يبدو كتاب "الزبور" أو "المزامير"، مفعماً بالغرابة والعجائبية، فهو من ناحية كتاب تعاليم مقدسة ومن ناحية أخرى، متن للغنائيات والمعازف، فكل نصوصه أناشيد تؤدّى بمصاحبة آلات الموسيقى الهوائية والوترية.
ومكمن الغرابة يتجلى في عدة أوجه يلخصها تصنيف اليهود للمزامير ضمن "الكتابات العظيمة"، مما يجعلها تتجاوز توصيف الترانيم أو القصائد الشعرية الدينية.
هذا القول المشكل يشمل "التلمود" والنصوص "القبالية" وسفر "نشيد الإنشاد" التوراتي المغرق في الحب الحسّي والغزل الصريح.
ولكأن التصوف العقلي في اليهودية من خلال ذلك يغامر بعيداً في حقول شاسعة لحماية طوائفه الدينية بل يحاول حتى تخطي أسيجته وإمتاع أعدائه وإرباكهم حيثما وجدوا باعتماد سحر البيان والقوة أو خصلتي "الملك والحكمة".
المزامير: طابع احتفالي، وتأريخ لفصول قاسية من "درب الآلام"
ورغم طابعها الاحتفالي المبهج، تلخص "المزامير" فصولاً قاسية وعنيفة من درب الآلام لدى الشعوب العبرانية والمسيحية، ودليل ذلك حجم التوسل والتضرع لله قصد نيل الصفح عن الخطايا والرحمة والمغفرة. ولئن كان هذا الكتاب في الظاهر خطاب موجه أساساً إلى أصحاب النظرية الايمانية إلا أنه مع ذلك يعني عامة القراء والعصاة واللادينيين وحتى الهراطقة فلا مانع لهم من أن يلتمسوا في متونه فائدة تذكر. والميزات المتعددة للزبور جعلته يكون مقصداً في كل الأزمان للشرح والتحليل والاقتباس وحتى للترجمة وذلك ما فعله الكاتب والشاعر التونسي منصف الوهايبي. ومنذ غلاف كتابه الجديد الصادر عن "دار آفاق برسبكتيف"، يعلن الوهايبي لقرائه أنه بصدد "تخريج وصياغة شعرية". فما الذي يعنيه المنصف الوهايبي بالتخريج والصياغة؟ وأي فائدة من تحويل المزامير إلى الشعر في هذا الزمن بالذات؟"مرنّم إسرائيل الحلو"
لا بدّ من الإشارة في البداية إلى بعض الالتباسات التي تطرحها المزامير لصحابها "مرنّم إسرائيل الحلو"، فهي تنسب في معظمها إلى النبي داود بينما الجزء القليل من نصوصها ترجع إلى موسى وهامان وآساف وسليمان وغيرهم. ولكن اسم داود يعني الكثير في الفكر اليهودي فهو الفتى الوسيم الحسن الصوت، الذي تسبّح معه الجبال والطير وهو أساساً المحارب القوي قاتل جالوت، الذي ألان الله له الحديد. وداود هو الملك الثاني في سلالة المحاربين اليهود وباني الهيكل الثاني ومخضع الممالك المجاورة. كما أن المزامير متعددة القراءات وليست مرجعاً واحداً متفقٌ عليه، حيث تداخل النصوص المغذية والداعمة للخطاب الديني فيها. ويشير علماء الآثار والباحثين إلى تأثّر المزامير بالفكر التوحيدي الأخناتوني وحتى تعاليم أمنؤوبي المصري، إضافة إلى أن بعض قساوسة المسيحيّة الشرقيّة والروم الكاثوليك والأرثوذوكس اليونانيين وغيرهم قد طبعوا المزامير بذائقتهم وتغنوا به في كنائسهم بالمزامير والآلات الوترية. وهناك اكتشافات أثرية مذهلة شهدها هذا النص الديني، ولعل أهمها مخطوط تل العمارنة ومخطوط منطقة المضلّ ببني سويف. وتظهر مخطوطة بني سويف الكاملة التشابه العجيب بين فاتحة المزامير ومقدمة "النشيد الكبير" لأخاناتون الذي يلحّ على الفكر التوحيدي المبكر باعتماد رمز قرص الشمس آتون أو مفهوم "القوى الخفيَة الواهبة للحياة والحركة". وقد بيّن أستاذ الأديان المقارنة في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، أحمد حجازي السقا، أهمية حماية كتاب المزامير (151 مزموراً) من التحريف، مطلقاً عليه تسمية "كتاب دلال الدلال ودلال المزامير بكامل الأسرار". هنا مثال من المزامير كما أعاد صياغتها الوهايبي: 1 مِنْ كُلِّ كِيَانِي أُسَبِّحُ اللهَ اللهُمَّ يَا رَبِّي مَا أَعْظَمَكَ يا مَنْ تَحَلَّيْتَ بِالمَجْدِ وَالجَلالِ 2 لِبَاسُكَ النُّورُ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ يَا مَنْ تَتَوَارَى وَرَاءَ حِجَابٍ 3 أَنْتَ الذي شَيَّدْتَ عَلالِيكَ فَوْقَ المِياهِ أَنْتَ الذي جَعَلْتَ السَّحَابَ لَكَ رِكَابًا أَنْتَ الذي سِرْتَ بِأَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ 4 أَنْتَ الذي اتَّخَذْتَ مِنَ الرِّيَاحِ رُسُلاً وَأَلْسِنَةَ النِّيرانِ خُدّامًا 5 أنتَ الذي جَعَلْتَ لِلأرْضِ قَوَاعِدَ فَلا تتَزَعْزَعُ أبدًا 6 أنتَ الذي كَسَوْتَ الأَرْضَ بِالغَمْرِ لِباسًا فَبَلَغَ مَدَاهُ حَدَّ الجِبَالِ 7 لَقَدِ ابْتَعَدَ المَاءُ مِنْ زَجْرِكَ وَفَرَّ مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ 8 وَغَطَّتِ الجِبَالُ وَغَاضَتِ الوِهَادُ وَاسْتَقَرَّ جَمِيعُهُ أَيّانَ شِئْتَ وَأَرَدْتَمكامن المعرفة الحسية
يكتفي منصف الوهايبي في ترجمته الشعرية للمزامير بخمسين مزموراً (منتقية غير مرتبة)، مبيّناً أن عمله "كان بطلب من أصدقاء عرب وأجانب يرون أن الترجمات العربية لهذا النص نثرية في أغلبها؛ فيما هو شعر بالأساس". ويضيف لرصيف22: "ومن ثمة اقترح عليه هؤلاء الأصدقاء الناصحين أن يتدبر هذا النص شعرياً أي أن يجعله أقرب ما يكون الى قصيدة النثر". يقول الوهايبي، وهو رئيس كرسي الأدب التونسي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بسوسة وعضو المجمع التونسي بيت الحكمة، أنّ تخريجه للمزامير وصياغتها شعرياً، قد تمّ "بالعودة إلى أقدم نسخة عربية للمزامير وهي للمستعرب الأندلسي المسيحي حفص القوطي". ويضيف بأنه "عاد إلى النص القرآني والحديث النبوي، لما لمسه من صلات ووشائج قربى بين المزامير والنص الديني الاسلامي؛ وبخاصة في المواضع المعقودة على الانفعال والوجدان أو ما نسميه المعرفة الحدسية حيث تعلو الشعرية، أو ما يسميه علماء الإعجاز الصنعة اللطيفة في نظم الكلام".هل تسترد صياغة المزاميرا شعرياً باللغة العربية أنبياء سورية الذين عزلتهم عنها القراءة الصهوينية بجعلهم أنبياء قوميّةٍ وهمية؟
حركة الترجمة والنقل تعد عامل تخصيب للغة العربية وثراء لها، فماذا عن النقل من العربية إلى العربية بصيغ جديدة؟وقد أشارت لجنة تحرير "النسخة التونسية" من المزامير في مقدمة الكتاب الذي اشتغل عليه الوهايبي طيلة ثلاث سنوات، إلى مفاصل عنيفة في المزامير، على غرار المزمور 18 مثل عبارة "أفني الذين يبغضوني" أو "الله ينتقم لي ويخضع الشعوب تحت سلطاني". وقد تولى منصف الوهايبي تحقيق النصوص ومقارنتها ببعضها ليثبت أن الفقرات الدالة على العنف نجدها محذوفة في بعض الطبعات. ولمّح الوهايبي إلى أن "دوافع الانتقام الموجودة في بعض المزامير لابدّ من قراءتها على الطريقة الصوفية، التي تعترف أن المؤمن لا يخلو قلبه من بعض النزعات الشريرة التي لا تنسجم مع عشق الله". وتلوح علامات استبعاد طابع العنف المؤسس منذ المزمور الأول في قوله: "ألا لا يقرّ عينا، ذاك الذي لا يسترشد بنصائح الأثمة الذي لا يسلك طريق الخطائين ولا يجالس المستهزئين". وقد تغيب الغنائية والموسيقى ليكون الخطاب في مفاصل أخرى من المزامير مغرقاً في النفس الصوفي ونجده مسنداً إلى قوى الوحي والغيبيات كما في المزمور 110: "أوحى الله إلى مولاي: اجلس عن يميني فأقهرن أعدائك وأجعلنهم تحت قدميك صاغرين".
استعادة الحكمة القديمة
يبدو منصف الوهايبي في "تخريجه الشعري" للمزامير أقرب إلى نمط "الأدب المستعرب" في نسخته الإسبانية الموريسكية، بما أنه انطلق من ترجمة العلامة حفص القوطي (قاضي أندلسي) للمزامير. وهذا القاضي الأندلسي كان بدوره شديد الاطلاع على طريقة إنشاد قدماء العرب من المسيحيين وقد أداها حفص القوطي على بحر الرجز في 5500 شطر. وتستند شعريّة المزامير إلى تكثيف الاستعارات ورصف المجازات والتشابيه والكنايات لإظهار رمزية الألوهية في الإنسانّ ذلك الإنسان الضعيف الذي يتوسل باللغة بوصفها أداة التعبير والإبداع، ليداري خوفه في الكون ويسبر غموض مصيره الوجودي. ويقول الشاعر التونسي يوسف خديم الله، في لقائه مع رصيف22، أن توجّه منصف الوهايبي في تخريج المزامير شعرياً، "ربّما يرد في سياق تنسيب المقدس الديني المندسّ في الإسلام السياسي الرّاهن الذي ذهب بالبنى الذهنية والنفسية لأهله مذاهب بائسة، وذلك بردّه إلى نصوص مقدّسة أخرى تستعيد ألق الحكمة ورخاء البصيرة، كما هو الحال للنصوص ما قبل القرآن". ويرى يوسف خديم الله أن العودة لهذا النص القديم "رجع صدى متأخّر لتجربة الشاعر منصف الوهايبي شبه الصوفيّة والمكبوته في آنٍ، التي استلهمها في ثمانينات القرن الماضي. هو صدى أقربُ إلى الحيلة النّفسية، اللاّواعية لمقاومة خطرين متظافرين: خطر النّهايات، بحكم قدَر الجسد المتناهي، في خريفه. وخطر "الحُبسة الأدبيّة"، المحايث، والتي تتهدّد كتّابنا العرب الذين غالباً ما تجفّ لهم القرائح تحت ضعط رُهاب الشيخوخة، بالمقارنة مع الكتّاب في الغرب الذين "ينزفون" كتباً، بفتوّة غريبة، وهم في التّسعين أيضا".عمل يقاوم تأريخاً إقصائياً، ولكن هل فيه عناصر "هدّامة"؟
يرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس عادل بلكحلة، أن صدور عمل شعري "ينقل نصّا أصله عربي- آرامي إلى العربية- المُضَريّة أمرٌ محمود بوجه ما. فداود حكيمٌ سوريّ، جمع بين الحكمة والشعرية والرئاسة. واللغة العربية في حاجة إلى هذا في زمن نعْدِم فيه السياسيَّ الحكيم، ذا الرؤية، المثقف الملتزم بقضايا شعبه. وفي حاجة إليه لنساعِد المنتمين إلى سوريا الكبرى (جمهورية سوريا، جمهورية لبنان، فلسطين والأردن) على بناء هوية جامعة، بعيداً عن القطريات الضيقة، وبعيداً عن القراءة الصهيونية التي نجحت في عزل داود عن الثقافة السورية، وجعلت أنبياء سوريا أنبياء قوميّةٍ وهمية، لا وجود لها". ويردف عادل بلكحلة قائلاً عن أهمية ترجم المزامير: "منذ قرون، لا نجد كنيسة سورية جامعة، رغم أن الكنيسة الفلسطينية- السورية أمُّ كل الكنائس في العالم، إذ وصلت الفضيحة إلى حد أننا نجد اسم رجل الدين الفلسطيني اسما يونانيًاً لا إسماً آراميًاً- عربيًاً، بل أن نجد أوقاف الكنيسة الفلسطينية أوقافاً يونانية تُباعُ إلى الصّهاينة". ويضيف: "وإذا كان هذا النقل (ولا أقول "ترجمة" لأنه من لغة عربية إلى لغة عربية أخرى) ضمن هذ السياق الالتزامي- المقاوَميّ، فأنا معه على طول الخط". إن حركة الترجمة والنقل تعد عامل تخصيب للغة العربية وثراء لها، لكنه تكاد لا يخلو أي عمل ترجميّ من مزالق وتسريبات لفعل هدام سببه ضعف عملية الترجمة في حد ذاتها أو عائد إلى مكر لغة الانطلاق والثقافة "المفخخة" للآخر. ويزداد الحذر في أيامنا الراهنة من سعي لغة غازية إلى نشر ذهنية التفوق والاستعلاء فيما هي تحاول فك عزلتها وإسباغ الشرعية عن انتهاكها للأرض وفك عزلتها وتبرير عنفها ضد أبناء الأرض. ويمكن معاينة تلك المحاولات المتكررة من قبل الكيان الصهيوني لتغطية جرائمه تجاه الشعب الفلسطيني من خلال بث تسويغات لعنفه بعيداً عن النشاطات السياسية والحربية وذلك من خلال حقول الثقافة والفنون والإبداع. كما أن تسريبات التطبيع تكون عادة ألطف في مجال الفنون والسينما والفكر وتتم عادة عبر ترجمة النصوص القديمة أو حركة تبادل وفود الجامعات تحت غطاء جنسيات غير إسرائيلية إمعاناً في التلبيس وتفادياً للعمل المفضوح وللشبهة الموصوفة. أما الخطر المستطير فهو تسريب أدبيات مسمومة في خضم التثاقف والتواشج العلمي الرصين إن لم يكن عملاً مشبوها يتخفى بالركوب على مطية الفكر الصوفي لكن "بعباءة يهودية". كما لا بد من الإشارة إلى أن إصدار كتاب "المزامير العشق الإلهي" لم يلحق بتقديم علني للإعلاميين فيما نعلم، بينما صدرت مراجعة يتيمة له وبقلم مترجمه في صحيفة عربية بالمهجر الأوروبي. وقد تكون يقظة المترجم وعملية "التخريج"، ضمانة للتخلص من شرك أي تسريب بإنجازه ترجمة دقيقة تعرّي النصوص وتفك ملغزاتها. ويبدو أنه كان لابد من "مناورة معرفية" أو "عملية استباقية" حتى لا تحصل الغفلة عن تعاليم "مرنّم إسرائيل الحلو" ويبقى الفكر النقدي يمرح خارج "زريبة الطاعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع