياع جميع المستلزمات، خصوصاً للمقبلين على الزواج.دبي الجزائر
في العادة، تحيل عبارة سياحة التسوق على الترف والتنقل بين المولات ومراكز بيع الماركات العالمية في عواصم الموضة، كميلانو وباريس ودبي. ولكن سياحة التسوق في الجزائر هذه المرة مختلفة تماماً، لأنها لا ترتبط بدبي إلا بالاسم، من خلال أشهر أسواقها لدى السياح التونسيين وغيرهم "سوق شارع دبي". علماً أن شارع دبي الكائن بمدينة العلمة بمحافظة سطيف يعد الآن أحد أكبر الأقطاب التجارية في الجزائر ومنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. تعود بداية نشأة هذا الشارع السوق إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضي بعد تحرير الحكومة الجزائرية قطاع التجارة الخارجية، الذي تم بموجبه حينذاك فتح المجال أمام الخواص لإنشاء شركات للاستيراد والتصدير.يسعى المواطن للاحتيال على قانون المالية عبر الاعتماد على الاستهلاك من السوق الجزائرية، عبور يومي للتزود لا يجرمه القانونورغم أنها تبعد عن الحدود التونسية 400 كلم، لم يمنع ذلك التونسيين من التوافد إليها مستهلكين وتجاراً، مثلما يؤكد باديس ورّاث، شاب جزائري من سطيف، في حوار لرصيف22، ويضيف:'"هذه السوق تمثل نقطة حيوية ومقصداً لجنسيات كثيرة، في مقدمتها الجنسية التونسية، كما أن التجار الجزائريين المحاذين لتونس في مدن مثل العاتر والونزة ومنطقة الدبداب وواد سوف يتزودون من هذه السوق". وتشير الأرقام الواردة في المعهد الوطني للإحصاء إلى أن عدد التونسيين الذين يزورون الجزائر قد تطور بين 1995 و2015 حوالي ثماني مرات (من 30.9 ألفاً إلى 553.5 ألفاً). وقد كانت الثورة التونسية سنة 2011 لحظة فارقة من حيث تضاعف العدد من 285.6 ألفاً سنة 2010 إلى 492.7 ألفاً سنة 2012 . وهو نمو يحافظ على وتيرته كما تثبت ذلك الحركية النشطة في الحدود الجزائرية التونسية، والتي قابلتها الحكومة الجزائرية في يونيو الماضي بتقليص مدة الإجراءات برياً من 30 دقيقة إلى 5. وعزز العدد المتزايد للوافدين التونسيين إلى الجزائر عودة رحلات القطار بين البلدين السنة الماضية إلى جانب زيادة عدد الرحلات الجوية ودخول وكالات السفر على الخط. يقول أيمن محرزي، منظم رحلات تونسي، لرصيف22: "بالإضافة إلى أن الأسواق في الجزائر، وخاصة سوق العلمة، تتميز بانخفاض أسعار الملابس والإلكترونيات ذات الجودة الممتازة، فإن معاملة الجزائريين المميزة للتونسيين تجعل من الجزائر الوجهة المثالية على كل الأصعدة". ويضيف أن في الرحلة الأخيرة التي نظمها وشارك فيها 45 شخصاً، فوجىء بوجود أكثر من 35 رحلة قادمة من تونس لقضاء عطلة نهاية الأسبوع.
توافر وتوفير
"في الجزائر يمكنكم أن تجدوا كل شيء حتى حليب الغولة"، تحدثنا سناء النفزي، فتاة عشرينية من تونس، وحليب الغولة هو مصطلح تونسي يستعمل للتدليل على توفر كل ما لا يخطر ببال. وتقول: "رغم أنني لم أزر الجزائر بعد، فإني أسمع من أقاربي وأصدقائي أن أسعار كل شيء هناك متدنية، وأن الألف دينار تونسية يمكن أن تؤثث منزل عروس. وقد تذوقت أجبانهم وهي لذيذة جداً، ويتملكني الشوق إلى أن أزور الجزائر وأتعرف على أسواقها". ولمعرفة الفرق بين أسعار السلع المهمة بين تونس والجزائر، مكننا باديس ورّاث من الاتصال بأحد التجار بسوق شارع دبي، ومن هذا التاجر عرفنا أن الفرق في أسعار التجهيزات الالكترونية قد يصل إلى أكثر من 250 دولاراً للبرّاد مثلاً. علماً أن سعر لتر البنزين بالجزائر يساوي تقريباً ثلث سعره بتونس، يقول علي عبد الواحد، ممثل مسرحي وطالب في علم الاقتصاد، لرصيف22: "إن حالة الغلاء في تونس دفعت التونسيين على الحدود إلى الدخول يومياً إلى الجزائر لشراء الحاجات أو ملء خزاناتهم من البنزين الذي يدخل عن طريق التهريب أيضاً". تعود أسباب هذا التباين الكبير في الأسعار إلى تدني العملة الجزائرية مقارنة بنظيرتها التونسية، إضافة إلى تحرير المبادلات التجارية الخارجية في الجزائر، وهذا ما يوفر لشركات الاستيراد الجزائرية أرباحاً ضخمة.إجراءات حماية تونسية
من وجهة نظر تونسية، تعدّ السلع القادمة من الجزائر خطراً على الاقتصاد التونسي لعدم انخراطها في الدورة الاقتصادية بالشكل الكافي ومزاحمتها للسلع المحلية والتجار التونسيين. فتوجه التونسيين للاعتماد على السوق الجزائرية من خلال سياحة التسوق أو التهريب، يعني انتهاء السوق التونسية التي ستنقاد إلى الركود والكساد اللذين يهددان التجار والمحالّ. هذا الموقف التونسي يُترجم من خلال شدة الإجراءات الديوانية المفروضة، إذ يمنع إدخال السلع إلا بكميات محدودة جداً لا تتجاوز الاستهلاك الشخصي، في حين تفرض عقوبات تتوزع بين الغرامات المالية وحجز البضاعة إذا ما ثبتت نية التجارة. أما ظروف وإجراءات العبور بالبوابات التونسية فيصفها أيمن المحرزي بأنها نقطة سوداء حقيقة في وجه تونس. يقول: "مدة الانتظار تصل إلى 6 ساعات، وفي بعض الأحيان ليلة كاملة. والغريب أن في بوابة مهمة مثل أم الطبول تغيب دورة المياه رغم أنها بوابة سياحية". حالة التضييق هذه تدفع التونسيين، حسب علي عبد الواحد، إلى لجوء كثيرين للرشوة للحفاظ على سلعهم. يقول ميشال فوكو: "لقد جُعل القانون لمراوغة القانون ذاته"، وهو ما ينطبق على الحالة التونسية الراهنة اذ تسعى الدولة للانتفاع أكثر فأكثر من مواطنيها من خلال إجراءات الترفيع في الضرائب على المنتوجات والسلع. علماً أن كل شيء يتم بموجب قانون المالية لسنة 2018، فيما يسعى المواطن للاحتيال على هذا القانون عبر الاعتماد على الاستهلاك من السوق الجزائرية من خلال ممارسة سياحة التسوق التي قد تتحول في بعض الأحيان إلى عبور يومي للتزود لا يجرمه القانون.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...